مجلة الرسالة/العدد 701/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 701/الكتب
كتب قرأتها:
يقظة العرب
تأليف المرحوم جورج أنطونيوس
ترجمة الأستاذ علي حيدر الركابي
بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي
يقول مؤلف هذا الكتاب المرحوم جورج أنطونيوس في مقدمته أنه (لا يرمي إلى تدوين التاريخ النهائي لليقظة العربية. . . بل إلى رسم الخطوط الكبرى لأصول تلك الحركة) هذه الحركة التي مهدت تربتها، وبذرت بذورها، ونبت نبتها، ونضج حبها، وتم حصدها في خلال نصف قرن، لا بأفاعيل طافرة، أو وثبات غير متزنات، بل بعزيمة جبارة، ومثابرة عنيدة، مستمدين من إرادة أمة موحدة لها في بطون التاريخ فصول كتابها أجداد عباقرة اسمعوا الدنيا نداءهم، ولقنوا العالم تعاليمهم، وما هؤلاء الأحفاد سوى جيل وبعض جيل من أبناء الشام أيقظتهم حركة الانقلاب العثماني عام 1908 فاستنهضتهم فنهضوا إلى العمل فعملوا دائبين ملبين غريزة الجد في طبيعتهم، وقد دفعوا كل ثمن وبذلوا كل ما يستطاع بذله، وجادوا بأقصى غايات الجود، ونالوا نصيب المجاهد المؤمن، وفازوا بتحقيق أمانيهم واستقلال بلادهم وحريتها ولم يكن ما قربوه من أرواح وأموال في سبيل الوطن بالثمن الفادح الباهظ
تكاد تكون سطور هذا الكتاب بأبوابها وفصولها ووقائعه بأحداثها وتقلباتها وعظاته بمغامرتها وأهوالها. أقول: تكاد تكون وقائعي (أنا) بالذات، وما أوفر عدد من يقول (أنا) في كتاب يقظة العرب، إذ ما من فتى في بلاد الشام سمع نداء الحرية يهدر كالسيل العرم متدفقا من حناجر الآباء للاستقلال والحرية إلا تيقظ روحه لهما وتلفح وعيه بجوهرهما، وسار على منوال أبيه في اتباع أعمال الرجال الرصناء لنيلهما، وقد ناليهما بفضل إخلاصه لوطنه وقوميته وفنائه في أمته.
مؤلف كتاب (يقظة العرب) عالم بحاثة بفطرته، لا يؤخذ بالظواهر فيعود إلى البواطن، ولا تجذبه الفروع في الشجرة، ولا الجذور المطمورة في التربة، بل يرضيه أن يفتش عن مصادر غذاء تلك الجذور وأنواعها ليعلم الدواعي الباعثة على تلك التغذية والغاية المرومة منها.
نعلم (كلنا) أبناء هذا الجيل أن العامل الأكبر في يقظتنا يعود كما قلت إلى عام 1908 وعندنا على هذا العلم شبه ادله استوحيناها من استقراء عقلية إبائنا ومن بلغ وعيهم القومي وإحساسهم بالوطنية العربية، ولكن المؤلف البحاثة قد عاد بنا إلى البذور الأولى، إلى الفواصل بين الدعوة إلى العروبة والدعوة إلى الإسلام والصلة الروحية بينهما، ثم إلى الفتح العثماني.
للحكم العثماني آثار واضحة المعالم في نفوس العرب، لم يكتف المؤلف بتقصيها في عهد السلطان عبد الحميد، وهي جامعة للأسباب الشاملة للنتائج التي قلبت الأوضاع العربية، من مطالبته بالإصلاح في ظل الحكم العثماني، إلى العمل سرا على الانفصال عن الترك، إلى العوامل التي دفعت بجماعة (الاتحاد والترقي) الذين خلعوا السلطان عبد الحميد الطاغية ليقيموا أنفسهم طغاة مثله، فكانت هي نفسها عوامل فعالة دفعت الأمة العربية إلى عمل إيجابي وهو بناء دولة عربية لحما ودما. أقول: لم يكتف المؤلف بهذا، بل عاد بنا القهقري إلى عهد محمد علي وفتح الشام على يده، وشروعه في تشييد مملكة عريقة، واختلاف ابنه إبراهيم معه في الرأي، لأن الأول كان في طبيعته خلاقا للممالك، بينما كان الثاني يعمل على الاحتفاظ بتلك الممالك، وإن الأول كان يرى أن العرب ليسوا أهلاً لحكم أنفسهم، بينما كان الثاني يعتقد عكس رأي أبيه، ولم ينس المؤلف موقف الإنجليز من محمد علي وصدهم إياه عن تأليف المملكة العربية، وقد خلص من هذا البيان المقتضب إلى ذكر تأليف جمعية أدبية في بيروت قبل مستهل هذا القرن، كان النصارى هم القائمين بها، فما لبثت أن دخلها المسلمون والدروز، ويقول إنها كانت البذرة الأولى لنهضة الفكر القومي ويسهب في وصف الإرساليات ونشرها المعارف، وتزاحم أقطابها وتنافسهم في تعليم أبناء البلاد علومهم، وكيف لم تكن تعاليمهم خيرا محضا، وكيف تولدت الطائفية عند أبناء البلاد من جراء هاتيك التعاليم المتضاربة والأسباب والغايات. يمضي المؤلف البارع في سبيله يتتبع سير الحوادث، وقد اطردت بانتظام حتى اتقدت نيران الحرب العالمية عام 1914 فيذكر مجيء الشريف عبد الله إلى مصر وتحدثه إلى كتشنر والعروض التي تقدمت للانتقاض على الحكم التركي ومخاوف الإنجليز من عواقب إعلان الترك للجهاد الديني وقيام هؤلاء فعلا بإعلانه، ونشر الراية المحمدية، ووقوف سورية على مفترق الطرق توازن بين الموقف إلى جانب الأتراك، وبين شد عضد الشريف حسين المتحفز للثورة.
يعرج المؤلف على ذكر العهود التي قطعتها بريطانيا العظمى للشريف حسين ورسائل مكماهون، فنرى الثورة العربية تعلن في مكة وتندلع نارها وتمتد حتى تدخل قواتها مدينة دمشق ويحتل رجالها البلاد السورية، ونقرأ في فصل الكتاب الثالث عهود الحلفاء المتناقضة ونرى مبلغ تكالبهم على اقتسام غنائم الدولة التركية وتنافسهم في اغتصاب البلاد العربية واتفاق سايكس بيكو ورسالة بلفور إلى الملك حسين ومفاوضات لويد جورج للصهيونيين ووعد بلفور لليهود، ثم التصريح البريطاني الفرنسي. ولعل أمتع ما في هذا الفصل خيانة بريطانيا للعهد ومؤتمر القاهرة وأعمال لورنس في سورية، ثم يأتي دور عقدة فلسطين، وحق العرب، وادعاء اليهود، وهي العقدة الباقية تنتظر الحل العادل.
وددت لو يتسع المجال فأقف برهة ليست بالقصيرة حيال بعض رسوم خطط هذا السفر الجليل أضم بعض حلقات مفقودة لهذه السلسلة المحكمة العقد، وازعم أن لو اتصل المرحوم جورج أنطونيوس مؤلف هذا الكتاب بالكثيرين ممن ألجأهم المرض، أو السن، أو الضرورات، إلى التخلف عن ركوب الجهاد، أو بالذين خلوا الطريق للمتقدمين الطامحين، أو النهازة المتفرصين، لكان استوفى أكثر بحوثه وشارف بها على الكمال
اضطلع بترجمة هذا السفر النفيس حضرة الأستاذ علي حيدر الركابي فحق له الشكر والثناء العاطر يسديه إليه كل عربي بعد إذ يسر لأبناء العربية مراجعة سجل حياتهم وقد سلكوا فيها مسالك بناة الملك.
أبو زيد الهلالي
تأليف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود لهذا الاسم بريق ولمعان، وماض مجيد، وحاضر خافت راكد، ولكن هذا الحاضر مع خفوته وركوده لم يذهب ببهاء هذا الاسم، ونضارته، وما له في نفوس العامة من أفراد الشعب من التجلة والاحترام. فيكاد يعرفه العامة أكثر مما يعرفه الخاصة - واعني بالمعرفة وفرة المعلومات وكثرتها، لا واقعيتها وحقيقتها - فهو متصل بنفوسهم وحياتهم اتصالا وثيقا. . . يسمعون عن بطولته في المقاهي والأندية الشعبية، ما يلهب حماستهم، ويشعل قلوبهم وأفئدتهم شجاعة وأقداما، ويقدم لهم لو أنا من الخيال الحبيب، يرضيهم ويطربهم، ولا يرتضون بغيره بديلا. .!!
وإذا كان من لوازم الأدب التأثير في النفس، فإن هذه القصة، بلغت درجة لم تبلغها قصة غيرها على كثرة ما كان ينشر ويذاع بين هذه الطبقات. . . إذ ظلت حديث المجتمع المصري ثمان قرون، وظل شاعر الربابة يحدث بها الناس من العهد الفاطمي إلى اليوم، بيد أن شعر القصة اليوم اصبح شبحا ماثلا ولونا حائلا يتلاشى صوته في ضجيج العصر، وجلجلة المذياع.
وليس من السهل تناول هذا الموضوع، فلا يزال حظ الهلالية في التاريخ قليل، وأدباؤنا لا يعنون العانية اللائقة بهذا القصص الشعبي، بل تركوه في أيدي الوراقين - من الذين لا يعنيهم إلا جمع القرش - يتناولونه بالتحريف والتصحيف. حتى اصبح من العسير الوصول إلى الحقائق الناصعة، والنتائج السليمة التي ترضي الباحث ويطمئن إليها الخاصة، ولا يرتابون فيما يقرءون. . . وويل للموضوع يفقد ثقة الخاصة، ولا ينال تقديرهم واحترامهم. . .!!
وبنو هلال وسليم من بطون مضر الكثيرة المتعددة، الذين كانوا يعيشون قبل الإسلام عيشة البداوة والخشونة. ثم دخلوا حظيرة الإسلام، وحملوا رايته، ورفعوا لواءه، أيام بني أمية في الشام، وبني العباس في العراق، ثم بني أمية في الأندلس.
ولأمر ما نزحوا من نجد، وجاءوا إلى مصر، فأسكنهم الخليفة الفاطمي صعيد مصر، بيد أنهم لم يستقم لهم أمر، فعاثوا في الأرض فسادا، واصبحوا خطرا على الدولة، فرمى بهم المستنصر ملك صنهاجة والقيروان المعز بن باديس، وذلك لانحرافه عن مذهب الشيعة إلى مذهب أهل السنة، وفي ذلك كتب اليازوري وزير المستنصر الفاطمي إلى المعز بن باديس يقول:
(أما بعد، فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وحملنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. . .)!!
وبذلك ضرب المستنصر عصفورين بحجر واحد، وهنا تتجلى بطولة هؤلاء الأعراب، وفروسيتهم التي عمل فيها الخيال الطليق، ما كاد يخرجها من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافات والأوهام. . .
ومهما يكن من شيء فقد تناول صديقي وزميلي الأستاذ محمد فهمي عبد الطيف هذا الموضوع في سلسلة (أقرأ)، وهو أديب ناقد، تخرج في مدرسة (الرسالة) الغراء، وكان له فيها جولات، وقد رزقه الله قلما يعرف كيف يصل به إلى نفوس القارئين. فلا عجب إذا لم المتفرق، وجمع الشتيت، جمع الناقد الفاحص، واتخذ من هذا كله مادته في هذا الموضوع، فخلق منه بحثا قيما مفيدا، يجدر بكل أديب أن يمتع نفسه به فترة من الزمن، ليجد ألواناً من الفكر المتزن. فيها جدة، وفيها جرأة، وفيها طرافة ولذة. . .
ولصديقي فهمي عذره في ترداد اسم ابن خلدون كثيرا، فهو يكاد يكون المؤرخ العربي الوحيد، الذي عنى بالكتابة عن الهلاليين، كتابه فيها مقنع إلى حد ما. . . وعسى أن تتاح الفرصة لصديقي فهمي، فيجلو بعض ما في الكتاب من غموض يسير، ويوضح بعض ما فيه من إجمال، اعتقد أن ضيق المقام، وتقيده بعدد من الصفحات هو الذي اضطره إلى ذلك. والكتاب بعد هذا تحفة أدبية لا غنى عنها لأديب.