مجلة الرسالة/العدد 709/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 709/الأدب والفن في أسبوع
تراجم جديدة للقرآن:
ظهرت أخيراً ثلاث تراجم للقرآن الكريم، الأولى باللغة الإنجليزية، وقد قام بهذه الترجمة الشيخ عبد الله يوسف من رجال المفوضية السعودية بالولايات المتحدة، واشرف على طبعها الشيخ خليل الرواف، وتقع هذه الترجمة في مجلدين يشتمل كل منهما على ألف وخمسين صفحة. والثانية باللغة الفرنسية، وقد قام بطبعها المستشرق (ريجيس بلاشير) أستاذ الأدب العربي في معهد الدراسات الإسلامية بباريس، ومؤلف كتاب (نقاد المتنبي).
والثالثة باللغة الأسبانية وقد قام بها الأستاذان (سيف الدين رحال) و (ستنيا غوم بير الله)، وتقع في ثلاثة أجزاء، وقد كتب المترجمان للترجمة عدة مقدمات باللغتين الأسبانية والعربية تناول فيها أعجاز القرآن وتاريخ الأنبياء وروح الإسلام وما تضمنه القرآن من نظريات في العلم والاجتماع والعمران.
وللقرآن تراجم كثيرة في كل لغة، ثم هو لا يزال مقصد المترجمين وموضع اهتمامهم، ونحن نذكر انه منذ سنوات قامت ضجة كبيرة في مصر بين العلماء حول ترجمة القرآن، ونذكر أن الرأي اتجه يوم ذاك إلى ما سموه بترجمة معاني القرآن، ووضع مشروع رسمي لهذا، والفت لجنة من المختصين لتضطلع بهذه المهمة، وارصد لها المال اللازم في ميزانية الدولة، وقالوا إن هذه اللجنة باشرت عملها فعلاً، وانتظرنا، ثم انتظرنا، والى اليوم لم نر أي اثر لهذه الكلمة ولم نسمع أدنى خبر عن تلك اللجنة!! ولسنا ندري ما الذي عطل ذلك المشروع وعاق سبيله.
إن ترجمة القرآن، أو معاني القرآن كما يقولون أصبحت ضرورة لازمة وواجباً يتحتم علينا أداؤه، وإن من المحتم أن تكون هناك ترجمة مقومة مصححة ينهض بها علماء ثقاة في علوم القرآن إدراك أسراره، ويجب أن تكون هذه الترجمة بجميع اللغات الحية الذائعة، أما نظل جامدين، ونترك الباب مفتوحاً للمستشرقين ولغيرهم من أصحاب الجهود الفردية يترجمون القران كما يشاءون وعلى قدر ما يفهمون فإننا لا شك نجني على القران الكريم بجمودنا وإهمالنا. وإذا كان الأزهر - وهو أكبر جامعة إسلامية - لم يستطع أن ينهض بهذا، ولم يمكنه ان يمضي في ذلك المشروع الذي وضع من قبل، فإن لنا كبير الأم الجمعة العربية أن تجعل هذه المهمة ضمن غايتها الثقافية.
مصر التي علمت العالم:
أشرنا في عدد سابق إلى وصول الأديب الفرنسي الكبير (جورج ديهاميل) إلى مصر، وقلنا أنه سيذيع في مصر عدة محاضرات ثقافية، ونقول اليوم انه ألقى فعلاً ثلاث محاضرات كلها إشادة بالثقافة الفرنسية وتمجيد لآثارها في الفن والأدب وخدمة الإنسانية، ولكن أسلوب (ديهاميل) الرائع البارع يضفي عليها جدة وخلابة، وقد عرض (ديهاميل) في إحدى محاضراته هذه إلى الحديث عن مصر القديمة بأسلوب طلى فقال:
(قلما تدهشني مناظر الأرض حين أراها من عل. حقاً إنها تبدو في هذه الحال غريبة بمقتضى مقاييسنا الإنسانية، وكثيراً ما أكون كلفاً بهذه الجغرافية المجردة، ولكني لا أتأثر بها إلا نادراً، ومع ذلك فقد شعرت بتأثير لا شك فيه عندما تكشفت لي دلتا النيل فجأة، بعد أن أمضيت ساعات فوق صحراء جرداء عابسة. ولست اعزوا هذا التأثير إلى شعوري باني استعدت مرة أخرى الحياة والخضرة وهما رمز الرجع الأبدي، كلا! فإن الذي هزني وغير إحساسي فجأة أن ألمح هكذا وبنظرة واحدة بعد التنقل من حال إلى حال، إحدى البقاع المقدسة التي انبعثت منها حضارة الغرب، وهي مصر. . .)
(لقد تشكلت هذه الحضارة وتهذبت في بطأ على ضفاف النيل، ثم انتشرت - كمياه النهر الكبير - في شرق البحر المتوسط، فبلغت الجزر، وامتدت إلى أسيا الملساء، وغزت شيئاً فشيئاً كلما سماه (فاليري) بحق: قارة البحر المتوسط، ومن هذا المكان قفزت إلى أوربا كلها ومن شواطئها وثبت إلى القارات الأخرى ثم تهذبت هذه الحضارة تهذيباً واسعاً على ممر الأيام، وظلت مصر التي كانت لها في العهد القديم مكانة مرموقة وهي غريبة عن أجيالنا، فقصارى القول أنها ظلت في الظاهر - على الأقل - بعيدة عن الإسهام في بناء القريب الذي كرست له كل شعوب الغرب جهودها).
(ولكن مصر البدائية هذه التي تبدو لنا غامضة كالطلسم، والتي يتعذر فهمها على الرغم من جهود العلماء التي تبعث الاعجاب، قد علمتنا درساً كبيراً في الماضي، ولا تزال تعلمنا هذا الدرس إلى اليوم، والى أخر الدهر، هذا الدرس الذي يخطئ هذا المجتمع المتحضر كل الخطأ إذا هو غمطه، فقد أرتنا منذ بداية تاريخ أن من أهم ما يجب على الإنسان أن يجاهد من اجله، هو أن يستخلص من النسيان شيئاً، وان يخلف من شخصه أو من جهده أثراً خالداً. وكثيراً من الناس يشيرون في كل وقت إلى الخلود والأبدية، ولكن كثير منهم لا يفرقون بين الخلود والابدية، فهم حين يستعملون هاتين الكلمتين اللتين تبعثان في النفس الرهبة والخشية إنما يعربون في بساطة ساخرة أو مستترة عن اعتقادهم فانون، وعن رغبتهم كذلك في أن يظلوا أحياء بعد موت غيرهم، ان لم يكن بأشخاصهم فلا أقل من أن يكون بأثر من آثارهم يحيي ذكراهم بعد مماتهم. .).
(. . ذلك هو الدرس الذي تلقيه علينا مصر القديمة، وقد عرفته من أول زيارة لها، فابهرني وأنا انظر من أجواء عالية فأرى النهر القديم ينساب في جلال بين آثار إنسانية باقية. ولا شك عندي أن أكثرها دواماً وخلوداً تلك التي خلفها لنا الألى لا نكاد نعرف عنهم شيئاً إلا انهم دفنوا أحقادهم وكل أمر يدعو إلى الخصام. .).
كتاب له قصة:
في العدد السابق من (الرسالة) أشرت إلى ما نهض به السيد محمد كرد علي بك في نشر وتحقيق كتاب (المستجاد من فعلات الأجواء) للمحسن بن علي التنوخي، واشتدت بهذا الصنيع على أنه مأثرة حميدة في خدمة التراث العربي، وبعث آثاره المطمورة، ووصل حلقاته المفقودة.
وقد حدثني الأديب الفاضل بقصة عجيبة غريبة عن نشر هذا الكتاب: (لقد كانت الفكرة في هذا فكرة الأديب الباحث السيد صقر، فهو الذي جمع أصول الكتاب وقام بتصحيحه وتحقيقه، وتأهب لنشره، وأعلن لذلك في الصفحة لأهل العلم والأدب، وكان قد التقى في العام الماضي بالسيد كرد علي بك واطلعه على هذه الغاية، وطلب منه ان يفيده بما لديه من خبرة في ذلك. . ومضت ايام، وبينما الأستاذ صقر ماض في خطته إذا بنبأ من الشام يقول حسبك، فإن الأستاذ كرد علي قد قام بنشر الكتاب. وان أخانا صقر لحائر فلا يدري ماذا يصنع؟ أيصرف نفسه عن هذه الغاية على ما بذل في الكتاب من جهد وعناء، أم يقول بنشر الكتاب وفيه ما أسدى وأفاد)
قلت إنها قصة تروى. . وإني لأعرف من أمثالها كثيرات، ولكن أقول ما قال (الجاحظ) من قبل (ولولا ان أكون عياباً، وللعلماء خاصة، لأريتك من هو أبو عبيدة، ومن هو في وهمك ابعد من أبي عبيدة).
فحسب أخينا الأديب صقر ما قدم، ولعله يحتسبها إحدى (فعلات الأجواد) وان كان صنيع شيخنا كرد علي ليس (بالمستجاد) وان مما يروى عن أبي عبد الله بن الزبير انه دخل على معاوية فأنشده لنفسه.
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضميه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
ثم دخل معن بن أوس وانشده قصيدته التي مطلعها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
حتى أتى عليها وفيها البيتان السابقان بلفظهما، فاقبل معاوية على عبد الله بن الزبير الم تخبراني انهما لك! فقال: نعم، هو أخي من الرضاع، وأنا أحق الناس بشعره!. .
حرية الرأي والحكومة:
اخرج الأديب اللبناني الأستاذ (مارون عبود) كتاباً بعنوان (الرؤوس) تناول فيه العرب وعاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم وأوضاعهم بأسلوب سفساف، تجاوز الحق والأنصاف
وقد تناولت إحدى المجلات (السورية) هذا الكتاب بالنقد، فوصفته بأنه (باطل جريء في لفظ بذيء)، ونعت على مؤلفه أن يشوه الحقائق استجابة لنزعة طائفية ممقوتة، ثم قالت: (ونحن نلفت نظر حكومة لبنان الرشيدة إلى ان الحرية لا تمنح إلا ضمن إطار محدود ومقيد فمجال الأدب والأديب يتسع لكل قول لأن الأدب والأديب ليس وقفاً بين حدود طبيعية، ولكن العناصر والأجناس والأديان والرسل لها مكانها التي يجب أن تحفظ ويجب بالتالي أن يراقب كل ما يكتب بشأنها)!
وأنا أقول كلا، فإنه مهما كان من إسفاف الرأي وضلاله، وتهافت الحكم وانحلاله، ومهما كان من المؤلف في التجاوز والشطط والخلط، فلا يصح بحال ان نستعين عليه بالحاكم ليردعه، وبصاحب السلطان ليقنعه، وإلا كان هذا اعترافاً منا بان للرأي الفاسد قوة تمكنه من البقاء، وتستحق منا كل هذا العناء.
لقد كان (ابن الراوندي) اشد إسفافاً وأحط صنيعاً، فكان يصبح مع المسلمين، ويضحي مع النصارى، ثم هو في الظهيرة مع اليهود، وفي المساء مع المجوس، ولا ادري مع أي طائفة يكون في الليل، وكان يؤلف الكتب لكل فرقة هواها، فكان يلعن كل دين، ويطعن في كل نبي، ويصب على رؤوس الأجناس والعناصر السباب والشتم، ومع هذا كله فقد وسعه الإسلام بسماحته، واحتمله الحكم الإسلامي وهو في عنفوان صولته، ثم مات (ابن الراوندي)، وطارت كل اثاره ومؤلفاته هباء في الهواء، ولو كان منها شئ ينفع الناس لمكث في الأرض. .
ليس للفكرة التافهة أي ضمان للبقاء إلا إن نأبه بها، ولولا أن (ابن الخياط) رد على (ابن الراوندي) في كتاب (الانتصار) وتناولت أراءه بالتفنيد، لما بقى ظل لتلك الآراء على الأرض، فهل تريد الزميلة السورية أن تجعل (لرؤوس مارون عبود) رجع الصدى فهيبة بالحكومة اللبنانية لتمحيصها ومحاسبته عليها؟
فن وتجارة!. .
أرسل الأستاذ يوسف وهبي بك بوصفه نقيباً للمثلي المسرح والسينما البرقية التالية إلى معالي وزير الشؤون الاجتماعية نشرها بنصها وبلغتها: (نقابة ممثلي المسرح والسينما بالقاهرة تهيب بمعاليكم أن تدرءوا عن صناعة السينما المصرية ومستقبل الآلاف المشتغلين بها الخطر الداهم من جراء السماح للشركات الأجنبية بعمل نسخ من أفلامها الناطقة باللغة العربية. إن المنافسة ستكون خطرة غادرة لعدم توازن القوة المادية والفنية بيننا وبينهم، فنستصرخكم لشد أزرنا بإصدار قرار يمنع عرض هذه الأفلام في دور السينما المصرية، أبقاكم الله درعاً لحماية الفن والفنانين!)
فأنت ترى من هذه البرقية أن نقيب الممثلين المرحين والسينمائيين يستصرخ ويستنجد ويغيث بمعالي وزير الشؤون الاجتماعية لمنع عرض (أفلام للشركات الأجنبية ناطقة باللغة العربية) لا لشيء إلا لامتيازها (المادي والفني) على الأفلام المصرية، مما يجعل المنافسة خطيرة، ويجني على مستقبل الآلاف المشتغلين بالسينما في مصر كما يقول حضرة النقيب.
والمعنى واضح لهذا الكلام أن ما يسمونه في مصر بالفن المسرحي والسينمائي ليس باباً للامتياز والإجادة والحرص على المثل الأعلى، وانم هو تجارة و (آكل عيش) لا اكثر ولا اقل ومتى صار الفن هو هذا. . . فكل شئ جائز، حتى ذلك الكلام الذي يقوله نقيب المسرحيين والسينمائيين.
أننا لا ندافع عن الأجنبي بأية حال من الأحوال، ولو أن حضرة النقيب طلب إجراء بازاء الأفلام التي تذاع بيننا باللغة الأجنبية لظاهرناه في رأيه بدافع القومية على الاقل، ولكنه يطالب بمنع (أفلام ناطقة باللغة العربية)، ونحن نعرف ان الشركات الأجنبية بقوتها واستعدادها المادي والفني ستخدم اللغة العربية وستخدم الفن بيننا، وستكون منافستها داعياً للإجادة وللقضاء على ذلك الفن الرخيص الذي هو أشبه بسامر الطبالين في القرية. .
لا يا حضرة النقيب، فإن الفن اجل واطهر من أن يتدلى حتى يصبح مجرد تجارة وضماناً.
ولو صح هذا الكلام الذي تقوله لجاز أن يطالب الأدباء بمنع ترجمة المؤلفات الأجنبية لأنها تقضي على مستقبل آلاف من المؤلفين المصريين، يالها من حجة هي حجتك ومنطق هو منطقك!!. .
المسرح الشعبي:
انتهت وزارة الشؤون الاجتماعية من الاستعداد لإنشاء مسرح شعبي يقوم بعرض تمثيليات وأدوار تتصل بالحياة الشعبية في الأحياء الوطنية وفي أقاليم الريف.
والقصد من إنشاء هذا المسرح هو معالجة المشاكل الاجتماعية والخلقية بين طبقات العامة وجماهير الشعب بأسلوب من الفن يلائم مداركهم وعقلياتهم لغة وأداء وموضوعاً، حتى يكون اسهل في التأثير، وابلغ في التوجيه، وأجدى في الفائدة.
والفكرة في إنشاء هذا المسرح ليست بنت اليوم، ولكنها فكرة لجأت فرنسا إلى تحقيقها منذ زمن، وقد كان القصد من إنشاء هذا المسرح أن يكون درجة قريبة الصعود لطبقات الشعب، إذ كان التمثيل على المسرح الفني يجري بأسلوب رفيع، ويتناول موضوعات قوية عميقة المغزى، بعيدة على المدارك، فكان المسرح الشعبي أشبه ما يكون بمرحلة الأعداد للمسرح الأعلى، كمرحلة التعليم الابتدائي بالنسبة للثانوي، والثانوي بالنسبة للعالي
ولكن عندنا تجري الأمور معكوسة مقلوبة، فما يسمونه بالفن التمثيلي والسينمائي بيننا يجري منحطاً مع عواطف الجماهير، ويتدلى إلى ما هو أدنى من مداركهم، ونحن الذين كنا من قبل نهيب بهذا الفن أن يخفف غلوائه، وأن يقدر لأدراك الجماهير قيمة في حسبانه، أصبحنا اليوم نطالب بان يسمو الفن في مهمته واساليبه، وان يترفع عما تردى فيه من عامية منحطة في الأداء والموضوع. فمن مبلغ أولئك المسؤولين ان الفن عندنا جميعه قد اصبح شعبياً وان الذي نحتاجه هو الفن الرفيع المهذب الذي يسمو بالنفوس والعقول؟!
(الجاحظ)