مجلة الرسالة/العدد 701/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 701/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1946



ملتن. . .

للأستاذ محمود الخفيف

- 34 -

الفردوس المفقود: موضوع القصيدة الكبرى: -

في سنة 1658 اخذ ملتن كما أسلفنا يتوفر على نظم قصيدته الكبرى، ومن ثم تعد هذه السنة بدء هذا العمل العظيم وإن كانت أجزاء قليلة من القصيدة قد نظمت قبل ذلك كما يقول أبن أخته إدوارد فيلبس، ولم تنته سنة 1863 حتى فرغ الشاعر الضرير كما يقول إدوارد كذلك من هذه القصيدة العظيمة التي تبلغ زهاء خمسة آلاف وخمسمائة سطر، والتي تستغرق نيفا وثلاثمائة صفحة متوسطة الحجم، والتي تعد من اعظم الآثار الأدبية في أدب الدنيا قديمه وحديثه، والتي يتبوأ بها ملتن مكانة بين أفذاذ شعراء الملاحم الثلاثة: هوميروس ودانتي وفرجيل إن لم يبرعهم جميعا في أكثر من ناحية من القول كما يذكر كثير من النقدة الملحوظي المكانة في نقد أرادب والشعر.

ويمكن تلخيص موضوع القصيدة في كلمات قليلة؛ فهي قصة إبليس بعد أن فسق عن أمر ربه، فقد تمرد هذا الشيطان الأكبر ومن اتبعه من الغاوين واجترأ على محاربة خالقه فأخذهم الله أخذاً قوياً فإذا بهم جميعا في جهنم جثيا؛ ثم خلقت جنات عدن وخلق آدم وحواء ودلهما الله على الشجرة المحرمة ونهاهما ربهما أن يقربا هذه الشجرة، فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها وعصيا ربهما فأخرجهما من الجنة.

وحق للمرء أن يعجب كيف يخلق الشاعر من هذه القصة على بساطتها قصيدة بلغت هذا الذي بلغته من الطول، وما فيها منظر أو فكرة مما يصح حذفه، ثم ما فيها موضع تطرق إليه شيء من الضعف أو شيء مما يبعث السأم في نفس القارئ، بل إنها جميعا تبلغ من السمو والقوة مدى يتخاذل دونه جهد المبدعين ويتقاصر عنه افتتان المفتنين فما يقع المرء فيها إلا على ما يعجب ويطرب وما يشيع في النفس نشوة روحية قوية تشعرها بسر العبقرية وسلطانها وتذرها مسحورة مأخوذة حتى ينقضي هذا الحلم الجميل.

ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا ذكر المرء مبلغ ما أوتى الشاعر من خصوبة الخيال وقوته، وما رزق من دقة الوصف وروعته، وما وهب من قدرة على الابتكار والتفنن في خلق الصور الذهنية الأخاذة والتصرف في مذاهب البيان، هذا إلى ما يشيعه في قصته من فلسفة وعلم، وما يدخله بين الفنية والفنية من أساطير الإغريق وآلهتهم وسائر مخلوقاتهم مما يملأ قصيدته بألوان من السحر وأفانين من كل ما يفيد ويمتع.

والقصيدة ليست بنت هاتيك السنوات الخمس التي نظمها فيها، وإنما هي متجه خاليه وأرب نفسه منذ أول عهده بالشباب، فقد كان أمله الذي ملأ خياله منذ حداثته أن ينظم قصيدة تجعل له ولأمته مكانا عليا في أدب هذه الدنيا؛ والى ذلك أشار في قصيدته التي ناجى فيها لغة قومه وهو في سن التاسعة عشرة كما سلف أن ذكرنا ذلك في موضعه، وإن لم يك عين موضوع تلك القصيدة بعد.

ولم يتعجل ملتن النظم، بل اخذ يتهيأ لما يطمح إليه فينهل من المعرفة ما يسعه أن ينهل، وفي نفسه أمل يلازمه ولا يبرح يذكره أنه سوف ينظم في يوم ما ملحمة كبرى تسلكه في الخالدين النابهين من شعراء الدنيا، أما ماذا تدور عليه الملحمة فذلك أمر لم يتبينه وحسبه أن يطلب لنفسه ما وسعه من زاد في الفلسفة والعلم.

وكان يفكر كما ذكرنا قبل في الملك آرثر وعصره وبطولته وسيرته عله يستخرج من ذلك ملحمة قومية كان يريد أن يسميها الآثريادا، وتقع إشارتان منه إلى ذلك إحداهما في قصيدة أخرى نظمها عقب عودته إلى وطنه؛ ولكنه ما لبث أن طرح موضوع الملك آرثر جانبا ولم يعد إليه بعد ذلك.

وظل ملتن متعلقا بأمله في نظم قصيدة كبرى، وكان هذا التعلق المتصل بالأمل المنشود هو الفكرة المتسلطة في حياته كلها من جميع أقطارها ولذلك لم يأل جهدا في الإفادة مما حوله فكان انقطاعه للدراسة في هورتون، وكانت رحلته إلى إيطاليا وكان منصبه في الدولة وكانت كتاباته الدينية والسياسية، كل أولئك كان جوانب لدراسته وموارد لثقافته قصد إلى ذلك أم لم يقصد إليه.

وانقطعت صلته بالشعر زهاء عشرين عاما إلا ما كان من مقطوعاته، ولكن خيال القصيدة الكبرى لم يبارحه قط، وليس أدل من ذلك على شدة إيمانه بأنه خلق لرسالة في الشعر وعلى عظم إخلاصه لفنه، ولقد رأينا ما أحاط به من المحن والكوارث فلم يصرفه ذلك عما خصص له حياته، وإن واحدة منها لكفيلة بأن تقعد المرء عما يخف كثيرا عن ذلك الذي اضطلع به من عبء.

وربما كان خيرا له وللأدب أنه لم ينظم ملحمته الكبرى إلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره فلعلنا كنا لو نظمها في صدر شبابه لا نظفر منه بما ظفرنا به من آثار خبرته بالحياة والناس وطول باعه في البيان وضلاعته في المعرفة وانصقال فنه وما اكتسب شعره من فحولة وقوة. ولقد حال بينه وبين تحقيق أمله في شبابه ورغبته كما رأينا في الاستزادة من الثقافة استزادة تكافئ ما يطمع أن ينهض به من عمل ضخم في دنيا الفن، ثم حيرته في اختيار الموضوع الذي تدور حوله قصيدته، وجاءت بعد ذلك حربه على القساوسة ثم اشتغاله بالسياسة فأخرته على رغمه تلك السنوات الطويلة.

ولقد هم قبل تلك الشواغل سنة 1641 بالنهوض بما منته نفسه به، إذ أنه يتبين من قائمة كتبها الشاعر بين سنتي 1640، 1642 أنه فكر فيما يقرب من مائة موضوع، وكان ثلثا هاتيك الموضوعات مقتبسا من الإنجيل، وكان همه متجها إلى واحد من بينها سماه تارة (الفردوس المفقود) وتارة (آدم يخرج من الجنة) فقد وجد في هذه القائمة بيان أسماء شخصيات لدرامة يرسمها وبيان لما تكون عليه تلك الدراسة وقد وضع لذلك عدة صور لعله كان يفاضل بينها، ولا زالت تلك القائمة محفوظة كأثر من آثار الشاعر العظيم في مكتبة كلية ترينتي بجامعة كمبردج.

ويتبين من ذلك أم ملتن كان يومئذ يريد أن يلبس موضوعه لباس الدرامة لا الملحمة، ويؤيد هذا الرأي ما ذكره في هذا الصدد إدوارد فيلبس، وذلك أن الأسطر التي يخاطب بها الشيطان الشمس في أوائل الكتاب الرابع من الملحمة قد نظمت قبل بدء الشاعر في نظم الملحمة بنحو خمسة عشر أو ستة عشر عاما وأنها نظمت لتكون في مستهل عرض لمأساة.

ثم انصرف ملتن كما رأينا عن الشعر وانشغل عن أمنيته الكبرى حتى كانت سنة 1658 فتوفر على موضوعه، فلما أتمه كان ملحمة تضاف إلى الملاحم الكبرى في دب العالم وسميت الفردوس المفقود.

ونظمت الملحمة في ستة أقسام أو ستة كتب، ولقد أوجزنا موضوعها في أول هذا الفصل فلنبسط هنا بعض البسط، ولا نجد خيرا من أن نقص خلاصة هاتيك الكتب الستة التي تتألف منها القصة.

افتتح الشاعر الكتاب الأول بمناشدة إله الشعر أو الاهاته العون فيما هو بسبيله على عادة شعراء الملاحم عند بدء ملاحمهم، ثم يعرض الشاعر الموضوع كله فيذكر أول عصيان للإنسان وما يترتب عليه من إخراجه من الجنة حيث كان موطنه، ويشير إلى غواية الشيطان، ويذكر عصيانه وتمرده على خالقه واستطاعة ضم أكثر من قبيل من الملائكة إليه، حتى طرده الله من الجنة ومن اتبعه وألقى بهم في قرار من جهنم سحيق؛ ثم يصف الشاعر كيف كان هذا الهبوط من الجنة حتى يرينا الشيطان ومن معه في قرار الجحيم، في ظلمات بعضها فوق بعض؛ ويظل هؤلاء على وجوههم وعلى جنوبهم في هذا العماء زمنا يتقلبون في بحيرة هائلة تتلظى بالحمم واللهب وفي نفوسهم رهبة ودهشة مما أخذهم من صاعقة، ثم يفيق الشطان بعد لحظة من هذه الغاشية فينادي اقرب اتباعه من منزلة وأولهم بعده مكانة وهو يصلى النار الحامية إلى جواره ويتحاورون فيما أصابهم من هذا الهبوط؛ ويتكلم الشيطان الأكبر في الأباء والعناد والإصرار قائلا إنه لخير أن يحكم في النار من أن يخدم ويطيع في الجنة؛ ثم يدعو الشيطان اتباعه ولم يزالوا مكبين في النار على وجوههم فينهضون فيسوى صفوفهم ويعدهم للقتال ويختار من بينهم قادتهم وكبراءهم ثم يناديهم فيعدهم ويمنيهم باسترجاع مكانهم في الجنة وينبئهم بدنيا جديدة تخلق ونوع جديد من المخلوقات يدب فيها وكل أولئك يجيء وفق نبوءة أو نبأ ترامى إليه وهو في الجنة ولكي يعلم مبلغ ما تحقق من هذه النبوءة وماذا يكون موقفهم من هذه الدنيا يشير إلى مجلس ينتظمهم جميعا حيث ينظرون ماذا يفعلون! ثم يشير الشاعر إلى مأوى الشياطين أو قصر الشيطان الأكبر وقد استوى قائما منبعثا من أعماق العماء وهناك يجلس كبار شياطين الجحيم ليوافيهم اتباعهم ليتشاوروا فيما بينهم كما أراد كبير الشياطين أجمعين؛ وتتزاحم الشياطين على قصر رئيسهم وقد مدوا في اللهب اجتحتهم وملاؤا الجحيم حفيفا بهذه الأجنحة الممتدة، ثم يتساقطون جماعات جماعات حتى يضيق بهم القصر على سعته.

وفي الكتاب الثاني تبدأ المشاورة فيجلس الشيطان الأكبر على عرش هائل ويتحدث إلى اتباعه متسائلا هل هو خير لهم أن يشنوا معركة أخرى لاسترجاع الجنة التي اخرجوا منها ويدعو كل من يحسن الرأي أن يتكلم بما يرى.

ويتتابع عدد الشياطين كل يدلي برأيه ويبسط حجته، فكانوا فريقين، فريق رأيه الحرب وآخر يخشى عاقبتها ولا ينصح بها، والشيطان الأكبر يوازن بين حجج كل فريق ولكنه لا يقطع أمراً، حتى ينبعث صوت بمقترح مؤداه أن يدعو الحرب إلى أمر أخر هو النظر في مبلغ صحة تلك النبوءة أو الرواية التي علمت في الجنة على خلق دنيا جديدة، ونوع أخر من المخلوقات يساوي الملائكة منزلة أو هو لا ينزل كثيرا عن مستواهم وهذا هو وقت خلقهم، وتتجه أفئدة الجميع إلى هذا المقترح وسرعان ما يجتمعون عليه، ولكنهم يحارون منذا يذهب في تلك الرحلة العظيمة العسيرة فيستطلع لهم ما يريدون؛ ولا تطول حيرتهم فهذا كبيرهم يعلن أنه يذهب وحده فيأتيهم بنبأ يقين، ويمجده الشياطين شاكرين له هاتفين به؛ وينتفض عن شياطينه المجلس فيذهب كل إلى حيث يقضي الوقت ريثما يعود كبيرهم من رحلته

ويطير الشيطان الأكبر فيقطع في رحلته أرجاء الجحيم حتى يأتي أبوابها فاذ1 هي مغلقة وعلى كل باب ثلاث طبقات من الحديد وثلاث من النحاس وثلاث من الحجر الصلد، وتحرس هذه الأبواب أنماط من الحرس هي في أشكالها أليق ما تكون بحراسة أبواب الجحيم، لا هي من الجن ولا من الوحوش ولا من الأفاعي وإنما هي مزيج من هذا كله ركب بعضه في بعض، وهي أشباح للخوف والوباء والموت، ويزجر الخوف الشيطان ويأمره أن يعود إلى مكانه في النار، ولكنه لن يزال يطلب أن يفتح له باب حتى يفتح له الموت بابا فيلج منه إلى خارج الجحيم في عسر شديد، ويرى مدى ما بين الجنة وجهنم من أمد، وما يزال الشيطان يسبح بأجنحته في العماء في عناء وعسر حتى يصبح بمرأى من الدنيا الجديدة فتقع عليها عيناه.

(يتبع)

الخفيف