مجلة الرسالة/العدد 707/القصص
مجلة الرسالة/العدد 707/القصص
الصعلوك. . .
لجي دي موباسان
ترجمة الأستاذ أحمد عبد الرحمن
لقد عرف في حياته أياماً خيراً من هذه، على رغم ما به من عاهة وبؤس. كان قد فقد ساقيه وهو في الخامسة عشرة من عمره حينما صدمته عربة في شارع فارفي الكبير. ومنذ ذلك الحين وهو يطلب الصدقة ماضياً في الطرقات متنقلاً بين المزارع متكئا على عكازيه اللذين جعلا كتفيه يرتفعان إلى ما فوق أذنيه، فكانت هامته تبدو كأنها غائصة بين مرتفعين.
وإذ كان طفلاً لقيطاً قد عثر عليه راع يبيت في نفق، أمسية يوم الموتى فسماه معمده بهذا السبب نيقولا توسان. ثم كانت تربيته مما يجود به أهل الخير فنشأ بعيداً عن كل ثقافة مجرداً عن أية معرفة، قد جرى له هذا الحادث عقب شربه بعض أقداح من الزبيب قدمها إليها خباز القرية، وكان أضحوكة بين الناس ثم غدا ذلك الحين شريداً، فأنه لم يكن يحسن عملاً من الأعمال إلا أن يمد يده.
كانت البارونة أثاري فيما مضى قد تركت له إلى جانب حظيرة الدجاج بالمزرعة الملاصقة للدار كوخاً حقيراً مليئاً بالقش ينام فيه. وكان هو واثقاً في أشد الأيام مجاعة أنه واجد دائماً كسرة من الخبز وكوباً من شراب التفاح في المطبخ. وكثيراً ما كان يتلقى بعض الدريهمات من السيدة العجوز تلقيها عليه من أعلى الدرج أو من نوافذ حجرتها. أما الآن فقد ماتت هذه السيدة.
لم يكن يظفر بشيء في القرى. فلقد عرفه الناس جيد المعرفة وقد برموا به وعيوا بأمره منذ أربعين سنة وهم يرونه يتنقل ببدنه البشع وأثوابه المرقعة على أقدامه الخشبية بين الخرائب والأنقاض، ومع هذا فهو لم يكن يريد أن يبرح المكان. لأنه لم يكن يعرف على الأرض شيئاً غير هذه الزاوية من البلد، هذه القرى الثلاث أو الأربع التي قضى فيها حياته التسعة. لقد وضع حدوداً للأمكنة التي قد أعتاد أن لا يعدوها ألبته
كان يجهل ما إذا كان العالم يمتد إلى ما وراء الأشجار التي تحيط ببصره، ولم يكن يسائ نفسه في هذا الشأن. وحينما كان الفلاحون يضيقون بملاقاته على أطراف حقولهم وحافات إنفاقهم كانوا يصيحون به: لما لا تذهب إلى القرى الأخرى بدلاً من تنقلك هنا على الدوام؟ لم يكن يحير جواباً، بل يبتعد عنهم وهو يشعر بنوع من الخوف المبهم من المجهول، خوف البائس الذي يخشى أموراً كثيرةً لا يتبينها، كالوجوه الجديدة، أو اللعنات، أو النظرات المرتابة التي يرميه بها أناس لا يعرفونه، أو الشرطة الذين يمرون بالطريق اثنين اثنين، والذين كانت رؤيته إياهم تحمله بالغريزة على الإمعان في الشجيرات الوحشية أو الاختفاء وراء كومة من الحطب.
حينما كان يلحظهم من بعيد، ويرى بريق ثيابهم تحت أشعة الشمس، كان يجد للتو خفة غريبة خفة الوحش الذي ينشد الملاذ ويطلب النجاة. فينسلت من بيع عكازيه ويسقط على الأرض كالخرقة، ثم يتدحرج كالكرة ولا يلبث أن يتصاغر ويتضاءل كمنظر أرنب في حجرها وقد اختلطت أسماله القائمة بالأرض.
ومع هذا لم يسبق أن كان له معهم شأن من الشؤون. ولكنه كان يحمل هذا الشعور في دمه كما لو كان قد ورث هذا الخوف والمكر عن أبويه اللذين لم يعرفهما البتة.
لم يكن له بيت يؤويه، فلا سقف يغطيه ولا كوخ يضمه ولا ملجأ يحميه. كان في الصيف ينام في أي مكان. وفي الشتاء كان ينفذ إلى مخازن الغلال أو في زرائب الماشية بمهارة ملحوظة، كان يبادر دائماً إلى الفرار قبل أن يحس وجوده أحد. وكان يعرف الثقوب التي يمكن بواسطتها النفاذ إلى المنازل والأبنية. ولما كان طول استخدام عكازيه قد أكسب ذراعيه قوة غير عادية، فقد كان يصعد متسلقاً إلى سطوح الأهراء معتمداً على قوة راحتيه وحدهما حين يظل أحياناً أربعة أو خمسة أيام دون حركة حينما يكون قد جمع مؤونة كافية.
كان يحيا كوحش الغابة وسط الناس دون أن يعرف أحداً أو يحب أحداً. ولم يكن يترك في نفوس الفلاحين إلا نوعاً من الازدراء الخالي من الاكتراث، والبغض الذي يمازجه الأغضاء وقد لقب كلوش لأنه كان وهو يترجح بين قدميه الخشبيتين أشبه بالناقوس وهو يترجح بين محوريه.
وقد مضى عليه يومان لم يطعم فيهما شيئاً ولم يمنحه أحد شيئاً، فقد ضاق به الناس جميعاً وأرادوا أن يفارقهم ويذهب عنهم.
وكان الفلاحات يصحن به على أبوابهن حينما يرونه مقبلاً من بعد: ألا تريد أن تذهب عنا أيها الوغد، ألم أعطك قطعة خبز منذ ثلاثة أيام.
فكان يدور على وتديه، ثم يمضي إلى البيت المجاور حيث يستقبل كما استقبل في الأول.
وتصايح النساء من باب لآخر:
ليس من سبيل مع هذا إلى كفاية هذا المتبطل الكسول من الطعام طوال السنة.
ومع هذا فإن المتبطل الكسول كان في حاجة إلى الطعام كل يوم.
كان قد طاف في شوارع سانتهلير وفارفي وبييت دون أن يربح سنتيماً أو يحصل على كسرة من الخبز، ولم يبق له من أمل إلا في تورنولا؛ ولكن كان عليه أن يقطع إليها فرسخين على الشارع الكبير، وقد كان به من الإعياء ما لا يستطيع معه السير، إذا كان خاوي البطن كما كان خاوي الجيب.
ومع هذا فقد استأنف السير.
كان الوقت في ديسمبر. وكانت ريح باردة تهب فوق الحقول وتصفر من خلال الأغصان اليابسة. وكانت السحب تتلاحق وسط السماء القاتمة الغائمة مغذة في السير إلى حيث لا يعلم لها غاية، والمعوه يسعى ببطيء ناقلاً عكازيه الواحد بعد الآخر في جهد وإعياء متعمداً على ساقه الملتوية التي بقيت له والتي تنتهي بقدم بشعة المنظر قد لفت ببعض الخرق البالية.
ومن حين لآخر كان يجلس على حافة النفق ويستريح بضع دقائق. وقد ألقى الجوع في نفسه الكثيفة المظلمة شعوراً بالغم والحرج. ولم يكن يحمل إلا فكرة واحدة: وهي الأكل، وكلنه لم يكن يعرف الوسيلة إلى هذا.
وشعر بالألم والإعياء بعد مسير ثلاث ساعات على الطريق الطويل ولما بصر بأشجار القرية من بعد جد في السير.
وأجابه أول فلاح التقى به وسأله كلوش الصدقة.
ها أنت لا تزال على حالك القديم، أليس من سبيل إذن إلى التخلص منك؟
فابتعد كلوش وجعل يمر بالمنازل وينتقل من باب إلى آخر فيرده الناس رداً جافياً ويصرفونه دون أن يعطوه شيئاً، فيواصل مع هذا تجواله في صبر وإصرار، فلا يحصل فلساً واحداً.
ثم قصد إلى المزارع وجعل يعبر الطرق المبللة بالمطر، وقد أخذ منه التعب ونالت منه المشقة حتى ما يستطيع أن يرفع عكازيه ولكنه طورد في كل مكان فقد كان هذا يوماً من هذه الأيام التي يشتد فيها البرد وتشيع فيها الكآبة فتنقبض لها القلوب وتضيق فيها الصدور وتظلم لها النفوس ولا تنبسط فيها اليد لإعطاء أو معونة.
فبعد أن طاف بكل المنازل التي يعرفها قصد إلى حظيرة السيد (شيكيه) فاستلقى هناك في زاوية نفق عند طوال الحظيرة، وفك وثاقه كما كان يقال تعبيراً عن الكيفية التي كان يترك بها نفسه ويسقط بين عكازيه بأن يدفعهما من بين ذراعيه. ومكث وقتاً طويلاً لا يتحرك، وقد اشتد به الجوع وطغي عليه الألم، ولكنه كان من البلادة والسذاجة بحيث لا يستطيع إدراك ما هو فيه من بؤس وسوء حال.
كان ينتظر شيئاً مجهولاً، فلقد اعترته تلك الحالة التي نجدها كثير في أنفسنا وهي حالة الانتظار الغامض لشيء مجهول. كان ينتظر في هذا الركن من الحظيرة تحت هذا الجو القارس تلك المعونة التي يتوقعها المرء دائماً من السماء أو من الناس دون أن يسأل نفسه كيف ولماذا وعلى يد من ستبلغه، ومر به عدد من الدجاج الأسود يبحث عن غذائه في الأرض التي تطعم جميع الكائنات، وبي اللحظة والأخرى كانت الطير تميل بمنقارها فتلقط من الأرض حبة أو تصيب بعض الحشرات الدقيقة، ثم تواصل بحثها البطيء الوئيد.
وكان كلوش ينظر إليها دون أن يفكر في شيء. ثم عرض له (وأحرى أن يقال إنه أحس من أن يقال إنه فكر أو قدر) أن إحدى هذه الدجاجات يطيب أكلها إذا هي أصلحت وأنضجت على النار.
وما اختلج في نفسه قط إنه مقدم على سرقة ثم تناول حجراً كان على مقربة منه. ولما كان بارع اليد فقد أصاب للتو أقرب دجاجة منه. فسقطت على جانبها وهي ترفرف بجناحيها، وفرت بقية الدجاج متحاملة على مخالبها الدقيقة، وعاد كلوش فركب عكازيه ثم سار إلى حيث يأخذ القنيص بحركات أشبه بحركات الدجاج.
وما إن اقترب من الجسم الصغير الأسود وقد انتشرت على رقبته بعض النقط الحمراء، حتى تلقى في ظهره دفعة رهيبة أطارته عن عكازيه وأرسلته على الأرض إلى مسافة عشرة أقدام. وانقض السيد شيكه على السارق وقد اشتد به الغيظ وزاد به الغضب فأوسعه ضرباً. فكان وهو يضربه كالمطروق أو كمن به مس، كان يضربه كما يضرب كل فلاح من سرقه أو سلبه شيئاً، فانهال ركلاً ولكماً على المعوه الذي لم يستطع عن نفسه دفاعاً.
وجاء أهل المزرعة بدورهم فاشتركوا مع السيد في ضرب المتسول بما لديهم من الآلات، حتى تعبوا من ضربه، ثم حملوه إلى حظيرة الحطب فأودعوه فيها ريثما يرسلون في طلب الشرطة.
ومكث طريحاً على الأرض وقد سالت دماؤه وأهلكه الجوع وأشرف على الموت حتى جاء المساء ثم تبعه الليل وأعقبه الفجر دون أن يطعم شيئاً. وأقبل اثنان من الشرطة عند الظهيرة ففتحا بشيء من الحذر إذا كانا يتوقعان مقاومة. فقد زعم السيد شيكه أن الصعلوك قد هاجمه وإنه لم يدفع عن نفسه إلا بجهد جهيد.
وصاح به الشرطي أن قف.
ولكن كلوش لم يقو على الحركة. وقد حاول أن يتحامل على عكازه فلم يستطع؛ فظن الشرطة أنه يتصنع العجز ويلجأ إلى الحيلة وينوي شراً، فأمسك به الرجلان المسلحان بعنف وشدة وحملاه بالقوة على عكازيه.
وأذهله الخوف، هذا الخوف الفطري في نفسه من الحمائل الصفراء، خوف الطريدة من الصائد. أو خوف الجرذ من القط. فبذل جهداً خارقاً حتى استطاع الوقوف.
وأمره الشرطي بالسير، فسار على مشهد من عمال المزرعة وهم يرمقونه جميعاً بنظراتهم فكان النساء يشرن إليه مهددات، والرجال يتضاحكون ويسبونه ويحمدونه الله أن وقاهم شره وأراحهم منه.
ومضى كلوش بين حارسيه ولا يزال به رمق من حياة وفضل من قوة كان لابد منهما لكي يواصل السير إلى المساء، واستغلق عليه الأمر واشتد به الانزعاج بحيث لم يستطع أن يفهم شيئاً مما نزل به. وكان المارة يقفون في الطريق لمشاهدته ويتحدث الفلاحون عن لصوصيته؛ وبلغوا قصبة المقاطعة نحو الليل، ولم يكن قد سبق لكلوش أن بلغ قط إلى هذا المكان، فلم يكن يتصور ما وقع له ولا يفكر فيما عسى أن يحل به. وقد أصابه الوجود واستولت عليه الدهشة لهذه الحوادث المباغتة وهذه الوجوه والمنازل التي لم يكن له بها عهد.
ولم ينطق بكلمة واحدة، وما كان لديه ما يقوله إذ لم يكن يفهم شيئاً، وقد مضى عليه سنوات لم يتحدث فيها إلى أحد حتى فقد على التقريب سهولة النطق ومرونة اللسان، وكانت أفكاره من الغموض والاختلاط بحيث لا يمكن الإبانة عنها بالألفاظ وأودع في سجن القرية. ولم يفرض الشرطيان أنه قد يكون في حاجة إلى الطعام، ثم ترك إلى اليوم التالي.
ولكن حين جيء لاستجوابه في الصباح المبكر وجد على الأرض طريحاً وقد أسلم الروح، فيا للمفاجأة!
أحمد عبد الرحمن