مجلة الرسالة/العدد 703/حقائق عن المادة والفكر أيهما أصلح طريقا للمعرفة؟
مجلة الرسالة/العدد 703/حقائق عن المادة والفكر أيهما أصلح طريقا للمعرفة؟
للأستاذ فؤاد طرزي
الحياة لا تعرف الثبات ولا الاستقرار؛ بل هي في تغير مستمر وفي نزوع دائم نحو التجدد والتحول، تستقر فيها جراثيم التوالد التي لا تنى تنقلها من حال إلى حال منذ الأزل وإلى اليوم وحتى يدركها الفناء. وهذه الخاصة الحية هي نداء الضرورة المطلوبة لإيجاد التوافق بين التغييرات الطبيعية والتبدلات التي تشمل مظاهر الوجود، وبين الكائنات الحية التي لا توجد إلا وهي ساعية نحو الكمال والسمو مهما اختلفت الصور التي تختارها لتعرض نفسها على مسرح هذا الكون.
وقد أطلق على هذا الجوهر الأصيل في طبيعية الحياة اسم التطور، وهو يدل على أن كل ظاهرة من ظواهر الوجود توجد في آن واحد، أي أنها تعمل على خلق حال جديدة لها في نفس الوقت الذي تحيا فيه على حال معين. وبعبارة أبسط إنها تتجدد وتتجدد إلى أن تهرم وتموت. سمة التطور أو الديالكتيك أو ما شئت له من المسميات ولكن بعد أن تعرف أنه الأساس الذي تقوم عليه الحياة وأنه مفروض على الأحياء والجمادات وهو يعمل من غير أن يُطلب أو تُراق لاستحضاره الدماء، بل إن كل ذلك لا يبدْل غايته ولا يغّير وجهته.
كل هذا الذي نقوله متفق عليه من جميع الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وهو ثابت بالبراهين الجلية والعلمية لا ينقضه برهان أو ينكره إثبات، ولكن الاختلاف هو في ماهية هذا التطور أو في الدافع الذي يحركه في سيرة الدائب: فمنهم من يرجع هذا الدافع إلى عوامل مادية، فيقرر أن المادة هي الكل وهي التي تقود التاريخ وتوجه الأحياء، وهي الأصل المفرد الذي لا ينازعه أصل والإله الحقيقي الذي لا يشاركه إله، أو هي - كما يقول انجلز - دورات الوجود الأبدية التي تتم بها الحياة. وأما الآخرون فيؤمنون بأن الفكر الملهم هو الذي يسوس الوجود، وأن العقل المدبر هو الذي يمسك بزمام الطبيعية وهو الذي ينفث القوة في المادة فتكتسب الحياة أو يتركها طينة باردة لا تقدر على الحركة والتحول والإيجاد. فالفكر هو الخالق وهو المبدع، وفي خلقة وإبداعه يستوحي سنة أبدية تعمل بغير انقطاع؛ هاتان الفكرتان ظلتا تتنازعان تارة في ميدان الفلسفة وحينا في ميدان الإصلاح، وأخيراً ظهرت إحداهما وهي الفلسفة المادية في شكل مذهب يعد إقامة المجتمعات وفق أصوله وقيمة.
وإذا أردنا النزول إلى ميدان البحث المقارن، ورغبنا في وزنهما من حيث الأساس الذي قامتا عليه، وجدنا أن التفسير الفكري أقرب إلى الحقيقة التي يتركب منها التطور وأدخل في باب الشروح العميقة التي لا تحكم على المشاهدات المحسة ولا تقنع دون النزول إلى أبعد الأبعاد للتعرف على ماهية الموجودات وهذه جملة أدلة نثبت صحة ما نقوله:
(أولا) المادية امتداد والفكرية عمق. والفرق بين الامتداد والعمق أن الامتداد يشغل مكانا يظهر للعيون والأبصار، وأما العمق فيخلق من غير أن يظهر للحواس فهو يُعرف بالبحث المجرد والتأمل النظري أو هو الحقيقة الفعالة وراء العضويات ينفث فيها الإكسير مادة أثيرية جرى العرف على تسميتها روح الحياة. وإذا أردنا أن نضرب الأمثال لنظهر الاختلاف في هذا بين الماديين والفكريين فلنأخذ ظاهرة اجتماعية كبرى تكاد تكون حادثاً فاصلا في التاريخ، وهي معروفة للجميع، إلا وهي الثورة الفرنسية.
فإذا قلت للماديين ما الذي أشعل نار هذه الثورة؟ أجابوك بأنه السعي وراء الخبز أو الانقياد وراء المادة، يتمثل في ثورة الجياع على المترفين، أو هي شكل من أشكال النضال الطبقي بين المحرومين والمتخومين. وكيف لا يكون ذلك وهذه الجماهير خرجت ثائرة تصرخ (نريد الخبز). أيوجد أكثر من هذا السبب الواضح الذي يؤيد رأينا؟ دون شك أنك تلاحظ أن هذا التفسير الذي عرفناه بأنه التفسير الذي لا يوغل في الأعماق ولا يتعرف إلى الماهيات من معرفة أصولها وجواهرها، وأصحابه لا ينفذون إلى أبعد من مرأى العين ولا إلى ما وراء البصر، في حين أن العين لا تستطيع الإحاطة بأكناه الأشياء، وأن البصر ليس بمقدوره أن يواتي البصيرة الوقادة التي تخترق الحجب وتهتك الأستار لأنها تدرى أن وراء الجسوم قوة مجهولة ووراء الأشكال الظاهرة عوامل مسيرة دافعة. إن الثورة الفرنسية تبدو ثورة من ثورات الجياع لمؤلهي المادة، ولكنها في الحقيقة ثورة أوقد نارها الفكر الثائر قبل أن يضرمها الخبز، وأنها لم تكن لتحدث لو لم يقدح زنادها هذا المشغل المحرق. ولنعلم أن الإحساس بالظلم لم يشعر به الكادحون الذين كانوا في خدر لذيذ يرون العبودية جزءاً من الحياة لا محول عنها بعد أ، لصقت كأشبه ما يكون بالقانون في ضمائرهم، بل أن الذين شعروا به هم المفكرون الذين أيقظوا النائمين ووضعوا خطط التحرير. فهؤلاء المفكرون أحسوا بالظلم وتألموا من الاستبداد في الوقت الذي كان فيه الجائعون ينظرون إلى أسيادهم كأنهم من ظلال القدرة العلية في الأرض. وعندما تألم هؤلاء عملوا في سبيل وجود أفضل و (مجتمع أصلح) فأخذوا ينفثون القوة في هؤلاء الذين استكانوا للظلم وراحوا يعلمونهم معنى الحق والعدل والحرية. هذه الألفاظ التي خلقوها خلقاً وأوجدوها إيجادا. وأما المطالبة بالخبز فلم تكن إلا جانباً من الشعور بالحق، هذا الشعور الذي ابتدأ فكرة مجردة ثم أخذ يعمل ليكون حقيقة واقعية. فبعد أن تمكنت فكرة الحق من النفوس عرف الناس أن من حقهم أن يشاركوا في الرفاء والسعادة الأقلية المحتكرة. فالفكر هو الذي هدى وعلم ولم يكن أصحاب الخبز إلا تابعين يأتمون بإمامته. كان الفكر هو المحرك وكانت المادة عنصراً من عناصر التي تعاونت معه. كان هو الأصل. . . هو الحقيقة الأصلية، وإن شئت فقل هو الجوهر المفرد الذي يتركب منه الكون. قل لأصحاب المادة - كما يقول لهم الأستاذ أحمد أمين - هذه عناصر الخلية اخلقوا لنا منها خلية كخلايا الوجود. وعندما ستعرف أنهم لا يستطيعون فعل ذلك مهما أوتوا من مقدرة علمية، لأن جوهر الخلية كنه مجهول ينفث فيها الحياة، وهو سر غامض لا ندري ما هو وكل ما نعرفه عنه ما يبدو من آثاره.
(ثانيا) يجول الماديون ويصولون ويروحون ويجيئون في دوائر جهنمية لا حدود ولا منتهى لها. وكل ذلك ليفسروا فلسفة عمياء كليلة لا تملك من مقدمات الأسس المنطقية ما تستطيع بها أن تحيط بالوجود من جميع جوانبه. وهم يريدون تفسير الوجود فكان أمامهم طريقان: إما أن يقولوا إن هناك قوة مدركة حية تحرك الكون وتدير الحياة وهي بمثابة العلة الأولى لكل هذه النتائج، وإما أن يركبوا متن الشطط فيؤمنوا بالمادة الصماء التي لا تعقل ولا تحس، فاختاروا التفسير الثاني وتركوا الأول. ولا أدري لماذا نترك فلسفة تفسير الوجود بالوجود لنتعلق بأهداب فلسفة غامضة تفسر الوجود بالعدم. فأمامكم يا ناس حركة وأمامكم حياة فلم لا تؤمنون بقوة الحركة وبقوة الحياة، لتغوصوا في أعماق مجهولة لتؤمنوا بالجماد الذي لا يتحرك ولا يحس. إن مثلكم كمثل الذي يؤثر الظلمة على النور، أو كمثل الذي يمسك بالحقيقة البينة ولكنه يدعها تفلت منه لأنه يستعذب الجري والركض ولو إلى غير غاية.
(ثالثاً) ومهما تشعب القول فان هذه المادية منقوضة علما ومنطقا، فهي لا تستطيع أن تفسر ما الأمل وما الطموح وما الأحلام. كما لا تستطيع أن تفسر لماذا يموت الجندي في سبيل وطنه، والتفسير المادي يقتضي منه أن يقدم ذاته على بلده. ولا تستطيع أن تفسر أيضاً كيف تفتدى الأم وليدها في حين أن ظواهر الأشياء ومنطق التفسير المادي يفرضان عليها حب نفسها قبل غيرها. ويثبت المنطق أن الفكرة قوة من القوى والمادة شكل جامد، وأن هذا الشكل لا يكتسب الحركة إلا بعد أن تحل هذه القوة في هيكله. فالفكرة هي التي تدفع وتوجه، والمادة تتشكل وتتخذ أوضاعاً ظاهرة. وقد يقال لا موسيقى بلا أوتار، ولا بناء بلا أحجار، ولا فكرة بغير مادة عصبية؛ ولكن الكمنجة ليست هي الموسيقى، والبناء ليس هو الأحجار، والذهن ليس هو الفكر. إن لحنا من ألحان بيتهوفن - كما يقول الفيلسوف رينان - موجد على الورق، ولكن من يكسبه الحركة والحياة؟ بلا شك العقل. وإن الفعل الإرادي الذي يتمثل في الاهتزاز هو الذي ينقله من عالم الجماد إلى عالم الحياة، وهذا الاهتزاز حقيقة عضوية قابله للوزن والقياس. إن الفكرة قوة تريد أن تكون والمادة تعينها وتنقلها إلى الكينونة والواقع. إن الفكرة هي الموجودة في الواقع وهي وحدها الكامنة، وتطمح إلى الوجود التام بإيجاد التراكب الكيميائية لا ظهارها.
من كل الذي ذكرناه نرى أن الفلسفة المادية لا يمكن أن تتوافق مع الغاية التي تتحول إليها الظواهر والشيات والكائنات، لأن هذه كلها ترتفع من الأدنى إلى الأعلى ولا تريد إلى حالة سابقة ولو تعاونت على ذلك كل قوى الإنسان، في حين أن التوحيد المادي ارتداد رجعي إلى حالة سابقة حيث يتحكم كل شئ في الإنسان فلا إرادة تستطيع أن تؤثر على مجريات التقدم لأن هناك قدرا صارما يحكم، ولا قوة عقلية تقدر أن توجه الأعمال إلى غايات مرسومة لأن الحلقة الآلية قد وضعت الحياة في دائرتها فلا تدع لها الحرية في العمل. وكل هذا يعاكس منطق الأشياء حيث نلاحظ أن الإنسان كلما سار مع الزمن استطاع أن يخضع الطبيعة ويخضع التاريخ لمشيئته، وانه كلما اتجه إلى الأمام ارتفع إلى الأعلى ليتحرر من قيود الظواهر المكانية والزمانية ومن دكتاتورية المعاش ويقرب من الغايات المعنوية في كل موجود من موجوداته
إن علائم التقدم والتطور تجمع في كلمتين اثنتين: (الحرية) و (التقدم المعنوي) فالتحرر علامة فارقه لقياس الحضارة، والتقدم المعنوي عمود التطور إذا جسمنا كلمة التطور وألبسناها حلة التشبيه والتمثيل. وليس قولنا هذا محص سفسطة ومغالطة، بل هو منقول عن الحياة بعد أن خضع لمعاببر العلم وتجارب التاريخ وعبر الأزمان. فالعلم يقرر أن الإنسان كلما ارتفع صعدا في سلم الحضارة دقت عضلاته ومرنت عظامه وخفت حركته، أي كلما تقدم تحرر من قيود جسمه ليماشي الكون في حركته الدائبة نحو الخروج ونحو الانفصال عن المركز إلى الخارج في اندفاعاته الانتقالية. وتحطيم الذرة في عصرنا الحديث ليس إلا مظهراً من مظاهر الشوق الوجودي إلى التحرر والانفصال عن الكتل والهيولى. إن كل ما في الكون في حركة دائمة يريد التحرر من المادة والدنو من الصورة، ويعمل على أن يفك عنه قيود التجسم ليعود إلى النموذج والمثال. فالصراع بين الهيولى والصورة والذي كان لب فلسفة أرسطو العظيم هو ناموس الأبد، بل قل جرثومة التطور وقانون الحياة.
ولعل التقدم المعنوي هو فرع من ناموس الحرية الذي فرض أرادته على الحياة في كل سبيل من سبلها. وإذا أردنا أن نشرح هذا أكثر، فلنأخذ أشد الألفاظ لصوقا بالإنسان وأقدمها في معاصرتها له، ولنسر وإياها في تاريخها الطويل؛ فأننا سوف لا نجدها ألا سائرة من التعبير عن ملابسات المادة إلى السمو والدلالة على تعبيرات الروح والفكر. خذ كلمة (الضحية) وهي الكلمة التي كتب عنها الأستاذ العقاد بحثاً قيماً في عدد من أعداد الرسالة، فهذه الكلمة أول ما وجدت في الحياة، وحياة الإنسان خاصة، كانت تعنى (النذر) التي كانت تقدم للأرباب والمعبودين، ولم تكن تعنى غير هذا المعنى المادي الملموس الدال على تقديم علائم الخضوع في شكل أشياء مادية لاسترضاء الآلهة. ولكن بعد أن سار الإنسان أشواطاً جديدة في ميدان الحضارة أخذت الكلمة تدل على معان جديدة وراحت ترتفع من الدلالة على الأشياء المادية إلى التعبير عن أشياء معنوية كإنكار الذات وفداء النفس في سبيل الوطن أو في سبيل الشرف أو لإراحة الضمير ونحوها من المجازات والدلالات على معاني الأخلاق السامية.
(بغداد)
فؤاد طرزي