مجلة الرسالة/العدد 708/القصص

مجلة الرسالة/العدد 708/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 01 - 1947



غرامي الأول:

لذة الحب لحظة. .

للكاتب الفرنسي موريس دوناي

ترجمة المرحوم الأستاذ يونس السبعاوي

سأحدثكم عن حبي في أيام شبابي منذ نصف قرن مضى. ومالي لا أعيد تلك الصفحات وأنا أرى هذا الشباب الجديد سابحاً في عالم بعيد عن الشعر والخيال؟. . .

ومن حقه أن يكون كما تراه، فهو في زمن أزمات وضيق سدت في وجهه أبواب الأمل ونشرت على خطواته ظلام اليأس فلم يأمن على المستقبل ولم يطمئن إلى الغد.

منذ نصف قرن مضى كان العهد عهد خيال، وكان للنساء في أفكارنا وتصوراتنا مقام غير مقامهن في هذه الأيام، ولقد قرأنا الكثير من روايات الغرام، وكان أدبنا كما قال عنه (بركسون) شواني الاتجاه. فلا تقرأ فيه إلا ما يحدثك عن الحب والنساء.

عرفت إنجيل فكانت يوم عرفتها فتاة في الثامنة عشرة ولكنها جمعت نضوج النساء ودل وضعها على أن لها ماضياً ما حاولت أن أسألها عنه. وكانت تعمل في أحد محال الأزياء وتعيش مع أبوين فقيرين من عامة الناس. ولقد طالما سألت نفسي كيف استطاع هذان الأبوان البسيطان أن يلدا هذه الحسناء البارعة الجمال! فقد كانت تمثل في امتشاق قامتها واعتدال جسمها واتساق حركاتها نضرة الربيع فتفتن الناظرين بيدين ورجلين طويلة ناعمة وبشعر أصفر ذهبي وأنف صغير وعينين كبيرتين.

رأيتها لأول مرة في ثوب فتان وتحدثت إليها فلم أر منها ازوراراً عن أحاديث الأدب، وهي وإن لم تكن بارعة الثقافة فإن لها إلماماً بكل ما يتيسر لواحدة من طبقتها من العلوم. فكنت أنظم فيها الشعر فتقرأه وتلحن، وماذا يضيرني أن تلحن إنجيل وهناك كثير من الفتيات يقرأن الشعر أحسن قراءة فلا يجدن من يقول فيهن شعراً! وكانت تهوى الفن وملاعب الفنانين وتحب الموسيقى والشعر والرسم فتحب معها الموسيقيين والشعراء والرسامين، ولكنها تفضل الأخيرين لأن هذه الحسناء المفتونة بحسنها يعجبها أن ترى رسمها في صورة رسام أكثر مما تراه في أبيات شاعر أو أنغام موسيقى.

وكان لي أصدقاء من الموسيقيين والشعراء والرسامين فعرفتها بهم وأنا فخور، ولكن الغرور قرين الرعونة كما يقولون. . .

وكانت في أول أيام تعارفنا لا تعرف غير الأناشيد القديمة تعلمتها من روايات سخيفة فتنشدها بصوتها الهادئ الحزين فتخرج على تفاهتها حاملة للسامع كل معاني الحزن والألم، فأخذت بعد حين تحدثني عن أحدث الأناشيد وتنشد ما لم أكن قد سمعته، وأصبح صوتها شيئاً آخر غير ذلك الصوت الهادئ الحزين. وقد راعني هاذ منها ولكني لم اسألها عمن علمها هذا الغناء الجديد.

وسارت إنجيل على هذا المنوال فأصبحت تقرأ أحدث الروايات وولعت ببعض الكتاب دون أن أدلها عليهم، فأخذت أتلمس فيها تغيراً ورقياً كنت أعزوهما لتأثيري عليها فأزداد تيهاً.

ثم أصبحت تتغيب عن مواعيدي كثيراً. ولقد طالما انتظرتها حتى إذا ما دنت ساعة اللقاء جاءني منها كتابها الأزرق الصغير الذي أعرف خطها في عنوانه فأفتحه بقلب واجف وأقرأ ما فيه بهلع لأنتهي منه فأعرف ما كنت أخشاه، وهو أني حرمت متعتي في ذلك المساء فتنتابني الهموم وتساورني الشكوك فأسأل نفسي أين هي الآن؟ وماذا تعمل؟ وأكثر من هذه الأسئلة التي طالما رددها المحبون المظلومون وسألوا فيها عن أحبابهم الغائبين. وأعود إلى غرفتي فأجلس في مقعدها الوحيد ثم أحذ كتاباً فأحاول أن أقرأ فيه ولكن الأفكار تساورني من جديد فأسأل نفسي أين هي الآن؟ وماذا تعمل؟

ولقد ولعت من أيام الدراسة بالفريد دي موسيه فحفظت له (الليالي) عن ظهر قلب، وعودت قلبي على احتمال الآلام فكنت أذكر لقاءنا الأول وأيام حبنا الأولى فتأخذني الأفكار وتمر الساعات وتكون الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهكذا أقضي ليلة الفرح المنتظر في ترح وشجون وأبيت حليف الآلام والهموم.

وكان لي صديق ظريف كنت أتحدث إليه ذات يوم عن الحب والنساء فبادرني بهذا السؤال:

- أتجتمع كثيراً بإنجيل؟ - أجتمع بها ولكن أقل مما أريد.

- وهل تحبها؟

- وكيف لا؟

- وهل تحبك؟

- ومن يعرف حقيقة قلوب النساء؟ ولكن أعتقد إنها تحبني.

- وهل أنت واثق من إخلاصها لك؟

وسكت عند هذا السؤال وسكت معه طويلا، وكنت أعرف في هذا الصديق ميلا إلى المزح والنكتة، فأخذت أحدق فيه عسى أن المح علامات المزح فيما يقول فوجدت أثر الجد ظاهراً عليه ففار دمي وزاد ألمي؟ وأحس بهذا مني فأراد التراجع قائلا: إنه لم يقصد شيئاً بما قال. فألححت عليه أن يبوح بما يسر لأني أريد أن أعرف الحقيقة، فقد أصبحت من شهور رهين الوساوس والشكوك، وإن الذي ينقذني من هذه الشكوك يسدي إليّ جميلاً لا أنساه مدى الحياة.

فقال على عادته في المزح: تقصد أنك لا تنسى له هذه الإساءة ما دمت حياً. فقلت له: إنك لا تعرفني جيداً وإن عليك أن تبوح لي بكل ما تعرف.

وهنا أخذت أصف له آلامي وصفاً صادقاً. فرق لحالي وحمله قلبه الطيب أن ينير الطريق أمام هذا الصديق الأعمى؛ فراح يصف لي خيانتها وتعلقها الآن بصديق من أصدقائنا لا يخلو من الرقة على ضخامته.

والواقع أني لم تدهشني هذه الأخبار فقد أعددت لها نفسي من زمن فأشبعت رغبتي في معرفة أحوال إنجيل، ولم يكذبني صديقي فيما قال فقد سألتها أول مرة رأيتها فيها بعد هذا الحادث وطلبت منها أن تفصح لي عن الحقيقة فإذا بها تثور ثورة الملكة المغضبة وتركتني بلا كلام ولا سلام.

فعدت لنفسي وقلت إني قد أكون مخطئاً في حكمي، وإن من الخير لي أن أعرف الخبر اليقين من صديقها الجديد. فعثرت عليه في ليلة حالكة من ليالي الشتاء ودام بيننا الحديث ساعة أو يزيد وكنت أكلم هذا المنافس السعيد بصراحة تامة أملاً أن يصارحني بمثلها ولكنه أخذ يفند ما اتهمته به ويقسم أنه لا يعرف شيئاً مما قلت، وإن علاقته بإنجيل صداقة لا غير، ولكن اضطرابه واحمراره ومغالاته في التظاهر بالبراءة حملتني على الاعتقاد بأنه يكذب فيما يقول.