مجلة الرسالة/العدد 705/الإسلام في الهند

مجلة الرسالة/العدد 705/الإسلام في الهند

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1947



للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

- 1 -

فتح المسلمون إيران وامتد بهم الفتح إلى كابل سنة أربع وأربعين من الهجرة ثم هبطوا إقليم الملتان؛ ولكنهم لم يستقروا به.

وكذلك حاول العرب فتح الهند من الجنوب من حيث ينصب نهر السند في البحر فغزوا غزوات حتى اعدوا للفتح عدته في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك فسير الحجاج الثقفي جيشاً يقوده ابن أخيه محمد بن القاسم ففتح إقليم السند إلى الملتان؛ ولم يتوغل الفتح العربي في الهند حينئذ؛ ولكن استقر للعرب سلطان هناك زهاء قرنين وبنو المدن وعمروا الأرض.

- 2 -

وفي القرن الرابع الهجري عزم السلطان محمود بن سبكتكين ثاني ملوك الدولة الغزنوية على فتح الهند فأعد لفتحها واحتفل وحشد واجتاز الجبال إلى سهول الهند أكثر من خمس عشرة مرة ما بين سنة 391 و417 ففتح بنجاب وكشمير وكجرات. وبقيت بنجاب في سلطان الدولة الغزنوية حتى غلب الغوريون الغزنويين على غزنة دار الملك فاتخذوا لاهور حاضرة ملكهم سنة 553. فصار في الهند حاضرة دولة إسلامية لأول مرة في تاريخها، وقد مهد فتح الغزنويين وسيطرتهم في الهند أعظمها دولة سلاطين دهلي (من 603 إلى 962هـ) وهي أول دولة إسلامية نشأت في داخل الهند.

وقد فتحت هذه الدول شمالي الهند وبسطت سلطان الإسلام شرقا إلى خليج بنغاله.

- 3 -

وفي القرن العاشر الهجري توجه إلى فتح الهند داهية عبقري لا تنشئ الأجيال أمثاله إلا قليلا: بابر بن عمر بن أبي سعيد ابن محمد بن ميرانشاه بن تيمورلنك، ورث في سنة 899هـ وسنه اثنتا عشرة سنة إمارة في فرغانة وسمرقند، ولقي الصبي من جور أع ومن غير الدهر، وتقلب الحدثان ما ذهب بإمارته بعد أن جاهد فيها سبع سنوات، فبقي ثلاث سنوات شريداً في جماعة من خلصائه وجنوده، فلما يئس من إمارة أبيه أو كاد، وجه همته العالية، وعزيمته الماضية إلى كابل ففتحها سنة 910هـ.

ولما تمكن ملكه في كابل طمح إلى الأرض الواسعة سعة آماله وعزائمه؛ طمح إلى الهند فأخذ يغزو أطرافها سنة 925هـ، حتى مكنته سياسته وعزيمته أن يمحو دولة سلاطين دهلي في موقعة بانيبات الماحقة التي انجلت عن السلطان إبراهيم اللودي قتيلاً بين خمسين ألفاً من جنده.

ويوم الجمعة الرابع عشر من رجب سنة 932 بعد موقعة بانيبات بستة أيام خطب لمحمد ظهير الدين بابر على منبر دهلي.

وبعد سنتين مزق هذا القائد العبقري جموعاً حشدها أمراء كثيرون من أمراء الهند تألبوا عليه لدرء خطره: قاد سانجا زعيم أمراء رجبوت جيشاً فيه ثمانون ألف فرس وخمسمائة فيل ومائة وعشرون قائداً. فلقيهم بابر في كندها وأدار عليهم من جنده وشجاعته وتدبيره حرباً لا قبل لهم بها فهزمهم هزيمة قاضية سنة 934هـ.

وتوفي بابر سنة 937هـ في التاسعة والأربعين من عمره، وقد وضع القواعد لدولة استمر سلطانها في الهند حتى سنة 1275 (1858م). وهي الدولة التي اتسع سلطانها، وعمت سطوتها حتى خضعت الهند كلها لسيطرتها حيناً من الدهر، وما أعرف دولة في تاريخ الهند الجاهلي والإسلامي جمعت الهند كلها في سلطانها إلا هذه الدولة.

توالى على عرش هذه الدولة ستة ملوك عظام في مائتي سنة من بابر إلى محي الدين أورنك زيب، وقد عمل هؤلاء الملوك في سياسة الهند وعمرانها وإصلاحها ما لم يؤثر عن دولة أخرى.

سن هؤلاء السلاطين سنناً في الدولة حسنة، وسلكوا طرقاً في الإصلاح مأثورة، وجمعوا حولهم - ولا سيما جلال الدين أكبر الذي ملك خمسين عاماً - العلماء والفلاسفة والأطباء والأدباء من الهند وأقطار أخرى.

وجمعوا الصناع من شتى البلاد، وشادوا من الأبنية ما يزال قائماً يملأ الرائي عجباً ودهشة، وتملأ مسلمي الهند فخراً وعزة وجلبوا إلى الهند كثيراً من أنواع الحيوان، وأشجار الثمار والزينة، وأحسنوا الحضارة في كل مناحيها. فكان عهدهم أنضر عصور الهند فيما يعرف التاريخ.

- 4 -

كانت الدول الإسلامية في الهند خيراً لها وسعادة، جلبت إليها حضارات مختلفة، حضارات العرب والفرس والترك وحضارات أخرى أخذتها هذه الأمم عن غيرها.

كانت الدول الإسلامية في الهند قائمة بعدل الإسلام، رافعة راية الأخوة بين البشر والحرية للناس جميعاً بين أمم فيها العابد والمعبود، والمقدس والمنبوذ، والطاهر والنجس، وفيها السيد والعبد، والعزيز والذليل، وكانت داعية إلى التوحيد الخالص في بلاد تزدحم فيها الأوثان والخرافات والأوهام، وعملت ما علمه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من علوم وآداب وفنون وصناعات حتى لقد علموا تفصيل الثياب وخياطتها ولم يكن أهل البلاد بها عارفين. لقد عرفوا الإنسان كرامة الإنسان، وحرروا العقول من الأباطيل، وطهروا القلوب من الأرجاس، ونزهوا البشر عما لا يليق بالبشر، وسجلوا على التاريخ مآثر لا يزال يرددها مأثورة مشكورة.

- 5 -

ولا يزال مسلمو الهند اليوم، على كر العصور، وتتابع الخطوب، يؤدون واجبهم لدينهم وللناس جميعاً. لا يزالون يجادلون عن أنفسهم، وينافحون عن دينهم، ويدافعون عن حضارتهم، ويطمحون إلى المقاصد العليا التي يدعوهم إليها دينهم وتاريخهم وحضارتهم.

ولا تزال جماعتهم، التي تجمعها وتسوي بينها أخوة الإسلام، مفزع كل مظلوم، وملجأ كل يائس من العدل والحرية والمساواة. فمن لحق بهم ممن لاحق له، ولا حرية، ولا كرامة شملته الأخوة، وأظلته الحرية، وحي قلبه، وكرمت نفسه، ووجد السبل ممهدة له إلى أبعد الغايات، والسلم منصوباً أمامه إلى أعلى المطامح.

وأنا لموقنون أن المسلمين في الهند ماضون على خطتهم، سائرون على سنتهم، حتى يبلغوا المقصد، ويستولوا على الأمر، لخيرهم وخير الناس أجمعين.

عبد الوهاب عزام