مجلة الرسالة/العدد 700/صحائف مطبوعة:

مجلة الرسالة/العدد 700/صحائف مطبوعة:

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1946



عمر بن الخطاب الأديب

للشيخ محمد رجب البيومي

أنصف المؤرخون عمر بن الخطاب رضي الله عنه كخليفة عظيم، فكتبوا عنه الأسفار المتنوعة التي تبرز سياسته الفذة في حل المعضلات وتوجيه الأمور، ولكننا لا نجد فصلاً واحداً منها تعرض إلى ما كان له رضي الله عنه من ذوق سليم في نقد الشعر وقدم راسخة في تفهم مراميه، مما انتثر في كتب الأدب عقده، دون أن يظفر بمن يجمع نظامه في سلك خاص. وهكذا نجد كثيراً من عظماء التاريخ قد تعددت مواهبهم، وتشعبت نواحي عبقريتهم فكتب المؤرخون عن أبرز ناحية في شمائلهم، تاركين ماعداها في ذمة النسيان والخمول!

والحق أن عمر رضي الله عنه كان واسع المحفوظ من جيد الكلام، حتى قال محمد بن سلام الجمحي: (ما عرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر) ورجل يملك هذه الثروة الواسعة من القوافي، لابد أن يكون ذا ولوع بالمعاني الجيدة، والأساليب الرائعة، فهو ينظر فيما يسمعه نظرة الباحث الناقد، ثم يحفظ ما يروقه ويعجبه، مستشهداً به في موضعه، مثنياً على صاحبه بما يستحق من تقدير.

ولقد كان يقول (أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل فؤاد اللئيم) ويقول أيضاً (الشعر جذل من كلام العرب تسكن به ثائرتهم، ويطفأ غيظهم ويبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل) وفي هذا ما يكشف لنا عن غرامه بالشعر والشعراء. . . وإذا كانت الطيور لا تقع إلا على أشكالها، فإن أبا حفص قد تفرس في أصحابه فوجد عبد الله بن عباس يروي القصائد الجيدة وينتقد ما يعرض له من أبيات فقربه واجتباه، وكثيراً ما اختلى به الساعات الطويلة يتناشدان ويتطارحان، قال ابن عباس (خرجنا مع ابن الخطاب في سفر فقال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي، وكان لي محباً ومقرباً، حتى كان كثير من الناس ينفسون على مكانتي منه فزاملته فأخذ ينشد:

وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمّد

ثم قال: يا ابن عباس، ألا تنشدني لشاعر الشعراء؟ قلت ومن شاعر الشعراء؟ قال زهير، فقلت لم صيرته كذلك؟ قال: (لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع الوحشي، ولا يمدح أحداً بغير ما هو فيه) فعمر يفضل زهيراً على من عداه، مبيناً أوجه التفضيل، وهذه سنة حميدة في النقد. فلقد كان من قبل عمر من الرواة، إذا نقدوا شعراً قالوا إنه برود يمنيّة تطوى وتنشر، أو قالوا إنه سمط الدهر، أو قالوا إنه مزاد لا يقطر منه شيء إلى آخر هذه التشبيهات المجملة التي لا تفصل حكماً ولا تعلل رأياً، فجاء عمر في نقده بالتفصيل الواضح، والتعليل المقبول.

وليس من الغريب أن يخالف الفاروق ما أجمع عليه كثير من أئمة النقد في الأدب، فيفضل زهيراً على امرئ القيس، لأن عمرذوّاقة، يسبر الشعر بعقله فلا يعجبه منه إلا ما جاء متمشياً مع المنطق السليم، فكان نبيل الغرض، رائع الحكمة، وزهير حكيم فذ يزن الأشياء بميزانها الدقيق، فلا يفحش في غزله، ولا يتعابث في تصابيه، بل يسوق الحكمة تلو الحكمة رائعة ساطعة. تجذب إليها كل مفكر حصيف. أما امرؤ القيس فمن المحال أن يرضى عنه عمر، وجل شعره في مغازلة الحسان، ومعاقرة الخمور، والاسترسال مع الصبوة إلى أبعد شوط، وهذه أغراض لا يهش لها الحكماء من قادة الرأي وأساطين الفكر كعمر بن الخطاب.

سمع رضي الله عنه مرة قول زهير:

فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء

فأخذ يحرك رأسه في عجب ويقول في تبسم: (إنما أراد أن يبين أن مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو دية كما جاء به الإسلام

ولقد كان النابغة الذبياني يلي زهيراً في المنزلة لدى الفاروق لأن زياداً أقرب إلى زهير منه إلى امرئ القيس، فقد كان متئد التفكير، شريف الغرض؛ وإعجاب عمر به يرجع إلى ما سمعه من أبياته التي تتحد مع أبيات زهير في المنطق والسداد (لقي عمر ابن الخطاب وفد غطفان فقال: أي شعرائكم الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب

فقالوا النابغة. فقال من القائل:

فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتآى عنك واسع فقالوا النابغة. فقال من القائل:

أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على وجل تظن بي الظنون

فقالوا النابغة. قال ذلك أشعر شعرائكم).

وإذن فزهير عندَه شاعر الشعراء، أما النابغة فهو شاعر غطفان!

وطبيعي أن يكون عمر مع هذا النظر الثاقب في الشعر قادراً على أن يلعب به كيف يشاء، ويوجهه حيث يريد شأن الذين يتبحرون في مادة من المواد فلا يكتفون بسردها على الوجه المعروف، بل يذهبون في تأويلها إلى مدى بعيد، لا يقدر على تفهمه واستنباطه غير من فهمها فهماً دقيقاً، فقد يأتي إليه البيت وهو صريح الدلالة على معنى خاص، فيستخرج أبو حفص منه معنى آخر كما يبين مما يلي:

كان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم النجاشي فضجروا وسبوا به، واستعدوا عليه عمر، فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا أبشع هجاء، فقال: ماذا قال؟ فأنشدوه:

إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني العجلان رهط بن مقبل

فقال عمر: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا إنه قال:

قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل

فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، قالوا فإنه قال:

ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا ورد الوارد آخر منهل

فقال عمر: وما في ذلك، هذا أقل للزحام، قالوا فإنه قال:

تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل

فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا فإنه قال:

وما سمى العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها البد واعجل

فقال عمر: كلنا عبد، وسيد القوم خادمهم).

فهذه أبيات كلها سب صريح ولكن عمر يتصرف فيها كما شاء له افتنانه، ولقد كان لا يخفى عليه - وهو الباقعة الألمعي - ما تتضمنه من هجو لاذع، ولكنه كان كما يقول صاحب العمدة: (يدرأ الحدود بالشبهات).

ولقد كان الفاروق على علم تام بشعراء عصره يستطلع أخبارهم ويستفسر عن أحوالهم، وربما ذكر له الشاعر فجعل يسأل عن كنيته ولقبه وأوصافه الجسمية والخلقية وكلأنه يريد أن يفهم شعره على ضوء حياته، قام مرة يصلي الصبح فوجد رجلاً قصير القامة أعور متنكباً قوساً، وبيده هراوة، فقال له: أنت متمم ابن نويرة؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: هكذا وصفت لي، فأنشدني مراثيك في مالك أخيك فأخذ ينشده حتى وصل إلى قوله:

وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا ... على طول وصل لم نبت ليلة معاً

فقال: عمر والله هذا هو التأبين، ولو وددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك، فقال متمم: لو أن أخي يا أمير المؤمنين مات على ما مات عليه أخوك من الإيمان ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم)

ونحن لو فتشنا جميع مراثي متمم هذا، ما وجدنا أحسن من البيتين اللذين وقف عندهما الفاروق، وفي ذلك الدليل القوي على سلامة ذوقه، ودقة شعوره بمعاني الكلام. ولقد جاء بعد عمر من هام بهذين البيتين من أئمة الأدب فكتبهما على قبر أخيه

على أن أبا حفص كان ينفعل انفعالاً شديداً يظهر أثره في وجهه حين يسمع شعراً يقال في مناوأة الدعوة المحمدية فقد أسكت من أنشده شعر أمية بن الصلت في رثاء قتلى بدر، وكأنه يربأ بالشعر أن ينحط إلى درجة تجعله يحيد عن الحق ويميل إلى الباطل. ولطالما توعد من يقول شعراً في هذا الموضوع البغيض، حتى إن كراهته لأعداء الرسالة من الشعراء ظلت كامنة في قلبه برغم إسلامهم بعد ذلك، فقد كان أبو شجرة بن الخنساء شاعراً مثلها وقد لحق بأهل الردة وأخذ يقول الشعر في تحريضهم على أصحاب محمد وكان مما قاله:

فروّيت رُمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا

ولما أخفق في تحريضه ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع إليه صاغراً، وقبل منه ذلك أبو بكر، وعفا عنه فيمن عفا عنهم. فلما كانت خلافة عمر، قال: يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة. فقال عمر: من أنت؟ فلما عرفه صاح: أي عدو الله! ألست القائل:

فروّيت رُمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا

ثم جعل يعلوه على رأسه، فطار عدواً إلى ناقته، وارتحل عائداً إلى قومه من بني سليم، وعمر يكرر البيت في تهكم واستهزاء.

ولقد كان برغم صرامته في الحق يعطف على الشعراء الجيدين. وقصة النجاشي السابقة تؤكد لنا هذا المعنى أبلغ تأكيد، وحسبك أن الحطيئة كان يلقى منه - على سلاطة لسانه وقبح هجوه - كل تسامح محمود، فقد حبسه عمر رضي الله عنه حين هجا الزبرقان بن بدر فنظم عدة أبيات عاطفية يستميل بها قلبه ومنها:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر

فرق له عمر، وأطلقه من سجنه ومنحه دراهم كثيرة على ألا يتعرض لهجو المسلمين.

ولقد شاع في الناس حبه للشعر وتأثره به أيما تأثر فعمد كثير من أصحاب الحاجات إلى عرض مطالبهم عليه في أسلوب شعري فكان يردهم أحسن رد، قال عثمان ابن أبي العاص: كنت عند عمر فأتاه شيخ كبير يسمى أمية بن حرثان فأنشده:

لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله لو قبل الكتابا

أناديه فيعرض في إباء ... فلا وأبى كلاب ما أصابا

فإنك وابتغاء الأجر بعدى ... كباغي الماء يتبع السرابا

تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك لا تطيق لها شرابا

إذا غنت حمامة بطن وج ... على بيضاتها ذكرت كلابا

فقال عمر: مم ذاك يا أخا العرب؟ فقال: هاجر كلاب إلى الشام في جيش الحرب، وترك أبوين كبيرين ولا من عائل لهما: فبكى عمر حتى ما نتبين كلامه ثم كتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يرحله، فقدم عليه، فقال عمر: بر أبويك إلى أن يموتا؟

وكان لا يطوف في شارع أو زقاق ويسمع شعراً ينشد إلا وقف يتسمعه حتى ينقطع الصوت، وله في ذلك غرائب عجيبة، سمع أعرابية تنشد:

فمنهن من تسقى بعذب مبرد ... نقاخ فتلكم عند ذلك قرت

ومنهن من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرت

فعلم ما تريد، وبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم أو جارية من الفيء، على أن يطلق زوجته، فاختار الدراهم وطلقها، وهذان البيتان لا يدرك مرماهما غير من له بصيرة عمر وذكاؤه، ولو سمعهما غيره لظنهما شعراً ينشد وكفى ولكن عمر الدقيق يصل إلى المراد بألمعيته المتوقدة.

وطاف ذات ليلة ببعض خيام المدينة فسمع أعرابية تنشد:

تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزلزل من هذا السرير جوانبه

وبت ألاهي غير بدع معلن ... لطيف الحشا لا يجتويه مصاحبه

يلاعبني طوراً وطوراً كأنما ... بدا قمر في ظلمة الليل حاجبه

يسر به من كان يلهو بقربه ... يعاتبني في حبه وأعاتبه

فسأل عنها فقيل إن زوجها غائب في جيش القتال من عام، فذهب إلى زوجته وسألها كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: مائة وعشرين ليلة، فأمر أن يمكث المتزوج أربعة أشهر ويستبدل به غيره. ولو أردنا أن نستقصي ما ورد عن عمر من هذا القبيل لطال بنا حبل الكلام.

على أن ذوق الأديب يظهر واضحاً في قوله، وكذلك ذوق عمر، فقد كانت عبارته ممتعة، ورده بارعاً، مر يوم بمنزل أنيق فقال: لمن هذا؟ فقيل لعاملك فلان، فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. وتنازع عبد الله وعاصم أبناه، فسألاه أيهما أفضل من أخيه، فقال أنتما كحماري العبادى، قيل له أي حماريك شر؟ فقال هذا ثم هذا! وقال: الكوفة جمجمة العرب، وكنز الأمصار، ورمح الله في الأرض) وكتب الأدب مملوءة بلآلئ عمر الفريدة فليقتنصها من شاء.

رحم الله الفاروق، فلقد كان فذاً في سياسته، فذاً في أخلاقه، فذاً في أدبه ونقده، ولله ما أصدق الحطيئة حين قال فيه:

ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الإثر

محمد رجب البيومي