مجلة الرسالة/العدد 711/حول قضية فلسطين:

مجلة الرسالة/العدد 711/حول قضية فلسطين:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1947



والآن أيها العرب أما تزالون تنتظرون؟!

للأستاذ سيد قطب

قصة العرب مع الاستعمار الإنجليزي في فلسطين هي بعينها قصتهم معه في كل بلد عربي أخر؛ وخديعة الاستعمار الإنجليزي للعرب في فلسطين هي خديعته الخالدة لكل بلد عربي آخر.

وتسميتها قصة هي في الواقع تجوز، فهي في حقيقة الأمر مأساة أليمة متكررة، وأشد ما يؤلم فيها هو هذا التكرار الذي لا يفتح عيون العرب على الخديعة، ولا يغير طريقهم التي سلكوها فخابوا في كل مرة، ولا يجنبهم الجحر الذي لدغوا منه بدل المرة مرات.

هي مأساة الثقة بالضمير الإنجليزي، بل مأساة الاعتقاد بان هناك ما يسمى الضمير الإنجليزي! وذلك هو الجحر الذي لدغ العرب منه مرات، في كل بلد عربي، ثم هم مع ذلك لا يتوقونه، فيصدق عليهم الحديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وحاشا لهؤلاء أن يكونوا مؤمنين، وهم في كل يوم يلدغون!

حفنة من الساسة قعدت بهم عن الجهاد مشقات الجهاد، فاختاروا لشعوبهم الطريق الأهون، والخطة السهلة، وراحوا يضيعون أوقات الشعوب بالمؤتمرات والمفاوضات والمحادثات؛ ودعوا الشعوب للهدوء والانتظار في ارتقاب النتائج من هذه الطرق الهينة المأمونة.

وكان من غضب الله على هذه الشعوب إنها سمعت كلام أولئك الساسة الضعفاء والمهازيل، واستجابت لدعوة الراحة والدعة، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

تكررت هذه المأساة في مصر، كما تكررت في فلسطين كما تكررت في كل بلد عربي دنسته أقدام المستعمرين الطغاة. وهب الشعب في مصر، كما هب في فلسطين، كما هب في كل بلد عربي يكافح هذا الاستعمار البغيض، يكافحه كما ينبغي أن يكافح. يكافحه بالدم المبذول، والروح المسترخصة، والتضحية بالنفس والمال. . وكان هذا هو الطريق الصحيح. الطريق الذي سلكته من قبل الولايات المتحدة، وأيرلندا الحرة، كما سلكته أخيراً سورية الأبية، ولبنان الأشم.

وبينما الشعوب في فورتها، والتضحية في عليائها، صاح عليها الأغربة المشئومة: حسبك أيتها الشعوب فقد أديت واجبك حسبك ودعي الأمر لأولي الأمر. دعيه للساسة يعالجون بالحكمة والديبلوماسية، بعد ما عالجته بالدماء والتضحية!

ومنذ هذه اللحظة المشؤومة وقضايا العرب تخسر في كل مكان، ومنذ هذه اللحظة المشؤومة والاستعمار يكسب في كل مكان. لقد التقط الاستعمار أنفاسه بعد الجهد العنيف، بعدما كاد يسلم للشعوب بحقها المغصوب. ولكن لماذا يسلم، وهؤلاء جماعة من هذه الشعوب يخدرونها لتنام، ويروحون على وجوهها لتنعس، ويلوحون لها بالأحلام الجميلة لتستغرق في الأحلام الجميلة؟

ألا قاتل الله اللحظة المشؤومة التي استسلمت فيها الأمم العربية لهذه الغربان المشؤومة!

والآن أيها العرب. أما تزالون تنتظرون.

فأما مصر فقد هداها الله إلى نصف الحق، هداها إلى قطع المفاوضات والمحادثات والمداولات. هداها إلى الخروج من تلك الدائرة البغيضة التي دارت فيها ودارت خمسة وعشرين عاماً كما يدور ثور الساقية، أو حمار الطاحون!

ولكنه لم يهدها بعد إلى النصف الآخر. لم يهدها إلى أن زمام الأمر في يدها هي لا في يد هيئة الأمم المتحدة، ولا في يد مجلس الأمن، ولا في يد محكمة العدل الدولية، ولا في يد كائن من كان على ظهر هذه الأرض إلا المصريين!

لم يهدها إلى أنها تخطو إلى منتصف الطريق عندما تلجأ إلى هذه الهيئات الدولية؛ فأما نصفها الآخر. نصفها المؤدي إلى الغاية، فهو أن تعزم على الاستقلال في ضميرها، وأن تنبذ العبودية من روحها، وأن تطهر دماءها من لوثة الذل الذي فيها. وإن تنبز على سواء إلى هذا الاستعمار فتواجهه بنفسها مواجهة من اعتزم وصمم وانتهى.

ولو فعلت مصر لنظرت في تطهير المصالح المصرية من كل موظف إنجليزي منذ هذا الصباح. وفي تطهير الاقتصاد المصري. من كل نفوذ إنجليزي منذ هذه الليلة. وفي تطهير التعليم المصري من كل أثر إنجليزي دسه الاستعمار على نظمه وبرامجه وكتبه، وحقائقه التاريخية والجغرافية. وفي تطهير الحياة المصرية من كل ما هو إنجليزي مهما اشتدت حاجتنا إليه.

ولو فعلت مصر لرفض أي مصري أن يخاطب أي إنجليزي على ظهر الوادي ولو للسلام العابر. ولأغلقت منذ اللحظة ذلك لنادي العجيب الذي يسمى النادي المصري الإنجليزي، ولأعدمت جميع المصورات الجغرافية التي تكتب هذا العنوان الآثم: (السودان المصري الإنجليزي) وجميع كتب التاريخ في أيدي التلاميذ التي تتحدث عن (الاصطلاحات التي تمت في عهد الاحتلال)!

ولو فعلت مصر لأطلقتها من الأعماق صيحة عداء مدوية للبرابرة المستعمرين. ولأعلنت إنها ستلقن ناشئتها ذلك العداء، وستسقيهم إياه مع الرضاع!

ولو فعلت مصر لأرسلت دعاتها كالمبشرين في كل مكان على ظهر هذه الأرض يفضحون مساوئ الاستعمار، ويتحدثون عن مآسيه الوحشية، ويكشفون للعالم عن فجائع دنشواي والعزيزية و 4 فبراير، وعشرات من هذه المآسي التي يقشعر لها ضمير الإنسانية في كل مكان.

ولو فعلت مصر لسكتت صيحة الحزبية الحقيرة الخسيسة التي تهتف بها الأحزاب التي شاخت، ويلوكها الجيل الذي أنتن، ويرددها الرجال الذين لم ينسحبوا في الوقت المناسب من الميدان!

ولو فعلت مصر لأدرك الإنجليز من فورهم إنها جادة في هذه المرة لا هازلة؛ ولاشتروا منها مصالحهم في العالم وسمعتهم بالثمن الذي تريد؛ ولوجدوا إرضاء مصر اكسب لهم من تشبثهم باستعمارها وقد صرح العداء!

ولكن مصر تقف في منتصف الطريق. تقف لأن الجيل الذي يقودها - في الحكومة وفي المعارضة على السواء - هو الجيل الذي شاخ. الجيل الذي دعاها في فورة الحماسة إلى الهدوء. الجيل الذي افسد عليها طريقها حينما اختار الطريق الأسهل. طريق المفاوضة والمحادثة والمؤتمرات!

وأما فلسطين فقد فارت فورتها في وجه الظلم الذي لم تعرف له البشرية شبيها. وكانت آخر فوراتها في عام 1938. ورأى الإنجليز أن الأمر جد لا هزل، وان الأمة العربية هناك لا تنوي التراجع، ولا تبغي المهادنة. فلجئوا إلى وسيلتهم الخالدة. وسيلتهم التي جربوها في مصر من قبل فعادت عليهم بالخير والأمن والهدوء، دعوا فلسطين إلى مؤتمر المائدة المستديرة! ودعوا معها العرب جميعاً. ومع الأسف صدقت فلسطين، وألقت السلاح، وانتظرت نتائج الكائدة المستديرة!

ومن الإنصاف أن نذكر أن الخديعة في هذه المرة لم تأت عرب فلسطين الأباة من جهة الإنجليز، إنما جاءتهم من جهة من يسمونهم الزعماء، الزعماء هنا في مصر وفي بعض البلاد العربية. وخدع العرب الأباة بذلك الكتاب الأبيض الذي أسفر عنه المؤتمر. وجاءت الحرب فوقفوا في صف إنجلترا هم وسائر العرب في بلاد العرب.

وقيل لهم: أن الإنجليز سيعرفون فضل مناصرتهم في ساعة العسر فصدقوا. وكانوا بلهاء حينما صدقوا! واشترك في خديعتهم أولئك الساسة والأدباء والكتاب والصحفيون المغفلون والمأجورون الذين راحوا يشيدون بالديمقراطية، والمدافعين عن الديمقراطية!

ثم وضعت الحرب أوزارها، وهب الإرهابيون اليهود يجلدون الإنجليز في الشوارع، وينسفون مقر القيادة الإنجليزية، ويخطفون القضاة والقواد؛ ويطلقونها صرخة مدوية: فلسطين لليهود!

وقيل للعرب: اسكتوا واصمتوا واطمئنوا. فقد وقع الصهيونيون في شر أعمالهم، وسينالون عداء الإنجليز، ما في ذك شك، وسيجازيهم الإنجليز على ذلك بالتمكين للعرب في فلسطين!

وقيل للعرب: حذار من أن تكونوا حمقى كاليهود. كونوا (عقلاء) أيها العرب لتكسبوا مودة الإنجليز. . . قالها لهم هؤلاء الساسة الذين اختاروا من أول الأمر طريق المفاوضات والمحادثات والمؤتمرات، إسهالا واستغلالا!

وصدق العرب المساكين، منطق ساستهم المحنكين! وباتوا (عقلاء) عقلاء جداً؛ لا يحركون ساكناً، ولا يرفعون صوتا ولا يعكرون صفواً.

وبدأ الإنجليز يحنقون على الإرهابيين، ويميلون للعرب. . . فالغوا سياسة الكتاب الأبيض، وسمحوا بالهجرة اليهودية بعد ما انتهى الأجل الذي حدده للهجرة ذلك الكتاب! ثم دعوا العرب واليهود إلى مؤتمر في لندن لوضع حل حاسم لقضية فلسطين

ولج اليهود (المجانين) في إثارة أحقاد البريطانيين. ولج العرب العقلاء في الصمت والهدوء. . ثم إذا الإنجليز يزدادون مع اليهود حنقا ويزدادون للعرب مودة. وإذا مستر بيفن يعرض حلا يتفق مع ذلك الحقد ومع هذه المودة. . . انه يقترح السماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين في خلال خمسة وعشرين شهراً! أليس الرجل حانقا على اليهود (المجانين)؟!

سخرية! سخرية لا تطاق! ولكن الزعماء لا يزالون هناك يتفاوضون ويتباحثون ويتجادلون!

والآن أيها العرب. أما تزالون تنتظرون؟!

سيد قطب