مجلة الرسالة/العدد 71/من مشكلات الحياة
مجلة الرسالة/العدد 71/من مشكلات الحياة
قصة فتاة
تلقينا هذه الكلمات من فتاة سورية فلخصناها وعرضناها على القراء كما شاءت. وسننشر في موضوعها ما نراه أحجى بالنشر وأدنى إلى الغرض.
كثيرات هن اللواتي يغبطنني على حياتي، ويتمنين لو أتاح لهن الحظ حياة مثلها. يرون في كما يرى بقية الناس شابة جميلة، أربح من وراء مهنتي مبلغاً يدني حياتي من الرفاهية، وماذا أبتغي من الحياة بعد؟. . .
ولكن آه! لشد ما أعاني من الألم في إخفاء حقيقة نفسي، وظهوري أمام الناس بهذا الوجه الباسم، والعينين الممتلئتين نشاطاً واغتباطاً وبهجة. حقاً إن أشقى الناس ذلك الذي ينزل إلى قرارة نفسه، وهناك في أعماقها يدفن ما يعاني من ألم ممض وشقاء ملازم - وهكذا الأيام تمر، والسنون تكر، وآلامي مدفونة لا أستطيع الجهر بها حتى لأقرب الناس إليّ، لأنهم هم مسببوها ومصعبوها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. . .
ولدت في أحضان الترف والنعيم، وربيت في حجر الدلال والرفاهية، محاطة بالحب، مغمورة بالإعزاز، ولكن ما كدت أتجاوز العاشرة من العمر حتى أصيب والدي بنكبة مالية زعزعت كياننا وقلبت كل شئ رأساً على عقب. كنت صغيرة حينذاك، ومن كانت في هذه السن لا تهتم إلا بالمرح واللعب، ولكن الأمر كان معي على النقيض، بدأت أشعر بفداحة المصاب وأتألم بقلبي الصغير ألماً هادئاً ساكناً، ولما كنت بكر والديّ، وكنت محور أمال أبي لما يرى من جدي واجتهادي في المدرسة، كان يؤثرني بعطفه ويخصني بمحبته. كان لا يرى بداً من تعليمي والإنفاق علي. وفي الرابعة عشر من عمري أرسلني إلى مدرسة ليلية أجنبية بعد أن نلت الشهادة الابتدائية بتفوق عظيم، ولقد مضى على هذه الحادثة ما مضى وأنا أتصورها بنت الساعة. وأودعني ذلك الوالد الحنون المدرسة، وأوصى بي الرئيسة والأخوات خيراً. وبعد ثلاثة أيام زارني قبل سفره ليستفهم عما إذا كنت في حاجة إلى شئ؟ وأعلمني بعزمه على السفر، وزودني بنصائحه الغالية، فاغرورقت عيناي بالدموع، وتكلفت الابتسام لأخفي ألمي لهذا الفراق الذي كان أول عهدي به، فضمني إلى صدره وغمر رأسي بقبلاته ثم بكى، وكأنه أبصر بعيني بصيرته ما ينتظرني من أ وشقاء.
قضيت حياة المدرسة، وبدأت حياة العمل لأرفه عن هذا الوالد الحنون بعض ما يعانيه في إعالة أمي وأخواتي، مغتبطة في قرارة نفسي بأنني أستطيع أن أكافئه بعض المكافأة. ولكن جمالي وثقافتي وسيرتي الحسنة بين أترابي كانت تستثير الناس لطلب يدي؛ وما من شاب من الطبقة الراقية في تعليمها أو في ثروتها إلا تمنى أن أكون له، ولكن كان الجواب دائماً سلباً، ولما كان قلبي لم يتفتح لحب بعد، كنت لا أعير هذه المسائل شيئاً من الاهتمام، وكنت أعتقد أن كل فتاة تقدم على الزواج مجنونة ولا أريد أكونها.
قاوم أبي تلك النكبات التي كانت تهاجمه بصبر وثبات، ولكنها أخيراً خرجت عن طوقه فأصيب بالشلل، وهاهو الآن ليس بالميت فينسى ولا بالحي فيرجى. وخلف لي أعباء ثقالاً لا قبل لمن كانت في سني باحتمالها، وشعرت بخطورة المسئولية الملقاة على عاتقي، فكنت أقضي نهاري في العمل على الآلة الكاتبة وأعود في المساء باشة هاشة ضناً بوالدتي عن أن أحملها هماً فوق هم، وبأخواتي اللواتي ينتظرن من عودتي الملاطفة والحلوى عن أن أخيب أملهن. المستقبل قاتم لا ألمح فيه قبساً من أمل، والغد مجهول لا أعلم ماذا يحمل بين طياته، ولا أدري ماذا يكون المصير.
طالِبو الزواج يريدونني بإلحاح، وأمي ترفض بدعوى أن ليس بينهم من يستحق يدي، فكل شاب لا يخلو من عيب، وهي تريد ملاكاً لملاكها، إذاً فلننتظر ولننتظر، ولكن الانتظار طال. وفهمت، ولكن في وقت متأخر أنها محاولات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. فشقيقاتي الصغيرات تزوجن، ووالدتي لم تبد في أمرهن تلك الملاحظات التي عودتنيها، واثنتان منهن أصبحا أُمَّين، وأنا أنظر بعيني والألم يصهر نفسي والأباء يعقد لساني عن الإفصاح بما يخالجني. هي تريد إبقائي عذراء أشتغل وأشتغل حتى الموت لأعولها مع بقية أطفالها. ولو أنها أفصحت لي عن غايتها لكتبت لها صكاً على نفسي أنني سأظل أشتغل إلى أن يكبر أطفالها!! هي تحبني، لا أشك في ذلك، ولكن هذا لأنني أبذل في إسعادهم قلبي ومستقبلي وسعادتي!!
لقد ضقت ذرعاً بهذه الحياة ولم يبق في قوس الصبر منزع، خلقت أنثى وحرمت ما ينعم به مثيلاتي ويسعدن، واشتغلت كالذكور وحرمت الحرية التي يتمتع بها الذكور!! لذلك عولت عليّ أن أطرح هذه الصفحة الموجزة أمام قراء (الرسالة) وقارئاتها علني أجد بينهم من يرشدني برأي ينقذني من هذه الحيرة.
(. . .)