مجلة الرسالة/العدد 708/على هامش محاضرة:

مجلة الرسالة/العدد 708/على هامش محاضرة:

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 01 - 1947



الشر في طبيعة المستعمر

للأستاذ حبيب الزحلاوي

يحار المرء في تفسير ظاهرة الشر الواضحة في الشعوب الغريبة المستعمرة، أهي طبيعة أصيلة فيهم أم هي نتيجة مباشرة لعوامل الاعتداد بالقوة وحياة الترف ولوازم المدنية؟

لا شك في أن الشعوب الغربية المستعمرة بلغت من الرقي الاجتماعي ومن الآداب والعلوم والثقافة العامة والتسامي في التهذيب أو كادت تبلغ أوج التعاليم الإنسانية، فما السر في أنها تقتتل في الحروب قتال الإبادة والفناء والتدمير والتخريب، ويعمل الظافر فيها على سحق أخيه المغلوب؟

ثم ما بال هذه الشعوب الغربية كالجزار تعمل مداها في تلك الأغنام التي تدر الثروة عليها كلما أحست بحركة تدب في هذه القطعان؟ وما هي إلا الشعوب الشرقية الواقعة تحت سلطانها ودائرة نفوذها؟

أفهم أن يستمسك الوارث بما ورثه عن الآباء والأجداد، كما أفهم في طبيعة الغني القوي جشعاً يدفعه إلى تنمية ثروته وتوسيع جاهه ومد سلطانه كالشعب الإنجليزي المستعمر، أما الذي لا أفهمه ولا أجد سبيلاً إلى إدراكه فهو كيف يجوز لمبذر متلاف كالشعب الفرنسي الذي أضاع ما ورثه عن آبائه وأجداده وفقد بسفهه الأخلاقي والاجتماعي، كيف يسوغ له وهو القاصر المريض أن يزود بأسلحة الشر يعملها في رقاب من أرادوا الخلاص منه والإعتاق من رزاياه من سكان شمالي أفريقيا، خصوصاً وأن الفرنسي كالإنجليزي يستويان في ادعاء تهذيب الشعوب وتدريبها على الحكم الذاتي.

أفهم أن نهم الاستعمار يسيل لعاب الإنجليزي ويدفع يده إلى امتلاك كل بقعة من الأرض مجاورة لما اغتصبته يده من قبل، ولكل قطر سهلا كان أو جبلا، نهراً أو قناة، يقع في طريق إمبراطوريته المترامية الأطراف.

أفهم ذلك والإمبراطورية البريطانية خارجة ظافرة من حرب بذلت في سبيلها مهجاً وأموالا، واكتسبت من جرائها عطف العالم وإعجابه بها، وبذلك لا أستغرب أن أراها تمد يدها تنتزع قطراً من هنا وتحتل مقاطعة هناك، وتتطلع إلى ما هنالك، وهي تتذرع برو الديمقراطية وإسعاد البشرية وتهذيب الشعوب وإنقاذها من الخوف والمرض والجوع، إنما الذي يدهشني حقاً هو أن أرى دولة فرنسا في حال من الهوان والبؤس والذل، والفقر والضعف والجوع، ومن الضعة الروحية والفاقة المعنوية، يدهشني أن أراها تشمر عن سواعد نخرة بالية تحمل سلاحاً فتاكا ترمي به العزل من أبناء تونس والجزائر ومراكش، قطعانها التي تعيش على صوفهم وتشبع من لحومهم كأنها تنتقم من الألمان وقد داسوا كبرياءها بحوافر خيولهم.

حفزني إلى هذا التساؤل والاستطراد محاضرة سمعتها من الأستاذ محمود عزمي ألقاها في نادي الرابطة العربية عن مشاهداته في شمال أفريقيا فبدا لي أن أقارن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في طريقة استعمارهما الشعوب الشرقية المستضعفة الواقعة تحت حكمهما، مكتفياً بهما وحدهما، لأن الحكومات الأوروبية المستعمرة الأخرى وإن كانت أكثر ظلماً، وأوفر شراهة وجشعاً، تهتدي دائماً بهدى الإنجليز والفرنسيين في استذلال الأمم واستعبادها، وتحذو حذوهما في كل ما يقترفان من شرور ومظالم وما يدبران لها من أغشيةللتضليل والتمويه.

نعرف أن السياسة الإنجليزية رأت أن تقف سداً دون انتشار التعليم في مصر فرمت وزارة المعارف بطاغية يدعى دنلوب عمل جاهداً على أن يجعل من النشء الجدد موظفين لدوائر الحكومة محدودي المعرفة مسلوبي الإرادة.

وما كنا نعرف قبل أن عرفنا الأستاذ عزمي أن الفرنسيين في تونس والجزائر ومراكش لا يسمحون بإنشاء مدرسة ابتدائية أو ثانوية إلا بإذن خاص من المقيم الفرنسي العام، وما أندر ما يأذن ذلك الحاكم الأجنبي بافتتاح مثل تلك المدارس بحجة أن التعليم يجب أن يبقى قاصراً في الكتاتيب على حفظ القرآن، وأن ما نسمع عن المدارس العالية هناك فإنما أمرها بيد الفرنسيين وحدهم وأن برامجها موضوعة وفق مشيئة الروح الاستعماري وهو ولا شك أضل وأسوأ من مشيئة دنلوب.

نعرف أن الشعوب الشرقية التي يحتل الإنجليزي بلادها يحكمهم وفق قوانين موضوعة ومحاكم قائمة وأحكام تنشر وتذاع، بيد أن أقطار شمال أفريقيا تحكم، كما روى الأستاذ عزمي، بغير قوانين، وأن ليس في (رباط) قانون عقوبات، إنما لها محاكم شرعية تحكم في الأحوال الشخصية وتفصل في الملكيات الوراثية، ولها محاكم أخرى تسمى محاكم الباشا عليها مراقبون فرنسيون من رجال الإدارة يرشدون الحاكم المدني إلى الحكم على المتهم.

نعرف أن الإنجليز في مصر من حاكمين ومقيمين أقل الناس استملاك واستثماراً الأراضي الزراعية، بيد أن الحال يختلف مع الفرنسيين من حاكمين ومقيمين في شمال أفريقيا في امتلاك الأرض، وقد سمعنا من الأستاذ المحاضر أن المستعمر الفرنسي يملك الأرض ويستأجر الأهالي لاستغلالها بأبخس أجر ويقرضهم مالا لا يقوون على سداده، وبذلك المال المقرض يبقى الفرنسي المالك قابضاً على عنق المغربي الأجير طول حياته.

نعرف أن المندوب السامي الإنجليزي في مصر حاكم يربض وراء الستار يعمل متوارياً ما يصون مصالح حكومته ومنافعها، وما عرفت مصر مندوباً سامياً يحمل عصا الديكتاتورية المقنعة سوى كرومر، وكتشنر واللنبي، وقل من عرفت منهم من عاش في ظل الأحكام العرفية في أيام السلم. بيد أن الحال في بلاد المغرب تستوي في السلم وفي الحرب، فأن الأحكام العرفية هناك معلنة منذ عام 1912 وحجة الفرنسيين في إعلانها كما قال الأستاذ عزمي أنها تمنح القيم العام حرية مطلقة في الحكم والتصرف الإداري ولولاها لوجب عليه أن يراجع باريس في كل كبيرة وصغيرة من شؤون السياسة والإدارة والقضاء.

نعرف أن الإنجليز في مصر منعوا الخديوي عباس من العودة إلى بلاده وأنهم خلعوه من ولايته الشرعية، وأنهم هيئوا أحد راجات الهند لاعتلاء العرش المصري، وأن السلطان حسين أنقذ البيت المالك بقبوله ولاية السلطنة إبان الحرب العالمية الأولى، وإننا نعرف جيداً أن حادث شهر فبراير المشؤوم ثابت في ذهن كل مصري، ونعرف فوق ذلك أن الحكومات المصرية التي تولت الحكم إبان الحرب الأخيرة أبت على الحكومة الإنجليزية الاشتراك رسمياً معها في الحرب مستمسكة بمعاهدة 1936 التي تنص على حرية الحياد، وعرفنا أن الحكم الفرنسي يستوي والحكم الإنجليزي في معاملة الحاكمين، حدثنا الأستاذ المحاضر عن (المنصف) باي تونس قال: التزم هذا العاهل المخلص لوطنه شروط الحياد التام لبلاده، وقد أبى على الألمان ما أباه على الأمريكان والإنجليز، وقد وقف كذلك في وجه الفرنسيين يصدهم عن تجنيد أبناء رعيته، وقال: كان الجنرال جيرويداً من أيادي المرشال بتان وذنباً من أذناب حكومة فيشى، وأن هذا القائد عندما جاء تونس لينضم إلى الجنرال ديجول أو يعمل معه، كان أول ما عمله ترحيل المنصف الباي إلى فرنسا وأنه احتجزه في الصحراء ستة شهور حتى اضطره إلى كتابة صك تنازله عن العرش، وعندها حملته طيارة إنجليزية إلى باريس تحرسها شرذمة من الجند البريطاني، في حين أن الضباط الفرنسيين والطيارين الفرنسيين رفضوا نقل هذا العاهل المحبوب من شعبه ومن كل من عرفه أو اقترب من بلاطه.

يعرف كل من عاصر الثورة المصرية عام 1919 أن أحداث السنوات الخمس التي تلتها كانت أحداثاً جساماً، وأن الإنجليز لم يجابهوا الثورة مجابهة إلا عندما كانوا يدعون دفع الأخطار عن مصلحتهم أو يتذرعون بحماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم، وعندها كانوا يمتشقون السلاح يعملون به ما يتوهمون أنه يقضي علي روح الثورة المتأججة. فكم من دماء أهدرت، وشباب ذوى، وأمهات ثكلت، وزوجات ترملت، وأرواح صعدت إلى باريها تشهد على ظلم الظالمين! وكم من صفحات أضيفت إلى تاريخ الاستعمار البريطاني سطرها اللورد اللنبي بسيفه وقد حاول المرشال ويفل تبريرها وتعزيزها بقلمه، وما تلك الصفحات سوى شهادة صادقة على خنق حرية الشعوب الفتية بأيدي دعاة أنصار الحرية.

أما موقعة الجزائر الأخيرة فقد رواها الأستاذ محمود عزمي، وعززها الأستاذ أمين الجامعة العربية. قال الأول: فعلت دعاية الحلفاء فعلها في نفوس المغربيين وتأثروا كما تأثر سواهم بميثاق الأطلنطي. وسحرتهم الديمقراطية الفاتنة واجتذبتهم الحرية، فما إن ألقى الغربيون المتحاربون سلاحهم حتى هب الشعب الجزائري هبة واحدة يظهر شعور الفرح والغبطة بدنو الحرية، فمشى في الشوارع أفواجاً منظمة يحمل أبناؤه الأعلام واللافتات فيها دعاء للحرية ومطالبة بالاستقلال.

هال المستعمر سماع صوت الشعب وحرارة ندائه فأمر القيم العام البوليس بتفريق المتظاهرين وتمزيق أعلامهم ولافتاتهم، فنفذ البوليس الأمر بغلظة وقسوة. هاج الشعب وغضب لهذه المقابلة الظالمة فعاد ثانية إلى التجمع والمناداة بغضب للحرية والاستقلال، فقابلهم البوليس ثانية برصاص البنادق، ففر الشعب إلى الضواحي يصب غضبه على بيوت الفرنسيين.

قامت قيامة القيم العام فأمر الجيش بإخماد الثورة. . . مشى الجيش بجانبه أصحاب الأراضي من الفرنسيين وقد نضو ثيابهم المدنية وأخذوا يعملون سلاحهم معه في رقاب الآهلين ونيرانهم في أكواخهم، وما زالوا بهم تقتيلا وتحريقاً حتى طرحوا بقاياهم في الصحراء وقد انجلت الواقعة عن ثلاثين ألفاً من القتلى.

وقد عزز هذه الحكاية سعادة الأستاذ أمين الجامعة العربية بقوله: لما كنت في باريس حادثت أولى الأمر هناك بهذه الواقعة المخزنة فلم أسمع منهم إنكاراً لها، ولكنهم قالوا إن فيها مبالغة، والحقيقة التي اعترفوا بها هي أن عدد القتلى لم يتجاوز الثمانية عشر ألفاً!

وددت لو اتسع المجال لعرض كل ما سمعت من الأستاذ المحاضر ومقارنة أعمال المستعمرين بعضها ببعض، ولكن ما إلى هذا رميت، ولا إلى التشهير قصدت، إنما مرماي هو كشف النقاب عن الظلم الكامن في نفوس الغربيين المستعمرين، ثم ما هو الواجب علينا حيالهم.

أنا لست مؤمناً بالإنسان ولا بعلومه، ولا بعقله، وقد كشف الكثير من أسرار الطبيعة، وأنكر كل الإنكار المدنية والحضارة والتهذيب والكياسة وكل الأخلاق الفاضلة في الشعوب الأوروبية التي لم تقو على محو روح الشر المتأصل فيها ولا اقتلاع جذور الظلم الكامن في جوانبها، ولا هبوط حمى الجشع المستعر في ضلوعها، إنما أومن عن عقيدة بأن الشر يدفع الشر وأن الظلم لا يقتله إلا الظلم.

حبيب الزحلاوي