مجلة الرسالة/العدد 702/في ركب الوحدة العربية:

مجلة الرسالة/العدد 702/في ركب الوحدة العربية:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1946



الأدب في فلسطين. . .

للأستاذ محمد سليم الرشدان

- 4 -

مع الأدباء العلميين

تحدثت في آخر فصل وقفت عنده (من هذا البحث) عن عالم فلسطين الرياضي الأستاذ قدري حافظ طوفان، ولم أبلغ نهاية التعريف بآثره، لضيق في المجال الذي أعددته (يومذاك) ولذا فإنني أقف اليوم بالقارئ الكريم (وقفة يسيرة)، عند أثر قيم من آثره، وهو كتابه (تراث العرب العلمي) في الرياضيات والفلك. ولعلنا نقدر مبلغ عنايته باخراجه، حين نسمعه يقول في مقدمته:

(شغلت نفسي بهذا الكتاب أكثر من عشر سنين، وهو خلاصة بحث مرهق ودراسات مضنية، اعتمدت فيها على مظان عديدة قديمة وحديثة، عربية وإفرنجية، ومخطوطات نفيسة حصلت عليها بمساعدة بعض الأصدقاء، من القاهرة وطنجة وتطوان والقدس. . .).

وقد جعل الأستاذ (طوقان) كتابه في قسمين، الأول منهما يحتوي على سبعة فصول، ستة منها تبحث في الرياضيات قبل الإسلام، ومآثر العرب في الحساب والجبر، والهندسة والمثلثات والفلك. والسابع يتناول الرياضيات في (الشعر العربي) وهو فصل طريف لعله الأول من نوعه، أحصى فيه ما قاله شعراء العربية في الجاهلية والإسلام من الشعر الرياضي. فأورد شعر (زرقاء اليمامة) في سرب من الحمام، أبصرته فأحصته عدداً فقالت:

ليت الحمام لِيَهْ ... ونصفه قدِيَهْ

إلى حمامتَيهْ ... صار الحمام ميَهْ

وهي مسألة حسابية معقدة (كما ترى)، بسطتها (حذام معجزة الدهر في قوة الأبصار بقالبٍ شعري لطيف.

كما أورد في ذلك الفصل أيضاً، قول الشاعر الرياضي المرح الإمام أبي القاسم البديع الأسطر لأبى حين يتغزل فيق وذي (هيئة) يزهو بخال ... أموت فيه في كل حين وأبعث

(محيط) بأوصاف الملاحة وجهه ... كأن به (اقليدس) يتحدث

فعارضه (خط استواء) وخاله ... به (نقطة) والخد (شكل مثلث)

وقد استلفت نظري (هنالك) أرجوزة (ابن الياسمين) التي جمع فيها بين الأدب والرياضيات، فعرف علم الحساب والجبر وشرحهما ومثل عليهما شعراً. ومن ذلك قوله في تعريف الجبر:

على ثلاثة يدور الجبرُ: ... (المال) و (الأعداد) ثم (الجذر)

ف (المال): كل عدد مربع ... و (جذره): واحد تلك الأضلع

و (العدد المطلق): ما لم ينسب ... للمال أو للجذر. فافهم تصب

و (الجذر) و (الشيء) بمعنى واحد ... كالقول في لفظ أب ووالد. . .

ثم يمثل عليه في (حل المعادلة) كان قد سلف ذكرها في أقسام المعادلات فيقول:

ف (ربع) النصف من (الأشياء) ... واحمل على (الأعداد) باعتناء

وخذ - من الذي تناهى - (جذره) ... ثم انقص (التنصيف) تفهم سره

ويحصى (الأستاذ طوقان) شعراً ما أعذبه وأطلَّه، كثيراً ما تمثلت به لطلابي (في دروس البلاغة)، دون أن أنتبه لما فيه من البراعة في استخدام الألفاظ، مما استنبطه الأستاذ من معانيها في الرياضيات والفلك.

وأما القسم من الكتاب فيحتوي تسعة فصول، يسرد فيها سير العظماء من الرياضيين والفلكيين، وإنتاجهم العلمي، ومؤلفاتهم وانتقالها إلى أوربة، وأثرها في تقدم العلوم فيما بعد.

وتتجلى في الأستاذ روح العالم العامل بعلمه، حين يقول لك: إنه توخى في هذا الكتاب (الإخلاص للحق والحقيقة وإنصاف حضارة العرب، والكشف عن أمجادهم الفكرية في الرياضيات والفلك. . .).

وما دمت في صدد العلم (حين ينسلك في نطاق الأدب)، فلا بأس من أن أذكر (علماء متأدبين) آخرين ساروا في هذا السبيل، فقطعوا فيه شوطاً محموداً، وألفوا فيه ما لا يتيسر من غير جهد، ولا يبلغ بعد هذا الشأو من الجودة إلا نضوج مكتمل.

وبين يدي (أشتات أنباء) عن ثلاثة من هؤلاء (العلماء) وكلهم مارس صناعة التعليم عمراً من عمره، وربما كان لذلك أثر بين في بعض إنتاجهم، وبعض وجهات نظرهم. وأول هؤلاء الثلاثة:

الأستاذ محمد أديب العامري. وقد كان إلى أمد (ليس بعيداً) مديراً لكلية السلط، وكانت له في ذلك العمل تجارب كثيرة، فألفى (بوحي منها) كتباً لتدريس العلوم الطبيعية، في صفوف مختلفة من مراحل التعليم، طبع بعضاً منها والبعض الآخر في أثره.

وتتألف هذه السلسلة منقسمين، الأول منها (مبادئ حفظ الصحة) للمراحل الابتدائية المتوسطة، الثاني (مبادئ العلوم) وينقسم إلى أجزاء تزامل الطالب حتى تبلغ به المرحلة الثانوية. وترتكز هذه الكتب (في سائر أجزاءها)، على أسلوب محدث وطريقة مبتكرة، يراعي فيها الانتقال من التدرج في الوصف، إلى التعريف والتحديد فالاستقراء والاستنباط.

كما ألف كتابه (فصائل النباتات الشهيرة) للمراحل الثانوية العالية، وصرف في إعداد مجهود (أعوام ثلاثة) في البحث والدرس، والاقتباس عن أشكال الطبيعة مباشرة، وهذا الكتاب وحيد في أسلوبه وطريقة تنسيقه: يشتمل على ما يفتقر إليه الطالب العربي من أركان هذا العلم، وسائر تفصيلاته.

كما ترجم بوحي من ذلك العمل (أيضاً)، كتاب (الكيمياء العملية) للدكتور رئيس دائرة الكيمياء في الجامعة الأمريكية. فأكمل بذلك جانباً كبيراً من النقص الذي يفتقر إليه الطالب العربي في هذا الباب. . .

وله فيما عدا ذلك إنتاج آخر، يدفعه إليه ميله (السياسي الاجتماعي)، وهذا الميل متأصل في نفسه - رغم تخصصه الجامعي في دراسة علم الحياة - وطالما استحوذ عليه، فإذا هو متسرب في مسالكه، منساق إلى أهدافه، متطلع إلى مراميه. . .

وهو إبان هذا الاستسلام المطلق، يكتب في (القصة) آناً، ويكتب في (فلسفة الحياة آناً آخر. وحين أعرفه لك في الحال الأول، أقفك عند كتابه (شعاع النور)، لكي تستعرض معي (متمهلاً) هذه الفقرة في مقدمتها إذ يقول فيها: (. . . إن هنالك شعاعاً من النور ينتظم سيرة الحياة، وهذا الشعاع ذاته هو الذي يومض في نفوس هؤلاء الناس، الذين أقدمهم إليك وأصلهم بك، ولولا هذا الوميض الذي يستمد نوره وحرارته من طبيعة الحياة، الحياة الخالدة المتسامية، لما كان سبيل هؤلاء الناس إلا أن يتلاشوا في العدم، ولكنهم لا يتلاشون. . .).

وأما قصص هؤلاء الناس (الذين يصلهم بك) فأنه - يا أخي القارئ - ليست من هذا الطراز الذي ألفنا قراءته وتكراره، ولكنها ضرب جديد من القصص، (جديد إلى أبعد ما في خيالك من تصور للجديد)، ما رأيت من مثلها فأقربها إليك تشبيهاً، ولكنني أصفها. وأين الخبَرُ من الخُبْر؟!:

إنك لو وقفت حيال هذه القصص، لألفيتها قائمة على التحليل النفسي للطبيعة البشرية، وعلى تصوير الانفعالات المستندة إلى العوامل الموروثة، التي تمثل النوازع الإنسانية العميقة تمثيلاً صادقاً. وهو في خلال ذلك كله يستهدف الإصلاح الاجتماعي، شاملاً من جميع نواحيه.

وله في هذا الباب قصة أخرى عنوانها (سليم أفندي)، وهي تحليل شامل لما يعترض النفس الإنسانية من اضطراب وقلق، ولما يؤدي إليه مركب النقص من تصرفات وأوضاع، والقصة في إجمالها وتفصيلها تنحصر في دائرة القصة السالفة من جميع نواحيها.

وحين أعرف لك الأستاذ العامري في الحال الثاني (أي حين يكتب في فلسفة الحياة)، أقفك كذلك عند كتابه (نحو الحياة). وهذا الكتاب سرد من التفاؤل المطلق، مرتكز على المحاكمة والاستقراء، وقائم على منطق التدرج. فهو يرى فيه أن طبيعة الحياة إيجابية، وأنها تتقدم من تلقاء نفسها باطراد إلى الأمام، وأن مستقبل البشرية إلى خير، على الرغم مما يبدو في جوها - وما بدا إلى الآن - من اكفهرار واضطراب. وإليك نمطاً يبين الأسلوب الذي يلتزمه في مثل هذا الحال، وذلك حين يقول:

(. . . طبيعة الإنسان نفسها تأبى الردة، الإنسان والحيوان والنبات، هذه الأحياء كلها تبحث عن الجمال والقوة. والحياة تنتج باستمرار أجيالاً أقوى وأجمل. فلو يركَّب في الناس ذوق (مثل حب القبح)، ولو كان (الظلم) هو ما تهواه الطبيعة البشرية في قراراتها، لفكرت أن الحياة يمكن أن تتأخر!!.

الناس اليوم أطول أعماراً من آبائهم الأولين، والناس اليوم أكثر إحساساً بالكرامة. وأرفع مستوى في العيش مما كانوا من قبل. وتوزيع الثروة (وإن يكن اليوم منطوياً على إجحاف) أكثر انتشاراً منه فيما مضى من قريب. والمظلوم اليوم أجرأ وأرفع صوتاً في المطالبة بحق. وحالتنا الحاضرة - في بعض البلاد الراقية - خير من بعض صور (المدينة الفاضلة) كما رآها بعض المفكرين.

فإلى أي غاية ترمي هذه النزعات الظاهرة، الخالصة الصادقة التي لا تكبح؟!. .).

وما يزال بين يدي الأستاذ مواضيع مختلفة، ينصرف لمعالجتها والتفرغ لدرسها، على الرغم بالمسئولية التي يضطلع بحملها في (دار الإذاعة الفلسطينية) في القدس، ولقد كتب في الرسالة الغراء وغيرها، ودراسات كثيرة، في العلوم والآداب والأبحاث النفسية، التي يميل فيها إلى المذهب التحليلي على طريقة (ادلر).

وله مجموعة مقالات - مما أذاع به أو ألقاه في الألدية كلها تحوم حول الأهداف التي أسلفت الإشارة إليها، وهي تقع في كتاب ضخم جاهز للطبع.

وأما الباحثان الآخران، فقد ألف حدهما بوحي (من عمله التدريسي أيضاً) كتباً علمية لمراحل الدراسة الثانوية، ثم انطلق على سجيته بعد ذلك فإذا هو يكتب في الأدب حيناً، فيؤلف فيه أشتاتاً من الأقاصيص، وألواناً من الدراسات. يعالج فيها جميعاً كثيراً من المشاكل الإنسانية المعقدة، والأدواء الاجتماعية المستعصية. ثم إذا هو (حيناً آخر) يكتب في الفلسفة العلمية ويحلق في أجوائها، فينتهي من ذلك بمجموعة من الكتب القيمة، كل واحد منها يتوجه في سبيل، وينتهي إلى غاية، ثم تأتلف أخيراً لتتحد في ثناياها صورة مشرقة من صور (الأدب العلمي).

وأما الثاني فقد ألف كذلك (بوحي من عمله التدريسي)، ولكنه حالف سابقيه فيما ألف، فخرج من محيط المدرسة إلى محيط الجمهور، وهو محيط أشمل وأعم. سرعان ما يثمر التعليم فيه ويؤتى أُكُله. ثم إذا هو يصنع له من العلم (الحاف المعقد) مادة هينة لينة، رقيقة الحواشي مهلهلة الأطراف، هي على حد قول الإمام الثعلبي:

(يكاد الهواء يسرقها لطفاً، والهوى يعشقها ظرفاً. .)

ويكون من هذه المادة كتاباً لطيف الحجم عظيم النفع، ما يكاد يخرج إلى (هذا الجمهور)، حتى تتخطفه الأيدي، وينتشر في كل مكان، ويقبل الناس عليه أيما إقبال.

ويلمس هذا الباحث مقدار نجاحه، فيمضي في طريقه قدماً، فإذا هو يعيد الكرة من غير ما تريث، ويفاجئ الناس بثاني كتبه، ليظفر بما يترقبه من نجاح، بعد أن مهد له السبيل إلى تلك الغاية ذلك الكتاب الذي سبقه. ووقف المؤلف بعدها يستعد لإخراج دروس جديدة، يلحقها بذينك، ليؤدي رسالته على الوه الذي ارتضاه.

وأما هذان الباحثان فأولهما: الأستاذ عبد الله الريحاوي، وثانيهما الأستاذ علي شعث. وسوف أحدثك عنهما مفصَّلآً.

القدس:

محمد سليم الرشداق

(أستاذ اللغة العربية وآدابها في كليتي التجارة والأمة)