مجلة الرسالة/العدد 702/احذري أيتها العرب

مجلة الرسالة/العدد 702/احذَري أَيَتُها العَرَب

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1946


للأستاذ محمود محمد شاكر

اليوم، لقدْ أحدَّ الجزَّار شفرته وشمّر عن ساعديه، وأقبل على الذبيحة يردُ أن ينحرَها نحراً فذاً، وهي راضية عنه له، مستسلمة بين يديه، مقرّةٌ له بأن ذَبْحها هو نجَاتها، وأن شفرته هي كما قال الراجزُ في دَلْوه: (قاتِلَتني وملؤُها حياتي)!!

وبالأمس - في سنة 1882 - وطئت إنجلترا أرضَ مصر لتدعم ما تزعزع من أركان عَرْشِها، كما زعمت وزعم لَها من لا يتورّع ولا يتحرّج، ومنذ ذلك اليومِ والسكّين ماضٍ في تمزيق أشلاء ذلك البَدَن أنحدَّر بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة، والذي كان يسمّى العلم والعربي والعلم الإسلاميّ. وما مضى إلاّ قليلٌ حتى طارَتْ أشلاء هذا البدن بدداً متفرقة مفَصَّلَة، ذهبتْ مصر وحدها، وذهب الشامُ وَحْدَه، وذهب العراق وحده، وذهبت مراكش وحدها، وذهبت طرابلُس وحدها، وذهبت تركيا وحدها، وقطعت عُنُق الخلافة، وقضى الأمرُ.

واليوم يوشِكُ أن يكون ما كان بالأمسِ ولكن على أسلوب آخر: أن تُحْشَد هذه المِزَقُ المقطعة حَشْداً جديداً لتساق إى يوم الحشر، لتساق مخَدَّرة بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة مَرْةً أخرى إلى الهُوّةِ المضطرمة التي لا تُبْقى على حيٍّ، إلى الحرب الثالثة.

هذه إنجلترا تريدُ مرّة أُخرَى أن تعود بحِيَلها ورجالها وأعوانها وصنائعها، وبمداورتها وسياستها، لتضرب الضربة الأولى كما ضربتْها في سنة 1882، وتخضع أعناق المصريين شاهدَهم وغائبَهم لأحكام معاهدةٍ عجيبة ظاهرها فيه الرحمة (أي الدفاع عن مصر والشرق) وباطنُها من قِبَله العذَاب (أي نكال الحرب الثالثة). ولن تفرغ منها - إذ قدّر الله أن تفرغَ، ولا قدّرَ - حتى تجملها وتدور بها على أمم العرب واحدةً بعد واحدةٍ، لتنال منها صَكاً مكتوباً، بالأسلوب الإنجليزي ولا ريب، يجعلها جميعاً في قبضة الأسد البريطاني ليوم الحَشرِ، فعندئذ تسوقهم جميعاً كعادتها إلى المجزرة الكبرى مُقدَّمين في الصفّ الأول ليكونوا قُرْباناً لجبّار الحروبِ، ووقاءً للدمِ الإنجليزي أن يُهَراق منه في حروب الإمبراطورية البريطانية إلاّ ما لا بُدَّ منه تَحِلةَ القسم وردَّ العين الحاسدة، كما حدث في الحرب الأولى وفي الحرب الثانية، حيث لم يُسْفَك من الدم الإنجليزي إلا الأقل، وجملَت العبءَ كله تلك الأنعام البشرية التي جُمِعَت من الأسود والأبيض، من بقاع أفريقية وأرجاءِ الهند ومن نَواحِي هذه الإمبراطورية التي لا تقبّل الشمسُ مواطئ أقدمها حيثما دارت في مَدَرها.

فاحذري أيتها العرب. . . احذري.

إن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية، أي هي الجشَعُ المحتالُ المخادعُ الذي يستَلُّ منك أعزَّ ما تحرصُ علَيه بالشدّ والإرخاء والترغيب والترهيب والظهور والاختفاء، حتى تنهارَ النفوسُ وتسكُنَ من جَهْدِ أو إعياء. انظري ماذا فعلت، أو ماذا كانت تريد أن تفعلَ بمصر. شهرٌ بعد شَهْرٍ بعد شَهْرٍ والدُّنيا كلُّها من حولنا تعج عجيجاً بالمفاوضة والمعاهدة وبالأخذ والردّ، وبالموافقة والمعارضة، وباللين والشدة، وبالسكينة والصخب، حتى دارت الرؤوس على أعناقها، وتحّيرت العيون في حَمَاليقها، وتشتَّت منارُ الهُدَى وخيفَ على صاحب الرأْي أن يزول عن رأْيه، وما زالت إنجلترا تمدُّ للطامعين مدّاً وهُمْ يسعَوْن وراءَ ألفاظها الخلاَّبة حتى أعيتهم، وكادت لهم كيداً شديداً حتى أطغَتْهم فطغوا، وأرادوا أن يضربوا علة عقول هذه الأمة وألسنتِها بالقهر والعنف والاستبدادِ حتى تدَعَ العقلَ واللسانَ، وتقبل منهم ما أرادوا هم أن يفرضوه علينا فرضاً.

ولكن يأبى الله أن يكونَ لهذا الكيد له قرارٌ، فهذه الفئة التي ظنَّت أنها سوف تخدعُ إنجلترا عن نيتها الملفَّقة في الألفاظ الكاذبة، قد جاءها البرهان الساطعُ القاطعُ، بأن هذه الدولة (المفاوِضة) تضع الألفاظَ على قدرِ ما تريدُ، لا على ما يريدُ مفوضها أن يفهم. فإذا خيَّلت له نفسُه أنه فاهمٌ من النصِّ ليقول لها ويبين عن فحوى ألفاظها أرسلت عليه شيئاً يردّه إلى صوابه. فبالأمس كان المفاوض المصريّ يزعم لمصر أنه جاءها (بوحدة وادي النيل)، وأن النص المعلق بالسودانِ كان خيراً كلّه، وأنّ وأنّ. . . فما أصبح الصباحُ حتى طلع عليه شيءٌ من أشياءِ بريطانيا يقول له: جاوزتَ حَدك فاستبْقِ، وأن بريطانيا لا ترضى هذا التفسير المصنوع من جانب واحد، وان السودان وديعة في اليد البريطانية، والودائع مستردَّة، والخيانة فيها تفريطٌ لا يليق بالشرف البريطاني! فنحنُ في السودان أمناءُ عليه، ولن ندعَه لِمصر العادية الباغية تفعل فيه ما تشاء كأنه جزءٌ منها!! بل لا بدَّ لنا من أن نبقى هناك حُرَّاساً حتى يبلغ السودان رشده بعد السنين التي يقتضيها بلوغه الرُّشْد! وعندئذ يكون للسودان أن يختار بعد أن يكون قد تهيأ لحكم نفسه بنفسه.

هذه هي السياسة الصريحة المتكشفة، وهذه هي بريطانيا على حقيقتها، وهذه هي ألفاظها المكتوبة مفسرةً في تصريح حاكم السودان. فليت شِعْري ما الذي يظنُّه امرؤ في نفسه ذَرةٌ من الإيمانِ بحقّ الإنسان في الحرّية. ما الذي يظنه ذلك في تفسير نصوص المعاهدة التي يُرادُ لنا أن نرتبط بها مع هذه الإمبراطورية؟ ومهما تكن نصوصُ المعاهدة، ومهما يُقَلْ في تسويفها أو تفريطها، وسواء أكانت هذه المعاهدة المعروضة اليوم أم غيرُها، فهل يحِلُّ لمصريٍّ أو عربيٍّ أن يأمَنَ على بلادهِ بعد هذه الخَديعة التي لا تعرفُ وَرَعاً ولا حياءً؟!

وليس هذا فحسب، لقد قال حاكم السودان ما شاء، فماذا كان جواب الحكومة المصرية على هذا التصريح العجيب! كان هذا الجواب الذي ينشر رئيس الوزراء كلمة يحتج فيها على تصرف حاكم السودان، وأنه قد تجاوز حدود وظيفته من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معاً! أيكون حقاً حاكم السودان من حيث هو حاكم إداري، ومن حيث هو موظف مصري بريطاني معاً! أيكون حقاً حاكم السودان هو المسئول عن تصريحه، وهو ينسبُ ما يقول إلى الحكومة البريطانية بلسانه! هذا، ومن الغفلة أن يظن ظانٌّ أن رجلاً إنجليزياً يدير شيئاً من أمور هذه الإمبراطورية يجرؤ أن يتكلم من ذات نفسه بالنيابة عن حكومته ويوقعها في ورطة سياسية كهذه الورطة. إذن أفما كان أولى وأجمل وأكرم وأنبل وأشجع أن يوجه الاحتجاج رأساً إلى الذي أنطق هذا الرجل بما نطق به ون يقال لهذه الحكومة البريطانية (المفوضة) إنك أنت الملومة لا هذا الرجل! ولكن هكذا كان.

فما الذي سيكون غداً أيها الرجال المدافعون بأقلامكم وألسنتكم إذا جاءتكم لجنة الدفاع المشترك، وجاء البريطاني، ونطق لسانه بما لا تطيقه هذه الأمة ولا ترضى عنه؟ أتظنون أن موقف الرجال المصريين الذي سيختارون ليكونوا أعضاء في هذه اللجنة ممن تستطيع أن تعمل (معهم)، سوف يكون أكرم وأولى أو أشجع من موقف رئيس الوزراء السابق حيال تصريح حاكم السودان؟ ستكونون كما قلتم: هذا مطعنٌ في الضمير الوطني المصري. . . وكلاَّ؟ ليس هذا مطعناً، فإن الرجال الذين سيختارون هذه اللجنة سيكونون ممن (صنعوا على عين بريطانيا) منذ احتلت مصر في سنة 1882 إلى هذا اليوم. ولأن يقال أن هذا الذي تقول مطعنٌ خير من أن تلقى مصر كلها تحت أقدام بريطانيا وفي تنُّور حروبها، لتكون دماء أبنائها فداء ً للدم البريطاني الطاهر المقدس.

أيتها العرب احذري. . . احذري هذا المصير الذي يرادُ لمصر لا قدر الله أن تصير إليه. ولئن كان هذا يومنا نحن، فغداً يومكم ليُعرض عليكم مثل الذي عُرض علينا، لتكون لكم (لجنة دفاع مشترك) كلجنتنا نحن، فاحذري أيتها العرب، ولا تقري بينك وبين بريطانيا معاهدةً أبداً، فإن بريطانيا تريد بجمعكم اليوم على مثل هذه المعاهدة، كالذي أرادته بكم جميعاً يوم وطئت أقدامها أرض مصر في سنة 1882، تريد أن تمزقكم بعد أن تكونوا وقوداً لنيران الحرب الثالثة.

أيتها العرب احذري. . . فإذا كنت نازلة في ميدان الحرب الثالثة فأنزليها حرة لتموتي حرة، ولكن لا تلقي بفلذات الأكباد في أتون الحرب المسعورة، ليكونوا هناك عبيداً ويموتوا عبيداً، كما تريد المعاهدات الإنجليزية بنا وبأبنائنا وبناتنا وأوطاننا.

أيتها العرب احذري. . . لقد لبثتْ إنجلترا لكم وعليكم وتنشئ أجيالاً من الخلق صاروا لها صنائعاً وأعواناً، أرادوا ذلك أم لم يريدوه، وعرفوه أو جهلوه، وعين إنجلترا بصيرة نافذة فعي تختارهم وتمهد لهم، وتحملها بسلطانها وبحيلتها وبتهديدها حتى ترفعهم إلى الذروة التي تجعلهم أهلا للمكانة في بلادهم، ثم لا تزال تعمل هنا وهناك بأنامل بصيرة قادرة متدسسة حتى يتم اختيارهم، فيتولوا هم زمام هذه الشعوب المسكينة، ثم تقول لهم كما قال الأول:

فعِثْ فيما يليك بغير قصدٍ ... فإني عائثٌ فيما يليني

وإذا هؤلاء المساكين الذين ارتفعوا إلى غير أقدارهم ومنازلهم يكيدون لأممهم من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، وإذا سياسة الأمم الناهضة في أيد لا تُحسن إلا العيث والفساد، ومصائرها على ألسن لا تُحسن إلا التغرير والدهان والممالة.

أيتها العرب احذري. . . ودعي المفاوضة بينك وبين بريطانيا حتى ترد إليك كل حقوقك كاملة غير منقوصة ولا متهضَّمة، فإذا فعلتْ فانظري في مراشدك. أما إذا قال لك هؤلاء: وماذا تفعلين أيتها العرب إذا لم تفاوضي إنجلترا وتعاهديها؟ إذا ألقوا إليك هذا السؤال العاقل الحكيم الذي يفرض عليك أن تتركي نصيباً من الحرية من أجل كواذب الآمال والوعود، فأعلمي أن هذا التعاقل (الشديد) فسادٌ في الطبائع التي تلقيه عليك: يرى الجبناءُ أن العجزَ عقلٌ ... وتلك خديعةُ الطبع اللئيمِ

وأنتم أيها الكتاب العرب: هذه أمانة القلم تعرض اليوم عليكم، وهي أثقل الأمانات، فاحملوها بحقها أو دعوها بحقها، فإن الأيام أسرع مُضياً من البرق في حواشي الغمام. ومن حمل امانته فعليه أن ينذر قومه قبل أن يأتي يوم لا تغني فيه النُّذر، وقبل أن يأتي يوم لا يردّ فيه البكاء على فائت!.

محمود محمد شاكر