مجلة الرسالة/العدد 712/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 712/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1947



حول كتاب (الرسالة الخالدة)

بين معالي عبد الرحمن عزام باشا والأستاذ محمد بهجة

الأثري

(كان الأستاذ محمد بهجة الأثري الأديب العراقي قد بعث من

بغداد الى معالي عبد الرحمن عزام باشا برأي حول مسألة

هامة وردت في (الرسالة الخالدة) هي مسألة تصرف عمر بن

الخطاب رضي الله عنه في أرض السواد بالعراق تصرفاً

جديداً وكانت الرواية التي اطلع عليها عزام باشا وأستشهد بها

لم تذكر جانباً تاريخياً هاماً في النظر إلى المسألة. ولذلك لما

ذكرها له الأستاذ الأثري في كتاب خاص آثر أن يوجه النظر

إليها بنشرها تعميماً لمعرفة الحقيقة وهذان هما كتابا الأستاذ

الأثري وتعقيب عزام باشا عليه):

حضرة صاحب المعالي الجليل الصديق الكريم الأستاذ عبد

الرحمن عزام باشا:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد فإن توفيق الله إياك لكتابة (الرسالة الخالدة) تجلو بها (رسالة الله الواحدة الخالدة على الزمن)، وتدعو العالم الجديد إلى الاقتباس من هداها في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم والعلاقات الدولية لإزالة أسباب الاضطراب العالمي وإمداد الحضارة بسند روحي وإقام نظام عالمي جديد لنعمة من نعنه التي أسبغها سبحانه عليك وأنت لها أهل أراك خليقا بأن تستزيدها بالشكر وتستديمها بالحمد والثناء؛ ومظهر لما توسمته فيك من سمو الذات وجلال التفكير منذ سمعتك لأول مرة تخطب ليلة افتتاح المؤتمر الإسلامي العام تحت قبة المسجد الأقصى (ليلة 27 رجب 1350هـ)، ثم لم تزدني صلاتي بك بعد في القدس والقاهرة وبغداد إلا يقينا بما توسمت وتفرست، ووثوقا بكرم العنصر الذي يتمثل في شمائلك وأدبك وفضلك وفي علاقاتك الخاصة والعامة وفي مساعيك الجليلة في سبيل العروبة والإسلام التي توجنها بتأليف هذه الرسالة الخالدة وجعلتها الطغرى في جبينها الأبيض النقي النزيه. ومن أولى منك بأن تنبثق من ذهنه الوقاد هذه الفكرة السامية، وتجول براعته في أشرف ميدان من ميادين الأبحاث الجدية الرفيعة، وأنت الشاغل لمقام أمانة جامعة الدواة العربية بجدارة واستحقاق، وأنت السياسي الأمين والكاتب المفكر الذي تعلق ذهنه بالمثل العليا فاحتذاها وشغل نفسه بالدعوة إليها، وأحب الخير فتمثله وسعى جهده لإيصاله إلى الناس في صدق ونخوة وإخلاص؟

إن كتابك - يا صديقي الكريم - كتاب الموسم، بل رسالة العصر ألم بحالة الشذوذ والاضطراب التي سادت العالم في أثناء الحرب الأخيرة، فكشف عن أسبابها وبواعثها ووصف لها العلاج الشافي بما وجده في صميم رسالة الله الخالدة إلى رسله وأنبيائه وما انتهت إليه من أطوار الأنظمة العالمية في الشريعة المحمدية الغراء في السياسة والاجتماع والحرب والسلم والعلاقات بين الدول والشعوب والطبقات والأفراد يمدها سند روحي لا بد منه لعالم جديد متجه نحو دولة عالمية واحدة تباركها يد الله ويرعاها رضاه على حد تعبير الرسالة.

وليس يعوزه لاستكماله أسباب فوائده وتعميمها حتى يتكون به رأي عالمي أو شبه عالمي إلا نقله، بعد اجالة القلم في بعض نواحيه إلى اللغات العالمية الغربية والشرقية؛ ليتداوله أكبر عدد ممكن من القراء، ويعيه من لا عهد له بموضوعه من المسلمين وغير المسلمين، ولا يزال الخير في الناس إلى يوم القيامة، ولكن الدعاة العالمين إليه قليلون، ولا أدراك إلا فاعلا إن شاء الله.

وبعد فقد وقعت في الكتاب على أمر أخالفك فيه كل المخالفة ولا أخالك إلا حريصا على مكاشفتك به ثم جادا في إصلاحه إذا وقع منك موقع القبول.

ذلك أنني في أثناء تصفحي السريع للكتاب مررت بجملة خطيرة تكررت على سبيل التوكيد ثلاث مرات في صور متعددة، وسرعان ما رأيت من آمن بها من الباحثين - بله عامة القراء - كصديقنا الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف، إذ أوردها في عرضه للكتاب في مجلة الرسالة (ع699س14ص1322) على سبيل الإقرار والتأييد والإعجاب، وهي في رأيي بعيدة عن الصواب، وإقرارها يفتح منفذا إلى الإسلام يهدمه من أصوله وأنت يا سيدي لا تريده بحال من الأحوال.

قلت في (ص128): (وحيثما كان العدل فثم شرع الله ودينه، فإذا فرض أن هذا العدل يقتضي أمرا لا نص فيه ولا أثر شرعيا فعليه أن يجتهد برأيه).

هذا صحيح لا غبار عليه، ولا جدال فيه، ولكنك لما مثلت له أتيت بمثال عملي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن مطابقا لما قصدت له من التوضيح للقاعدة المذكورة ذلك هو عمله حين أريد على قسمة أرض السواد، فأبى إلا بقاءها بأيدي أهلها، وضرب عليها الخراج. لقد ذهبت إلى أنه عمل ذلك برأيه، وترك ظاهر النص القرآني (ص129)، ثم استحسنت منه هذا التصرف في موضعين من بعد، فقلت في (ص130): (هذا مثل من تصرف تلميذ الرسول وخليفته في أمر جاء به نص، وهو نفسه يسلم بهذا النص. . .)، وقلت في (ص131): (وعليه فالدولة الإسلامية التي يكفل فيها الإمام التوازن الاجتماعي والتي تقوم على قوله تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم) والتي أخذ فيها برأي عمر رضي الله عنه في ظرف ما وعدل به عن ظاهر النص القرآني عدولا مبرره المصلحة العامة. . .).

وهذه الأقوال، على اختلاف صورها، تتضمن أشياء منها ما يتعلق بالقاعدة المذكورة في ص128، ومنها ما يتعلق بشخص عمر ومواقفه من النصوص الشرعية، ومنها ما يتعلق بالمصلحة المرسلة والتحسين والتقبيح العقليين، ومنها ما يتعلق بحقيقة المثال وكيفية تصرف عمر في المسألة: هل هو ضمن النص أولا. وإني ذاكرها على الوجه الذي أراه تبيانا للحق في هذه المسائل ووضعا له في نصابه منها.

فأما ما يتعلق بالقاعدة، فهذه المسألة على الوجه الذي ذكرته أو على حقيقتها التي سأوردها، لا تنطبق عليها؛ لأن القاعدة هي إباحة الاجتهاد للإمام في أمر يقتضيه العدل لا نص فيه ولا أثر شرعيا، والمثال إنما هو في أمر جاء به نص من كتاب الله، ولكن الإمام فيما ترى تصرف به خلافه وهو نفسه يسلم بهذا النص! فالقاعدة شيء، والمثال شيء آخر، ولا صلة جامعة بينهما

وأما ما يتعلق بتصرف عمر رضي الله عنه في أمر جاء به نص في كتاب الله، وتركه هذا النص وعدوله عنه إلى رأيه، كائنة ما كانت أسبابه، فأقول: إن هذا لأمر إد منكر ينزه عمر منه، وقد أجمع المسلمون على أنه لا اجتهاد في مورد النص، وإنه ليفتح منفذا إلى الإسلام يهدمه من قواعده، ويجعل القرآن مهجورا، وحينئذ تبطل الحاجة إليه والى الدعوة إلى اتخاذه أساسا للعالم الجديد المنشود. وهذا الرأي فيما أرى يرجع في حقيقته إلى مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين، ومحصول مذهبهم كما قال الشاطبي تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث أن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.

وأنا أجلك يا سيدي من تصور ذلك فضلا عن إرادته. وإنما التبس الأمر في الموضوع بين المصلحة المرسلة الشرعية والتحسين والتقبيح العقليين، فكان هذا الذي نراه من القول، وهو قول ينبغي تحريره في ضوء القاعدة المذكورة في ص128 ومباحث المصلحة المرسلة التي تبسطت فيها كتب أصول الفقه ونحوها، ومن أحسن ما قرأته فيها ما كتبه الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام، وهو مطبوع بمطبعة المنار بمصر. وفي هذا الكتاب يقول الشاطبي: (إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا، ضلال. . . وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره). وضرب لذلك أمثلة من وقوف كبار الصحابة فيما يعرض لهم من النوازل عند حدود النصوص، وإذعانه لطاعة الله ورسوله دون أن يعبئوا برأي من رأى غير ذلك، منها مسألة السقيفة، وقتال مانعي الزكاة، وبعث أسامة. ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان من أكثر القوم انصياعا إلى نصوص القرآن وأشدهم طاعة لرسول الله، بذلك عرف واستفاضت عنه الروايات، حتى وصفوه بأنه (كان وقافا عند كتاب الله).

ففي الصحيح عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال: جلس إلى عمر في مجلسك هذا قال: هممت أن لا أدع صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين؛ قلت: ما أنت بفاعل قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. قال: هما المرآن أقتدي بهما - يعني النبي وأبا بكر رضي الله عنه

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عينة بن حصن حين استؤذن له على عمر، قال فيه. فلما دخل، قال: يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه. فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله قال لنبيه عليه السلام (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة عن وقوفه عند الكتاب والسنة، مما لا أريد أن أثقل على طبعك بروايته، وفيما سأورده من القول في حقيقة مسألة تقسيم السواد نفسها مثال آخر أيضاً من أمثلة التزامه حدود كتاب الله؛ لعلمه أن ما جاء به القرآن هو العدل المطلق الذي لا يعقل أن يكون وراءه عنده أو عند أي إنسان آخر عدل أسمى منه بحيث يسوغ له أن يعدل به عن ظاهر النص القرآني أو يتركه لأجله وهو نفسه يسلم بالنص!!

وأما حقيقة مسألة السواد والنزاع الذي قام من أجل تقسيمه أو عدمه بين عمر بن الخطاب وبعض الصحابة حتى وفق للاستناد إلى نص القرآن فسكتوا ورضوا، فهي مذكورة في كتب التفسير والحديث والأموال، ومنها كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة (ص28الى32)، وهو يورد حجة عمر من كتاب الله نصا، ويعلق عليها أجمل تعليق، وأحسب يا صديقي أنك منه نقلت ما نقلت، لتماثل العبارتين، ولكنني أعجب كيف اقتصرت على الجانب التاريخي من المسألة، وأهملت الجانب الديني منها وبه استدلال عمر بالقرآن على صحة ما يذهب إليه من الامتناع من القسمة، حتى رأيت أنه يصح لك أن تقول: إنه عدل برأيه عن ظاهر النص القرآني مع أنه إليه استند والصحابة الذين نازعوه لم يسكتوا ويرضوا حتى أدلى لهم بحجته الناصعة من كتاب الله؟

واليك أسوق حجته التي قالها لمخالفيه كما أوردها أبو يوسف قال: قال عمر رضي الله عنه: إني قد وجدت حجة، قال الله تعالى في كتابه: (وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير) حتى فرغ من شأن بني النضير. فهذه عامة في القرى كلها. ثم قال (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى اليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب) ثم قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). فهذا فيما بلغنا والله أعلم للأنصار خاصة، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم) فكانت هذه هي عامة لمن جاء من بعدهم. فقد صار هذا الفيء بين هؤلاء جميعا، فكيف نقسمه لهؤلاء، وندع من تخلف بعدهم بغير قسم؟ فأجمع على تركه وجمع خراجه.

قال أبو يوسف رحمه الله: والذي رأى عمر رضي الله عنه من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقا من الله كان له فيما صنع وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم. . .).

وفي كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام:

قال أبو عبيد: فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين:

أما الأول، فحكم رسول الله في خيبر، وذلك أنه جعلها غنيمة، فخمسها وقسمها. . .

وأما الحكم الآخر، فحكم عمر في السواد وغيره، وذلك أنه جعله فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمسه، ولم يقسمه. . .

قال أبو عبيد: وكلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفئ، إلا أن الذي أختاره من ذلك أن يكون النظر فيه إلى الإمام كما قال سفيان. وذلك أن الوجهين جميعا داخلان فيه. وليس فعل النبي براد لفعل عمر، ولكنه اتبع آية من كتاب الله تبارك وتعالى فعمل بها، واتبع عمر آية أخرى فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين، فيصير غنيمة أو فيئا. قال الله تبارك وتعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فهذه آية الغنيمة، وهي لأهلها دون الناس، وبها عمل النبي . وقال الله عز وجل: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول. . .) فهذه آية الفئ، وبها عمل عمر، وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها، فقال: (فاستوعبت هذه الآية الناس) والى هذه الآية ذهب علي ومعاذ حين أشار عليه بما أشار فيما نرى، والله أعلم.

وكذلك قال سائر العلماء، من مفسرين ومحدثين وفقهاء، ولو ذهبت أروي أقوالهم في التزام عمر النص في هذا الموضوع وسواه وأنه لم يتركه ولم يعدل عنه إلى رأيه أو رأي غيره من الرجال وأن الصحابة كلهم كانوا على هذه الطريقة لم ينزع منهم نازع إلى مذهب التحسين والتقبيح العقليين، لأمللت السامع وثقلت عليه

وبعد، أفلا ترى يا سيدي بعد هذا وذاك، وأنت الملتمس للحق والداعي إليه، أن تتلافى ما كتبته في هذا الشأن بالتصحيح والتنبيه، لئلا يتابعه الناس كما تابعه صديقنا الأستاذ عبد المنعم خلاف؟

على أن الذي يعنيني من أمر عمر رضي الله عنه وتصحيح ما ينبغي تصحيحه من الرأي العارض فيه، ليس بأكبر مما يعنيني من تصحيح جملة القول الذي يتعلق بإباحة ترك النصوص القرآنية لآراء الرجال بدعوى مسوغات المصلحة العامة، لما يترتب على هذا من تعطيل الشريعة وإبطالها؛ فأية مصلحة عامة هذه يهتدي إلى تحديدها البشر ذوو المصالح المشتبكة المتعارضة والنوازع الضيقة الحرجة، ولا يهتدي إليها خالق البشر وهو المنزه عن تلك النقائص، الذي لا يريد لعباده إلا ما يضمن لهم مصالحهم على خير الوجوه؟ إن ما استحسنته من ذلك يا سيدي إنما يدخل في باب التحسين والتقبيح العقليين، وحقيقة ما أردته إنما هو ما يسمى المصلحة المرسلة بلسان الفقهاء والأصوليين، ولكنه اختلط هذا بذاك وجرى البحث إلى غير وجهته. فيا حبذا لو حررت الموضوع ثانية، وأقمت حدا فاصلا بين ما يسمى المصلحة المرسلة وهي شرعية، وبين ما يسمى التحسين والتقبيح العقليين وهو بدعى هادم للشريعة لا يقول به إلا من يريد أن يأتي على الإسلام من قواعده، وأنت بحمد الله من بناته وحفظته الأقوياء المخلصين.

هذا وإني مرسل رسالتي إلى معاليك ولك أن تحتفظ بها أو أن تنشرها بنصها وفصها تنبيها إلى أمر خطير لا يصح إهماله وإغفاله، وإني معتقد اعتقادا جازما بأن من يكتب مثل (الرسالة الخالدة) ويسمو هذا السمو في الدعوة إلى إقامة نظام عالمي جديد أساسه الدعوة المحمدية في مختلف الشؤون الإنسانية، لا يعنيه فيما يكتب ويدعو إليه إلا الحق، ولا يعيش في دنياه إلا لأخرته. بارك الله لك في مساعيك، ورعاك بعنايته ورضاه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته من أخيك المخلص الأمين:

محمد بهجة الأثري

عزيزي الأستاذ الكبير السيد محمد بهجة الأثري:

السلام عليكم ورحمة الله وبعد. فقد تلقيت كتابكم الكريم، وأشكر لكم تقديركم (للرسالة الخالدة) وجميل ثنائكم ونقدكم الخالص لوجه الله والإسلام والصداقة، ذلك النقد الذي أقدره كل التقدير وأعلم ما فيه من غيرة مشكورة على الكتاب والكاتب.

وإني حين ذكرت قصة تصرف عمر رضي الله عنه في أرض السواد تصرفا جديدا لم يسبق إليه، لم أرد ما تبادر إلى فهمك من أني ضربته مثلا لترك النص القرآني بناء على مذهب التحسين والتقبيح العقليين وتحكيمه في دين الله، وإنما أردت أن أعرض مثلا من اجتهاد الإمام في فهم النصوص وعدم وقوفه عند ظاهرها ما دام أمامه طرق لفهم جديد معلل بمصلحة عامة فيها نفع محقق للدولة والأمة، وذلك لأضع أمام الغرباء عن فهم حقيقة الشريعة الإسلامية مثلا من مرونتها واتساع مدى الرأي والتعليل فيها وصلاحيتها أساسا للتشريع في الفرعيات التي تحدث وتتجدد بتجدد الأزمنة والأقضية وألوان حياة الناس، حتى لا يستمر انسياق كثير من الناس فيما انساقوا إليه من توهم وقوف الشريعة الإسلامية لا تتكيف ولا تتسع للتطبيق المعقول.

وإن الرواية التي ذكرتها أنا في المسألة نقلا عن كتاب التشريع الإسلامي للمرحوم الشيخ الخضري قد ذكرت الجانب التاريخي والجدل العقلي بين عمر ومخالفيه فيما رأى من تخميس الأموال وتقسيمها بين أهلها وإخراج الخمس وتوجيهه وحبس الأراضي بعلوجها ووضع الخراج عليهم فيما مع الجزية الشخصية، ولم تذكر استدلال عمر بالآيات التي تلي آيتي الفئ من سورة الحشر كما روى أبو يوسف في كتاب الخراج وكما ذكرت في كتابك إلي.

أما وقد روى أبو يوسف اعتماد عمر فيما ذهب إليه على فهم لهذه الآيات فقد صار للمسألة بذلك وجه آخر. ولم يخطر ببالي قط أن عمر رضي الله عنه يرى نصا قرآنيا لا يقبل التأويل ثم يخالفه، فعمر هو ما هو صدق إيمان وإذعانا لأوامر الله. وأخيرا أكرر لك شكري وتقديري مع فائق التحية.

المخلص

عبد الرحمن عزام