مجلة الرسالة/العدد 703/مقالات في كلمات:

مجلة الرسالة/العدد 703/مقالات في كلمات:

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1946



في أثناء المرض. . .!

للأستاذ علي الطنطاوي

موازين الرجال:

أصبحت من أيام فوجدت رأسي من ثقل كأنه حجر رحى ركّب بين كتفّي، وكأنه من الصداع بدقّ من داخله بالداقّ، وكأن جفنيّ قد شدَّ إلى الأرض فما أفتحهما حتى يعودا فينطبقا، ووجدت في حلقي إذا أبتلع ريقي مثل حزَّة الشفرة، وفي كل مفصل من مفاصلي ألماً، وفي أعصابي من الخَدرَ مثل مشي النَّمال، ووقفت فاصطكت ركبتاي، ودِير بي، فعدت إلى الفراش. . .

ولم يصدق أهل الدار أني مريض: لأنهم لم يروا علىَّ لمرض أثرا، ولأن المريض عندهم إنما هو الشاحب المهزول البادي العظام، وأكَّدت لهم القول فلبثوا مكذَِبين. يعتقدون أني أتدلل عليهم وأني أتكاسل وأوثر الراحة والاستمتاع برعاية المرض، على إرهاق النفس بمعالجة نسوان المحكمة، وصبيان المدرسة. . . ويئست من إقناعهم بمرضي فأعرضت عنهم وتشاغلت بالتفكير.

فكرت في هؤلاء الناس إذا كانوا لا يميزون المريض من الصحيح، والمرض شئ ظاهرة آثاره، بادية إمارته، فكيف يميزون الطيب من الخبيث، والصالح من الطالح؟ وكيف يقيسون أقدار الناس، وكيف تكون عندهم موازين الرجال؟ أو لا يخطئون في أحكامهم على الناس خطأ أهلي في الحكم على مرضي، إذ يقيسون المرض بالشحوب والهزال، ورب شاحب هزيل ما فيه إلا جلد على عظم وهو الصحيح المعافى الأيد القوى، وربّ سمين يكاد يَنْفَزر من كثرة الشحم واللحم، وهو مَحْمَل أمراض وهو الضعف مجسّما والعجز؟

وفكرت فيَّ أنا، كيف أحكم على الناس؟ فذكرت أنه يدخل علىّ الرجل لا أعرفه فأحكم عليه بادي الرأي بثيابه، فان كان يلبس العمامة والجبة أنزلته من نفسي منازل العلماء، وإن كان بزي الفلاحين أحللته محال الفلاحين، فإذا تكلم بدلت رأي فيه وحكمت عليه بكلامه، فإذا عاملته كان الحكم عليه بمعاملته، فهذه عدة مقاييس: الثياب والكلام والمعاملة، فأيها هو الصحيح؟

ثم إن للناس مقاييس غيرها تعلو وتنخفض، وتتسع وتضيق، وتصح وتفسد، فهم يقيسون، وبمنصبه، بل إن فيهم من يتخذ مقاييس أعجب وأدنى، فصبَّاغ الأحذية يقيس عظمة الرجال بلمعان أحذيتهم لا بعلمهم ولا بفضلهم، والخياط يعتبرهم بطولهم وعرضهم، ومفتش القطار بدرجات ركوبهم، ونادل القهوة بحلوانهم وأهل السجن يقيسون عظمة النزيل عليهم بجريمته، فالقاتل أعظم من السارق، وكلما عظم الجرم عظم القدر، وعامة الناس العظمة عندهم بالشهرة فإذا نزلت بلدهم المغنية أو الرقاصة ارتج لها البلد وتسامع بها الناس وتباشروا بمقدمها وهرعوا كلهم إليها، وإذا هبط الأديب المفرد، أو العلاَّمة العَلَم؛ لم يدر بمهبطه إلا القليل، ولم يَسْع للسلام عليه إلا الأقل منهم، وتقرأ على أحدهم المقالة تخبره أنها لرجل مغمور فيوسعها ذماً وقدحاً، فإذا أخبرته أنها للكاتب المشهور انقلب القدح مدحاً والذم ثناء وإكباراً. . .

ولو سألت الخاصة ما هي مقاييس العظمة لوجدتهم مختلفين، وقديماً قال المثل السائر: (وقلت للفرنسي فلان عظيم، قال لك: ما هي شهاداته؟ والإنجليزي يقول: ما هي معلوماته؟ والألماني يقول: ما هي أعماله؟ والأمريكي يقول: ما هي آثاره؟). أما نحن فنقول: من هو أبوه؟ لأن القاعدة عندنا اليوم، أن من قصَّر به نسبه أو نشبه، لم يسرع به علمه ولا أدبه!

فما هو الميزان الصحيح لأقدار الرجال؟

نقابة الأشرار:

ولولا أن الفضل عندنا بالنسب لما قامت قيامة جماعة منا، إذ ألغت الحكومة نقابة الأشراف، ولما نادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولما زعموا أنه هد ّركن الدين، وهوت قبة الإسلام، وأحدث الحدث الأكبر الذي لا يزيله إلا غسل صحيفة هذا القرار سبعاً إحداهنَّ بالأشنان والتراب الأحمر. . .

ولقد كانت نقابة الأشراف ملغاة فأعيدت من خمس سنين، فما خسرنا بإلغائها شيئاً في ديننا ولا في دنيانا، وما ربحنا بعودتها إلا ثمن عشرين ذراعاً من الحرير الأخضر اتخذها النقباء عمائم، ولا شئ فوق هذا ولا تحته. . .

وأنا أفهم أن يكون للمحامين نقيب لأن المحامين طبقة خاصة من لم يكن منها كان خارجاً عنها، وللأطباء نقيب، ولعمال الطباعة، وسائقي السيارات.

أما الأشراف. . .؟ فهل تريدون أن تسيئوا إلى الإسلام كذبا وافتراء فتوهموا الأجانب أن الشرف عندنا بالنسب؟ وأن من شعائر الدين أن يكون لأشرافكم هؤلاء. . . نقيب؟ وإذا كان الشيء يعرف بضده فهل يكون كل خارج عن هذه (النقابة. . .) غير شريف، أي رذيلاً؟ وهل ترون أن نطالب نحن أيضاً الحكومة أن تعمل لنا نقابة أرذال، أو إذا شئتموها على الوزن. . . (نقابة أشرار)؟

إنكم ستسبونني. . . الله يسامحكم! بسّْ قولوا لي من فضلكم: كيف لم يدرك الصحابة والتابعون أن الشرف بالنسب، وحسبوه (جهلا منهم) بالدين والمعاملة والتقوى؟ وكيف لبثوا في الصدر الأول الذي هو الخير القرون مئات من السنين بلا نقيب أشراف ولم تنقض عري الإسلام؟

كيف يا أيها السادة؟ كيف. . . بالله عليكم؟؟ ألم يخطر على بالكم ذلك أبداً؟؟

وظائف الإنشاء:

ودخل علىّ الطبيب، وهو ابن عمي ولِدَني ورفيقي في مدرستي، فرآني أكتب فقال: ما هذا؟ أتجبر نفسك على الكتابة وأنت مريض، أهي وظيفة إنشاء؟ قبح الله وظائف الإنشاء. قلت: ولم؟ قال: لأني ما أفلحت فيها قط ولا أحسنت كتابتها. قلت: ليس بعجيب وأنت طبيب أنك لم تكن تفلح فيها، ولكن العجيب بي أنا، إذ لم آخذ في الإنشاء مادون الدرجة الوسطى، ولم يكن معلم يعتقد أني أصلح للكتابة، وذلك أنهم كانوا يكلفوننا الكتابة في موضوعات لا يكتب فيها، ولقد سئلنا مائة مرة هذا السؤال: (ماذا تحب أن تكون في مستقبلك؟) كأن الدنيا تمشي على ما أحب وما أكره، وكانوا يقدرون الدرجة لا على حسن الكتابة بل على بعد المطمح. ولقد أبعدت فتمنيت أن أكون ملكا وحاكما بأمره وشيخ إسلام وقائداً فاتحاً وما شئت من بعيد الآمال فما أعجب المعلم شئ من ذلك، ولا أعجبه أن أكون معلماً ولا شرطياً ولا تاجراً ولا لصاً. وسئلنا عشرين مرة أن نكتب في (وصف روضة)، فكنت أكتب وصف بستان أعرفه، فيه مزبلة وراء الباب وساقية ماؤها عكر، وغربان تصبح على الأشجار، فلا يرضى عنه لأنه يريد روضة ماؤها سلسبيل وحصباؤها درّ. وعلى دوحها العنادل والشحارير، ومن أين أصل إلى هذه الروضة حتى أصفها؟ وأعجب من هذا أنهم كانوا يكلفوننا إنشاء الحوار علىألسنة الحمير والقطط وأنواع البهائم، وكيف لي بأن أفكر بعقل حمار حتى أتكلم بلسانه، كما يفكر الأستاذ المحترم حين يصحح الأوراق ويميز صادقها من كاذبها!

وما كان المدرسون ينظرون إلى صورة بارعة أو معنى مبتدع، إنما ينظرون إلى كلمة جاءت على غير الفصيح، أو فعل عدّى بغير الحرف الذي يتعدى به، هذا لأن المدرسين كانوا لا يفهمون إلا النحو والصرف واللغة، أما اليوم فلم يبق ولا هذا، مع الأسف، لأن أكثر المدرسين تعلموا العربية في باريس على أصمعي العصر الشيخ مارسيه. . . والذين نجوا من هذه السَّبة بعثهم الآن ليتعلموا في بلجيكا وسويسرا، أي والله، بل إن شيخاً مدرساً في الجامع الأموي، سيبعثونه ليتعلم علوم الدين في لندن!

على أن الذين تعلوا من طلابنا في الأزهر وجامعة مصر، لم يكونوا أقوى ولا أحسن من أولئك. . . وهذه كلمة حق قلتها ورزقي على الله!

قيمة الفلسفة والأدب:

ولعلّ المرض قد جعلني متشائماً أرى كل شئ في الدنيا أسود. . . وكذلك الإنسان يصيبه صداع يحتاج إلى حبة (أسبرين) أو إمساك دواؤه شربة (زيت خروع) فتبدل نظرته إلى الحياة وآراؤه فيها؛ فلو كان فيلسوفاً لكان متشائماً، ولو كان شاعراً لكان شاعراً أحزان، ولو كان قصصياً لكان مؤلف مآسٍ وفواجع. .

أفتكون قيمة الفلسفة المتشائمة والأدب الباكي، قيمة حبة أسبرين وشربة زيت خروع؟!

ثمرات درس الأخلاق:

ونظرت من الشباك أتسلى، وكان تحته كومة رمل أبيض وضعها جارنا ووكل رجلا وولده بنقلها إلى حديقته. فأقبل تلاميذ المدرسة، فقال عفريت منهم: تعالوا نسرق من هذا الرمل، فقالوا: إن الولد يرانا. قال: نعمل مثل الراعي الكذاب الذي قال لنا المعلم قصته، حين نادى: الذئب الذئب، فجاءوا فلم يروا شيئاً، وضحك منهم، فلما طرقه الذئب حقيقته ونادى لم يجئه أحد، قالوا: وكيف نفعل؟ قال العفريت: انظروا.

وأقبل كأنه يريد أن يسرق فنادى الولد أباه، فترك عمله في الحديقة وأقبل، فلم ير شيئاً ورأى التلاميذ يضحكون فرجع، وجعل التلاميذ يأخذون من الرمل والوالد ينادي فلا يردّ أبوه ولا يصدقه. .

وكانت هذه ثمرة درس الأخلاق في المدرسة!!

ألف جنيه مصري:

وتركت الشباك، وأخذت جرائد عتيقة فجعلت أصفحها، فوجدت في إحداها إعلانا عن جائزة قدرها ألف جنيه مصري لصاحب أحسن اقتراح يقدم إلى المجتمع اللغوي لإصلاح الكتابة العربية. . . فعجبت من هذه الخرافة التي لا تزال تتردد على الألسنة، خرافة فساد الكتابة العربية وحاجتها إلى الإصلاح، وكنا نعظم أن نسمعها من بعض الكتاب المجددين المفسدين، فانعكس الزمان حتى صرنا نسمعها من ألسنة من أقيموا حراسا للغة القرآن وتراث الجدود، بل لقد سمعنا من كبير فيهم قاصمة الظهر التي أنكرناها على الأتراك، وأذاقوهم غصصها، فلما أَبَتْها هذه الأمة وأبى لها عقلها ودينها قبولها، جاءوهم بها في ثوب جديد، هو إصلاح الكتابة، وأنا لا أدري والله أيجدّ هؤلاء القوم أم هم يريدون شيئا يعملونه ويتسلون به حتى لا يقال انهم يجتمعون على غير شئ، ويأخذون المرتبات في غير عمل، فإن كانوا جادين فليعلموا أن كل تبديل في كتابتنا مهما قلْ يقطع صلتنا بماضينا، ويجعل هذه الكتب بالنسبة للناشئ الجديد كأنها مكتوبة بالكوفي لا يفهمها إلا الخاصة، وهو كما يبدو أقصر طريق لإبادة كتب الدين واللغة، والقضاء على المكتبة العربية حتى تصير من الآثار القديمة، وتعود كأنها اللغة الأجنبية التي لا تفهم إلا بترجمة. ثم ما عيب كتابتنا؟ مالها؟ أنا أراها كاملة لا تحتاج إلى زيادة، صحيحة لا يعوزها الإصلاح، بل هي تفضل من جهات كثيرة كتابة الأمم الأخرى.

ومن قال لهؤلاء الناس المحترمين، إننا أتباع لهم في كل مايقررون، نطيع أوامرهم، ونمشي على آثارهم، ونأتم بهم: نركع إن كبروا، ونرفع إن حمدوا، كلا والله، ولو أن مصر - لا سمح الله - قبلت بهذا، ما قبلنا به نحن، ولا أقررنا أي تبديل في كتابتنا، لأننا نثلج بذلك صدور أعداء الله وأعداء العربية الذين لا يغيظهم منا إلا أننا نتمسك بماضينا وعلومنا، فنتخذ منها دافعاً إلى المعالي، وعاصماً من التردّي في هوّة الإلحاد والضياع.

ألا إن هذه الألف، وهي تعدل تسعة آلاف ليرة سورية وزيادة، ربح لمثلى عظيم، وثروة ما ملكتها قط، وإني أستطيع كما يستطيع كل واحد، أن يحصر ذهنه ساعة فيتخيل لهل نوعا من (الإصلاح. . .) كما يتخيل إصلاح رجل من الرجال بتقصير أنفه، وترقيق شفته، وتطويل قامته، ولكني لا أريد أن آخذ هذا المال حراما وقد جمع من أيدي الفقراء والمساكين، وبما كان ثمن ألف فراش بيع بالمزاد العلني، أخذ من تحت المكلف لما عجز عن أداء الضريبة. . . فإذا كان يزيد عن حاجتكم ولم يكن من إنفاقه بدّ فردّوه على هؤلاء الفقراء، فما زلنا نسمع منكم، وتقول جرائدكم، إن في مصر المرض والفقراء والجهل، فهل داويتم هذا كله وأصلحتموه ولم يبق إلا إصلاح الكتابة؟! يا سادة، إن الكتابة العربية التي صلحت خمسة عشر قرناً وكتب بها عشرة ملايين كتاب، تصلح قرناً آخر لتكتبوا بها كل سنة خمسة آلاف كتاب، منها كتب الكفر والتضليل والتقليد الأعور والسخف المضحك ككتاب (هذه هي الأغلال)!

فكفوا عنا، اتركونا. . . إننا راضون بما نحن عليه، فأريحونا واستريحوا!

(دمشق)

علي الطنطاوي