مجلة الرسالة/العدد 707/يا ليل. . .!

مجلة الرسالة/العدد 707/يا ليل. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 01 - 1947



للأستاذ الأسدي محمد خير الله

- 2 -

المذهب السادس:

وقبل أن نمضي في تحقيقنا نورد هنا مذهباً لنا سادساً، كنا على أن نجهر به قبل أن نتولى البحث بما يفرده العلم من حجج، أي أننا كنا نتحسس به، كما هو شأن أرباب المذاهب المتقدمة، دون حجة ولا بينة، ذلك إننا كنا نرى في (يا ليل) مجرد إرسال النغم، أو قل: تجسيده بألفاظ لا معنى لها، شأن موسيقى اليوم لدى إرسالها بالنغم: لي للي لي لم.

والبحث الذي نستقبله كفيل أن يعلم أن الكلمة تنتمي إلى أصل ذي معنى، ثم استعملت لهذا التجسيد.

نعم كثر ما جاء في الغناء من ألفاظ لا معنى لها، غير أن (يا ليل) ليست من قبيلها. ومن هذه الألفاظ: (على يا در يا در يا در يابو العبيسية)، ومنها (دلي يا دلي دلعونا)، ومنها (ما يستعمله العراقيون في مقام البنج كاه - كما يحدثنا الصديق الطبيب رجائي - في قولهم: (هي داد بداد هي جان دلي دلي داد).

فالكلمة إذن ذات معنى مجهول سيأتي كشفه كما كشف لنا الأب بخاش عن سر (الله يسوي دوص دوص ها بيباها) الترتيلة المستعلمة في أعراس حلب دون غيرها.

مذاهب أخرى:

وهناك مذاهب سمعناها من شتى المصادر لا تنتمي إلى شيء مما يحفل به العلم، وهي أن أصل (يا ليل) يا ويلي (وشفيعه أن الحزن من مستلزمات الغناء العربي، ولا يزال العلويون يغنون:

ويل ويلي بوطنجو ... علا جنبو قريبينه

أو أن أصلها يا لآلئ جمع لؤلؤ، كأنما ينادي أحبابه الجميلين المشبهين اللآلي. أو أن أصلها يا آلي أي يا أهلي. أو أن أصلها يا لي بالي أي يا من أنت لي. أنشدني زجال لبناني في دار الأستاذ الفيكونت دي طرازي: قلتلا شو اسمك ... قالت لولو

قلتلا لي لي ... قالت لي: لا لا

وهو من تلاعب البديعيين، وقد سبق إليه.

أو أن أصلها يا أليلي بمعنى يا أنيني مما أيدلت نونه لاما، كقول أبن ميادة:

وقولا لها ما تأمرين بوامق ... له بعد نومات العيون أليل

أو أن أصلها يا ليل بكسر اللام: صنم أضيف إليه، كعبد يغوث وعبد مناة وعبد ود استعملت بعد التحريف للغناء، لأنه ربما يكون إلها للحب كما كان لليونان إله له. أو أن أصلها هلل العبرية، بمعنى سبح، وقد سميت مزامير داود تهليم، أو تصدر جل أبياتها بهللويه أي: سبحوا لله.

تحفيف في يا ليل:

لنمض بعد ما تقدم إلى مهمتنا في التحقيق، ولنتساءل: يا ليل: وأين يا ترى تردد يا ليل؟ أليست تردد في مطلع هذا الضرب الغنائي المسمى لدى العامة بالموال؟ حسن. لنبحث الآن عن الموال في معاجمنا العصرية التي فسحت بعض المجال للمفردات العامية. ها هم أولاء الأستاذة لويس المعلوف في المنجد، وفؤاد البستاني في منجد الطلاب، وحليم دموس في قاموس العوام ينصون في معاجمهم هذه على أن الموال والجمع المواويل محرف المواليا. لنركن إذن إلى هذا النص، ولو جدلا، ثم لنتساءل: ما المواليا؟ ذلك ما يجيب عنه الزبيدي أسمع مؤدي ما ينقل عن حاشية الكعبة للبغدادي، وإذا ذكرت البغدادي لا أتمالك من إبداء عاطفة الزهو والاغباط، إذ إنه احتفظ في آثاره بكثير مما وعته الخزانة العربية الضائعة. نعم لنسمع صدى البغدادي يقول: المواليا نوع من الشعر، اخترعه أهل واسط من مدن العراق، اقتطعوا من بحر البسيط بيتين، وقفوا شطر كل بيت بقافية، تعلمه عبيدهم والغلمان، وصادروا يغنون به على رؤوس النخل لدى جنيه، وفوق مراقي سلالم البناء، ولدى سقى المياه، وفي نحو هذا من الأعمال، وكانوا يرددون آخر كل صوت: (يا مواليا) إشارة إلى سادتهم، فسمى بهذا الاسم، ثم استعمله البغداديون فلطفوه حتى عرف بهم دون مخترعيه إلى أن شاع.

أقول: ولعل في المطلع القديم المشهور الماعا إلي ما ذكر: القول قول العجم: آه يا مواليا ... يا بيض لا ترحلوا ضلوا حواليا

ثم اسمع مؤدي ما يحدثنا به زيدان: وفي العصر المغولي الممتد من القرن السابع الهجري إلى القرن العاشر وضع ضرب من الشعر العامي يقال له: المواليا، كان في بغداد.

وها هو ذا ابن خلدون يقول: وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه الموليات، وتحته فنون كثيرة، يسمون منها القوما وكان وكان، منه مفرد ومنه في بيتين، يسمونه دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان، تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب. . . بمقتضى لغتهم الحضرية.

ثم يمضي ابن خلدون في سرد طائفة منها (نجتزئ) ذكر واحد:

طرقت بابا الخبا، قالت من الطارق؟ ... فقلت: مفتون، لا ناهب ولا سارق

تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق

والأبشيهي يعقد فصلاً لمختارات المواليا، نورد منها:

وقد أوعدونا الغضايا أننا نخلو ... في ظل بستان حافف بالتمر نخلو

والظل من فوقنا قد بلنا نخلو ... ومن كلام الأعادي قط ما نخلو

والبستاني يتحدث عن المواليا: وفي أصل المواليا أقول أشهرها أن هارون الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، فرثت إحدى جواريهم جعفراً بشعر غير معرب، حتى لا يعد شعراً، وجعلت تقول بعد كل شطر يا مواليا، قالت:

يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذين حموها بالقنا والترس

قالت: تراهم رمم تحت الأراضي الدرس ... سكوت، بعد الفصاحة ألسنتهم خرس

قال الأستاذ ويل وهو أول ما عرف من الموال. وقال مؤتمر الموسيقى، يقال إن أول ظهوره كان في بغداد، بعد الفتك بالبرامكة، قال الجلال في شرح الموشح (ثم ذكر القصة المتقدمة وزاد عليها):

قيل إن الرشيد حينما بلغه ذلك دعا الجارية، وأراد معاقبتها على مخالفة أمره، فقالت: يا أمير المؤمنين! أنت منعت رثاهم بالشعر، وهذا ليس بعشر لأنه لا يجري على الفصيح، فاقتنع.

والمواويل نوعان: الخضر والحمر، والنوع الأخير شائع في صعيد مصر، ويمتاز بالإكثار من التغيير في ألفاظ وقوافيه حتى تتجانس.

حين سرده بعض المعلومات المتقدمة ذاهباً إلى أن الاسمين لمسمى بعينه وأن الثاني محرف الأول - على ما نتصور - ثم زاد: والموال هو أحد الفنون السبعة المعروفة اليوم في الأغاني الشعبية بل هو أكثرها شهرة، تصادفه في كل مكان من العراق حتى مراكش، ومنشأه المدن خلاف العتابا الذي نشأ في الصحراء، ويجوز فيه استعمال اللغة الفصحى ولغة المحادثة. . .

ويكون غالباً من أربعة أشطر أو خمسة أو سبعة.

والقافية في الأول واحدة، أو يشذ عنها الشطر الثالث فقط.

وشاع استعمال ذي الأشطر الخمسة في مصر وتلمسان، والقافية فيه واحد دون الشطر الرابع، ويسمى بالموال الأعرج، وتلمسان تسميه بالخوفي. ومن الطريف أن نشير إلى أن ابن خلدون ذكر هذا الاسم وعده من فروع الموال، ولكن طبعة بولاق استبدلته بالقوما.

أما ذو الأشطر السبعة فيدعى بالموال البغدادي أو النعماني ويطلق مايسنر عليه اسم الزهيري (بالإمالة) أو الزهيري كما هو اسمه في بغداد، والقافية فيه قافيتان، فالأشطر الثلاثة الأولى بقافية، والأشطر الثلاثة الأخرى بقافية مغايرة، والشطر الأخير يرجع إلى القافية الأولى.

أما شهاب الدين في سفينة الملك فيسمى الموال المخمس بالأعرج، والمسبع بالنعماني مقتصراً على ذلك.

وعند جميع المحققين أن الفنون السبعة (المتقدمة) منها ثلاثة معربة أبداً، لا يغتفر اللحن فيها، وهي الشعر القريض والموشح والدوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبداً وهي الزجل والكان وكان والقوما، ومنها واحد هو البرزخ بينهما يحتمل الإعراب واللحن وهو المواليا، وقيل: لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة بعضها ملحونة، فإن هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز وإنما يكون المعرب منه نوعا بمفرده ويكون الملحون فيه ملحوناً لا يدخله الإعراب، وقد أوضح قاعدة الجميع وأمثلتها صفي الدين أبو المحاسن الحلي في ديوانه وسماه بالعاطل الحالي والمرخص الغالي.

انتهى حديث المصادر. ومنها يتضح صحة ما ذهب إليه معجميونا المعاصرون من أن الموال من المواليا، يؤيده:

1 - التقارب اللفظي بين الموال والمواليا.

2 - كون النظم في كليهما تعتوره العامية.

3 - كون الوزن في كليهما من بحر البسيط.

4 - كون أحكام القافية في كليها واحدة.

5 - كون الأعاريض في كليهما يشبهها ضربها.

6 - كون الأعاريض وضربها في كليهما فاعلن وفعلن وفعلان.

7 - أن في كليهما لازمة تردد: هناك يا موالي وهنا يا ليلى.

8 - أن المواليا والموال للغناء.

9 - الغناء في كليهما مرسل.

10 - أن كليهما مصدر بيا.

11 - إطلاق الموسوعة الإسلامية كلمة المواليا.

فإذا كانت هذه القرائن كفيلة أن تقييم الدليل على أن الموال من المواليا كان من الحق أن تحكم أن لازمة هذا لازمة ذاك، وبعبارة أوضح أن (يا ليلي) تحدرت من يا موالي محرفة مطورة تطوير الطبيعة حافر الفرس من زعانف السمك، ما في ذلك عندنا من ريب.

فالموال إذن من المواليا، لا فعال من موله بمعنى صيره ذا مال كأنما يمول صاحبه - كما يذهب الزميل الأستاذ أحمد إيرى - ولا أصله مؤول، لما أن القافية الأخيرة تؤول إلى القافية الأولى - كما يذهب الصديق الطبيب فؤاد رجائي -.

وظني أن لازمة الشرقاوي (يايابا) أو (ياياباي) عدول أتى به الأشراف أو غير الموالي، بعد أن تبوأ الموال مكانه في الغناء العربي، فكأنما أقاموا أباهم مقام المولى.

سبيلنا الآن بعد أن بلغنا غايتنا أن نعقد الصلة بين يا موالي ويا ليل - إن كان ذلك متاحا - الحقيقة أن كرور العصور وكثرة التداول طمسا معالم الأصل في يا ليلى ما خلا النداء واللام والياء فبعد الشبه، حتى لا تكاد تتوسم في هذا الفرع ملامح الأصل إذ ليس ثمة لون من ألوان الاشتقاق المعهود في اللغة يصار إليه، الأمر الذي يجعل الملتمس من وراء الطاقة، وإن كانت إجابة، فإنما هي ضرب من الظن والتخيل، إلا أن تذهب إلى أنه اشتقاق على غير حدود الاشتقاق القياسية، بل ما لنا نطلق كلمة الاشتقاق وللاشتقاق حدود، لنقل: هذه وتلك محرفة بعامل الزمن وبعامل كثرة الاستعمال، كما هو شأن هذه العاديات في المتاحف، وأجدني الآن على حفافي الاطمئنان، وقد لمع في مخيلتي غمر من الكلمات كان شأنها شأن هذا.

(البقية في العدد القادم)

الأسدي محمد خير الله