مجلة الرسالة/العدد 705/المجدد المنتظر. . .
مجلة الرسالة/العدد 705/المجدد المنتظر. . .
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان المسلمون في الماضي كلما حزبهم الأمر، وبلغ اليأس بهم كل مبلغ، وجدوا في خبر المهدي الذي يأتي آخر الزمان، أو المجد الذي يبعث على رأس كل مائة سنة، ما يحي فيهم ميت الأمل، ويبعث فيهم الرجاء بعد اليأس.
وهاهم أولاء الآن قد حزبهم الأمر بما لم يحصل مثله في ماضيهم، فأصبحوا من الضعف بحيث طمع فيهم من لا ناصر له وغلب عليهم كل مغلب، وشمخ عليهم من ضربت عليه الذلة والمسكنة، فهم في أشد حاجة إلى من ينهض بهم من هذا الضعف فيصلح ما فسد من أمرهم، ويجدد ما بلى من أحوالهم، ويقضي على ذلك الجمود المميت، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويقود جنود الإصلاح إلى النصر، وينظم صفوفهم في الحرب القائمة بينهم وبين دعاة الجمود، حتى ينتظم ما تفرق من صفوفهم، وترتفع في الخافقين أصواتهم.
فهل يقوم لهم بذلك ما يرجونه من المهدي المنتظر، أو من المجدد الذي يبعث إليهم في رأس كل مائة سنة؟ والجواب عن ذلك يجرنا إلى النظر فيما مضى من أثر الفكرتين في المسلمين.
لقد نبتت فكرة المهدي المنتظر بين فرقة الشيعة من المسلمين فانتظروه شخصاً من آل بيت النبوة يوافق اسمه اسم النبي ﷺ، ويوافق اسم أبيه اسم أبيه أيضاً، فيكون إماماً معصوماً، ويكون مؤيداً فيما يقوم به من الله تعالى، ويكون له حكم المسلمين جميعاً، فيرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم.
ولا شك أن هذه أمور تغري النفس كل الإغراء، وتثير في كل شخص أن يكون المهدي المنتظر، لتكون له تلك القداسة الدينية، وليكون له ذلك السلطان على المسلمين، وكل ما كان من هذا القبيل يدخل فيه الاحتيال، ويستعان عليه بالتصنع، وما يدخل فيه الاحتيال لا ينطلي عند كل الناس، وما يستعان عليه بالتصنع لا يلبث أن يظهر أمره، فيفترق فيه المسلمون حيث يراد اجتماعهم، ويكون وسيلة خصام، لا وسيلة سلام ووئام.
وقد قامت محاولات كثيرة في ذلك كان الفشل نصيبها كلها ولم يستفد المسلمون منها شيئاً، بل كانت تزيدهم فرقة إلى فرقتهم وكان الخلاف يتسع بها بينهم، ولم تفدهم محاولة منه يطلبونه من إصلاح، ولم توصلهم إلى ما يريدونه من تجديد.
وكانت أول محاولة في ذلك من أبي جعفر المنصور ثاني ملوك بني العباس، وكان من قبله بني العباس قد وضعوا تنبؤات في ظهور أمرهم، وفي ظهور المهدي من بينهم، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس - والظاهر أنه موضوع عليه - أن أم الفضل حدثته أنها مرت بالنبي ﷺ فقال لها: إنك حامل بغلام، فإذا ولدت فأتيني به، فلما ولدته أتت به النبي ﷺ فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وألبأه من ريقه وسماه عبد الله، وقال: اذهبي بأبي الخلفاء. فأخبرت العباس - وكان رجلاً لباساً - فلبس ثيابه، ثم أتى إلى النبي ﷺ، فلما بصر به قام فقبل بين عينيه، فذكر ذلك للنبي ﷺ. فقال: هو ما أخبرتك، هو أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم.
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس عن أبيه أن النبي ﷺ قال له: اللهم انصر العباس وولد العباس - قالها ثلاثاً - ثم قال: يا عم، أما شعرت أن المهدي من ولدك موفقا راضيا مرضيا.
وكان أبو جعفر المنصور يسمى عبد الله، وكان له ابن يسمى محمداً، فأراد أن يجعل منه المهدي الذي مهدوا لظهوره بهذه التنبؤات، وكان أبو العباس السفاح قد بايع لأخيه أبي جعفر من بعده، ثم لابن أخيه عيسى بن موسى من بعد أبي جعفر، فلما صار الأمر إلى أبي جعفر المنصور عمل على أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأن يضع مكانه ابنه محمداً، فلقبه المهدي. وأشاع حوله تلك الأحاديث والتنبؤات التي ترمي إلى تقديسه وتعظيمه، وتشير إلى أنه يقوم بالأمر فيملأ الأرض عدلاً، ثم أخذ يرغب الناس فيه، ويجتهد في حمل وجوه دولته على الالتفاف حوله فلما تم له ما أراد من ذلك جعله من فعل الله تعالى، وأنه هو الذي أشرب قلوب الناس مودة المهدي، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا به، ولا يجري على ألسنتهم إلا ذكره، لمعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ثم أقدم على الغاية التي أرادها من ذلك، فأراد أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويولي مكانه ابنه المهدي، تنفيذاً لما أراده الله من ولايته، لأنه زعم أنه أمر تولاه الله وصنعه، ولم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة.
ولكن عيسى بن موسى لم ينطل عليه شيء من ذلك، ولم يذعن لهذا الاحتيال الظاهر من عمه أبي جعفر، ورأى أنه لا مهدي يراد، وإنما تراد ولاية العهد لا غير، والباطل يظهر أمره وإن حاول الناس إخفاءه، والحق لا يأتي بمثل هذا الاحتيال والتصنع ولا يقوم أمره على نقض العهود، ولا تستبيح دعوته الحنث في الأيمان.
فلم يزل عمه أبو جعفر يأخذه تارة بالقهر، وتارة بالإغراء، حتى خضع لما أراد، وترك ولاية العهد لابن عمه المهدي، فقام بالأمر بعد أبيه أبي جعفر، وإذا هو ملك كغيره من الملوك، لم يملأ الأرض عدلاً، ولم يحقق للمسلمين أملاً مما يرجونه من المهدي المنتظر، بل سار في الطريق التي سلكها من مضى قبله من ملوك بني العباس وبني أمية، وسلكها من أتى بعده من الملوك ولم يكن ما قام به المنصور من الدعاية له إلا أماني خادعة، واحتيالات لما أراده من قيامه بالأمر بعده.
وكذلك كان أمر كل من ادعى أنه المهدي المنتظر قديماً وحديثاً، يحاول في أمره أن يصله بأمر السماء، ليأخذ الناس بدعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ويحملهم على ما يريده من إذعانهم له، حتى يقيم فيهم ملكاً له ولأولاده، أو يجعل له سلطة دينية عليهم، فلا ينخدع به ذلك إلا من تنطلي عليهم خديعته، ويبقى جمهور المسلمين بعيداً عنه، لا يؤمن بخداعه، ولا يرى أن دعوته هي الدعوة التي يرجوها.
لأنهم يرجون إصلاحاً لا ملكا، ويريدون مصلحا لا يبغي لنفسه من الإصلاح شيئاً، ولا يجعله وسيلة لمآرب شخصية، دنيوية كانت أو دينية، حتى تكون دعوته خالصة لوجه الإصلاح لا يشوبها شك ولا تشوبها ريبة.
ولأنهم يرجون الإصلاح من طريق العلم والاجتهاد، ويريدون أن يؤمنوا به بالدليل والبرهان، لا بتلك التنبؤات الموضوعة، ولا بدعوى الولاية والتأييد من الله تعالى، لأن الإسلام قد أغلق باب الإقناع بهذه الوسائل بعد النبي ﷺ، وفتح باب الاجتهاد والإصلاح، وجعل وسيلته الإقناع بالدليل، حتى يؤمن الناس عن بصيرة، ويأخذوه عن علم لا عن تقليد، كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه دينهم، وكما كان الأصحاب يأخذون دينهم عنه.
ولأنهم يرجون مصلحاً ينهض بهم والزمان مقبل، والدنيا لا يزال فيها أمل، فيستردون به ما ضاع من مجدهم، ويعيدون به ما ذهب من عزهم، ويكون لهم في ذلك أمل كأفسح ما يكون الأمل، ويكون لهم فيه رجاء كأقوى ما يكون الرجاء. ويواتيهم فيه الزمان كما واتاهم من قبل.
ولا يرجون مصلحاً يأتي لهم في آخر الزمان، والدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، فلا يكون أمامهم من فسحة الزمان ما يشيدون فيه كما شيد آباؤهم، ولا يكون عندهم من بعيد الأمل ما ينهض بهم كما نهض بسلفهم.
وهذا إلى أخبار المهدي المنتظر لا يتفق المسلمون على التصديق بها، بل يذهب كثير من العلماء إلى إنكارها، ويرون أنها تنبؤات وضعت لأغراض سياسية، وقد أكمل الله الدين ببعثة النبي ﷺ، وقطع ببعثته حجة السماء على الأرض، ولم يبق بعده حاجة إلى اتصال بينهما، كالاتصال الذي تقوم عليه فكرة المهدي المنتظر.
أما فكرة المجدد الذي يبعثه الله في كل جيل من أجيال المسلمين، فلا تقوم على ما تقوم عليه فكرة المهدي المنتظر من دعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ولا يقصد صاحبها ملكاً بين الناس، ولا سلطة دينية ينتفع بها في دنياه، ولا يلزم أن يكون شخصاً من آل بيت النبوة، وإنما هو شخص من عامة المسلمين، كمل عقله، وسما علمه، وعرف الداء والدواء، وآمن بالتجديد والإصلاح، فقام يدعو إلى ذلك بالنظر والاجتهاد، ويؤيده بالدليل والبرهان، ويضحي فيه بنفسه وماله، ويستهين فيه بكل ما يلقى من كيد، وما يصادف من عناء، ويرجو من ذلك كله أن تظهر دعوته، وينتصر حقه على باطل غيره، فترتفع راية الإصلاح، وتنتشر دعوة التجديد، ولا يكون له بين المسلمين إلا شرف الجهاد، وحسن الذكرى.
وتلك كانت غاية الأنبياء والرسل من دعوتهم، من بعثة نوح عليه السلام، إلى بعثة محمد ﷺ، فيقول نوح لقومه في الآية (72) من سورة يونس (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين)
ويقول هود لقومه في الآية (51) من سورة هود (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون) ويقول الله تعالى عن النبي ﷺ في الآية (104) من سورة يوسف (وما تسألهم عليه أجر إن هو إلا ذكر للعالمين).
وهذا الإخلاص هو الوسيلة لنجاح الدعوة، وجمع الكلمة والثقة بالداعي، إذ لا مأرب له يشوه دعوته، ولا غاية له تشكك في أمره، وليس كالإخلاص في نجاح الأمور، ولهذا عول الدين عليه فيما أتى به من أصول وفروع، وجعله أساساً لصحتها، وركنا من الأركان التي تقوم عليها.
وقد آن للمسلمين أن يزيلوا م أدمغتهم فكرة المهدي المنتظر وأن يلبوا مجدداً ينهض بهم في هذا الزمان، لأنهم لا يجدونه إلا إذا طلبوه، وشعروا بحاجتهم إليه، وقد سبقت الإرهاصات وتوالت البشائر، والأمل قريب بنجاح الطلب، وظهور ذلك المجدد.