مجلة الرسالة/العدد 712/إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم

مجلة الرسالة/العدد 712/إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم

مجلة الرسالة - العدد 712
إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1947


للأستاذ علي الطنطاوي

أنا لم أتشرف بالانتساب إلى الأزهر ولا إلى غيره من المعاهد الشرعية، لأني تعلمت في المدارس الأميرية من دار الحضانة إلى كلية الحقوق، ولكني نشأت من صغري بين كتب العربية والدين، وربيت في مجالس العلم والأدب، لأن والدي رحمه الله كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يوما من مراجعات أو مناقشات، ونظر الكتب ومقارعات بالحجج، ومن عامة يستفتون وطلبة يقرئون وعلماء يبحثون، فلما توفي والدي لزمت عالما أزهريا متفننا، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل، ثم أتعشى (وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر) وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فأقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته، وكنا نحو الخمسين طالبا، منا تلميذ المدرسة ومنا التاجر ومنا الموظف، ومنا الشاب ومنا الكهل. وما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي إلا العلم وحده لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضا، وتحصيله عبادة، فكنا نجد في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأه، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده، ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه. . .

فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسلم فرددنا عليه السلام، لا نقوم له أدبنا بأدب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثب لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبه وإجلاله كل ذرة فينا، فيقعد ونحن من حوله، فيسمى الله ويحمده ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدارس، فيملي عليه الشاهد ليوضح عليه القاعدة الجديدة ويذكر بالقواعد القديمة، وكأن أحب شيء إليه أن نستعيده ونستوضحه ونناقشه، فيعيد ويوضح ويجيب باسم الثغر، طلق المحيا، مشرق الشيبة محبوبا مهيبا. فيملك بخلقه قلوبنا، وبعلمه عقولنا، ثم يختم الدرس بحمد الله كما بدأه بحمد الله، ويؤذن المؤذن فنقوم إلى الصلاة، فنرى السكينة قد حفت المجلس، والرحمة قد نزلت عليه، ونحس بالملائكة قد حضرته، ويؤمنا الشيخ فيقرأ قراءة إخال من روعتها كأن القرآن قد هبط به الوحي آنفا، ولقد سمعت قراء أحلى صوتا، وأصح نغما، فما سمعت مث أبدا. فإذا قضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم من شاء منا قبل يد الشيخ (ولا يكاد يسمح بتقبيلها) وانصرف، ومن شاء بقى يستمع إلى حديث الشيخ، وكان حديثه أعذب في آذاننا من همسات الحب، وأشجى من عبقريات الأغاني، ثم ينظر الشيخ فيقول: إن فلانا لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فعودوه وساعدوه. فنسرع إليه نعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب وبالدواء. وإن فلانا في ضيق فأعينوه، فنسد خلته ونفرج ضيقته. وربما استبقى الواحد منا، فانفرد به فنصحه ووعظه، أو أنبه على زي لا يليق بطالب العلم اتخذه. أو محل لا يحسن به حله، أو صاحب لا يدله على الله صاحبه، فيبلغ منا تأنيبه ما لا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعا إلى بيوتنا: الكبار إلى زوجاتهم وأولادهم والصغار إلى أمهاتهم وأخواتهم، ننام من أذان العشاء على فرش التوبة والاستغفار، ثم نقوم في بواكر الأسحار، عندما يفيق الديك والمؤذن والنور، فنتوضأ فنطهر بالماء أجسادنا، ونصلي فنطهر بالصلاة أرواحنا، ثم نمضي إلى المسجد فنؤدي الغداة مع الجماعة، ثم نجلس في حلقة الشيخ، لنقرأ عليه الفقه والحديث والتفسير في الصباح، كما قرأنا النحو أولا والبلاغة ثانيا في المساء وكما يقرأ عليه غيرنا غير هذا وذاك النهار كله، فلا تلقى في حياة الشيخ إلا العلم والدرس، والمراجعة والبحث، تتخللها مواعظه العامة، وتوجيهاته الناس، فهو المرجع في كل شيء: في الانتخابات العامة يسألونه فيأمرهم بأهل الدين والورع من أي حزب كانوا، وفي الخصومات يرفعونها إليه، فيزيلها بالصلح، أو يفصلها بالحق وفي الأحداث كلها يبين فيها حكم الله. وكان كل نائب أو وزير يؤم داره خاشعا متواضعا كأنه يمشي إلى حرم، فيريه عزة العلم، وجلال الحق، ولطف المؤمن، وتواضع العظيم، ويعظه ويأمره وينهاه، ولا يزرؤه شيئا من دنياه. وكان أيام الثورات على الفرنسيين هو الداعي إلى الجهاد، وهو قائد القواد، أرهبه الفرنسيون فلم يخف، ورغبوه فلم يطمع، وأزعجوه فما لان، فتركوه لم يجرءوا عليه ودونه أهل البلد يفدونه بأنفسهم وأهليهم.

أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالا أكل، وإن دعاه محب أو فقير أجاب، وإن أهدى إليه قبل، فإن كانت الدعوة أو الهدية من فاسق أو متكبر أبى. يلبس ما وجد فربما كانت عليه الجبة من الجوخ الثمين فمر به فقير مقرور فدفعها إليه، ولبس عباءة مرقعة، أو خرج بالإزار وحده. تدخل الدنيا داره فيكون كأنعم الناس، ويدخل المال كيسه فيكون كأغنى الناس ثم يضيق ويفتقر، فيتنكر ويقصد القرى فيشتغل فيها بالطين واللبن، ويعود بما كسبه من كد يده، لا يطغى في الأولى ولا يقنط في الثانية، ولا يذيق قلبه حلاوة الدنيا، فيلين لأبنائها حرصا عليها، وخوفا من زوالها.

وكنا نخرج معه كل ثلاثاء (وهو يوم الراحة عند العلماء) إلى القرى والأرباض، فإذا جاوزنا رحبة دمشق، قال: قد وضعنا المشيخة هنا، ونحن من الآن إخوان. فنمازحه ويمازحنا ونغني أمامه ونثب ونلعب، ونسبح ونركب الخيل ونصطاد، وكان يرغبنا في السباحة والفروسية والرمي، وسائر أنواع الرياضة، لأن ذلك من سنة الإسلام، ويود أن يكون معنا فيه ولكن السن تمنعه والضعف والكبر، ثم نعود من الغد إلى الدرس، ونحن أصفى الناس ذهنا، وأطيبهم نفسا، وأشدهم نشاطا.

ولازمت من بعده مشايخ كثيرين كانت حالهم كحال الشيخ أو قريبا منها، وكانت حياتهم علما وعملا، ومنطقا وخلقا، وكانوا كلهم يحدثونا عن الأزهر وما فيه، حتى حبب إلينا الأزهر القديم من أحاديثهم، وتخيلناه جنة الروح، ونعيم القلب، وتوهمنا أن ما رأيناه من أحوال مشايخنا وردة من تلك الجنة، وطرفا من ذلك النعيم، وبتنا نتشوق إلى الأزهر، ونتمنى أن نزور مصر لنراه، فلما قدمت مصر سنة 1928 رأيت الأزهر قد تغير عما وصفوه لنا، وحال عن حاله التي حدثونا عنها، فتركته ودخلت دار العلوم العليا. ثم لما عدت سنة 1945، لم أجد الأزهر وإنما وجدت مسجدا خاليا، وكليات تنتسب إليه ليست إلا مدارس كما عرفنا من المدارس، فبكيته لما فقدته، وحننت إليه، لا إلى سراج الزيت، وحصير الرواق، بل إلى ذاك التقي وتلك الأخلاق. بكيت فيه شيخي، وبكيت فيه عهد الشيخ الذي مضى عليه اليوم أكثر من ربع قرن، ولا تزال ذكراه غذاء لروحي، وفرحة لقلبي، وأنسة لي في وحشة الحياة، أفكر فيه كما يفكر العاشق المهجور في ليالي الوصال، والسجين في أيام الحرية، والمفلس في زمان الغنى، بل إنه لأحب إلي من عهود الحب، وليالي الوصال، لأنها لذة الهوى وهو حلاوة الإيمان، ولأن ذكراه ذخري الذي لا يفنى، ومفزعي كلما دهمتني خطوب هذه الحياة المادية التي تختنق فيها الروح، ومعين اليقين لي في نوادي الشكوك.

رحمة الله على أولئك المشايخ الذين كانوا ينابيع العلم، ومنارات الهدى، وأئمة الخير. وما كل المشايخ الأولين كانت لهم هذه الحلال، وما كل علماء اليوم تجردوا عنها، ولكن الأعمال بالنيات، والأمور بالمقاصد، وأولئك كانوا يقصدون العلم والدين، فكان الأصل أن يكونوا أهل علم ودين إلا من شذ منهم، والكمال لله وحده، وهؤلاء الطلاب يقصدون الشهادة والمنصب فكان الأصل أن يكونوا أصحاب منصب وشهادة إلا من شذ منهم، والخير لا ينقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

وما أنا بالمحامي عن عهد بذاته، ولا عن أشخاص بأعيانهم، لكنما أدافع عن تقوى العالم وأمانة العلم، والعلم إذا لم يكن معه أمانة كان الجهل خيرا منه، كالطبيب الفاجر، يغش المريض ويماطل في العلاج، ابتغاء دوام الحاجة إليه، وتدفق المال عليه، بل ربما بالغ في الفجور فلم يمنعه علمه إن لم يكن أمينا أن يقتل المريض بالسم، بدلا من شفائه بالدواء.

وخلاصة القول أن نبينا علمنا أن هذا العلم دين، وأمرنا أن ننظر عمن نأخذ ديننا، ونحن لا نستطيع أن نأخذ العلم إلا عن رجل نثق بدينه كما نثق بعلمه، ونطمئن إلى إيمانه كما نطمئن إلى منطقه، فإن لم يكن إلا العلم والمنطق، لم ينفعاه عند الله شيئا.

وأنا لا أقيس الأزهر على الجامعات، فالجامعات فيها العلم والفن، وفيها الكفر والإلحاد، لا يمنع منه عندهم أنه كفر، ما دام يسمى باسم الفلسفة أو العلم، ذلك لأن أسلوب الجامعات أسلوب عقلي لا يبالي بالدين، ولا يتقيد بالوحي، وديننا لا يعارض قضايا العقل المسلمة وأحكامه الثابتة، ولا ينافيها، ولكن أين هذه القضايا؟ وهل يكون منها كل حكم يوصل الباحث إليه عقله؟ ففيم إذن تختلف العقول، ويتناظر الفحول؟ أفنبني ديننا على آراء الرجال، فكلما جاء واحد منهم ببدعة في الدين قلدناه فيها، وأقمناه بيننا وبين ربنا، وجعلنا ما جاء به من شرعنا؟ ومن يكون إمامنا في ديننا إذا لم يبق في الأزهر أئمة دين؟

ألا يكون ذلك تحقيقا للحديث، ومعجزة للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور العلماء، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس أئمة جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا؟ نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والكفر بعد الإيمان!

ألا إن ديننا يقوم على أدلة معروفة هي الكتاب والسنة الثابتة، والإجماع الصحيح والقياس الجلي، لا عمل للعقل فيها، إلا الاستنباط والاجتهاد، على (الأصول) المعروفة، والسبيل المسلوكة وأتباع البيضاء النقية، والإقتداء بالسلف الصالح، فإن جاوز هذا الحد لم يجر لمسلم أن يعول في دينه عليه، أو يرجع في الحكم إليه.

ونحن نريد علماء من أمثال هذا الشيخ رحمه الله ويعملون، ويتبعون ولا يبتدعون، ويتقون الله سرا وعلنا ويحكمون الشرع في خاصة نفوسهم وعامة أمورهم، لا تذلهم الدنيا، ولا يفسدهم الفقر، ولا يطغيهم الغنى، فإن كانوا كذلك فليخرجهم أساتذة جامعات، أو وعاظ جوامع، وليكونوا بعد فلاسفة فالإسلام لا يعادي الفلسفة ما لم كفرا وليكونوا باحثين فالإسلام يحب البحث، وليكونوا مجددين بالاجتهاد ما داموا متبعين في أصول الدين، وليجلسوا على البساط أو على الطنافس، وليقرأوا على السراج أو على الكهرباء، وليسكنوا الأكواخ أو القصور، ولينقطعوا إلى العلم أو ليكونوا أصحاب المناصب أو أعضاء المجالس وأولياء الأمر.

ولكن هل ينتظر أن تخرج هذه الجامعة الأزهرية أمثال أولئك العلماء؟

هذه هي المسألة!

وأنا لا أحب أن أجيب عنها، لأني إن أجبت قلت مرة ثانية:

(ردوا علينا الجامع الأزهر!!)

(القاهرة)

علي الطنطاوي