مجلة الرسالة/العدد 713/بين مصر والسودان:
مجلة الرسالة/العدد 713/بين مصر والسودان:
قصة الروح. . .
للأستاذ عثمان طه شاهين
أخذت الحضارة تصلح على ضفاف النيل وواديه منذ أن بدأ الإنسان يشتغل بالزراعة وبدأت حياة الاستقرار وإنشاء الحكومات، وحيث أن المصريين - كما يقول هيرودوت - هم أقدم أمة متمدينة على الأرض فقد أخذت حضارتهم تنبث إذن على ضفاف الوادي متجهة مع الماء نحو الجنوب، تاركة فيه رواسب متباينة من هذه المدنية القديمة، وعلى هذا الأساس فقد بذرت البذور الأولى من قصة هذه الروح، ثم أن هذه الصلة قد تكونت عن صدق وإخلاص لأن السودانيين كانوا يدينون بالدين المصري القديم ويتكلمون اللغة المصرية.
يرى المحدثون من الباحثين أن معالم الحضارة المصرية القديمة والثقافة العربية قد تسربتا إلى السودان الشمالي عن طريق مصر، وقد استطاع هذا الإقليم أن ينتج في وقت ما حضارة شبه مصرية من حيث طابعها ومظهرها، ومنه خرج الغزاة اللذين أسسوا إحدى الأسر الفرعونية كما أنه أقرب من حيث ثقافته وحالته البشرية العامة إلى مصر من إقليم النوبة الشمالية نفسه مما يرجح الأخذ بان قصة هذه الروح تقوم على دعائم ثابتة وعلى أركان وطيدة راسخة تمد الروح من جهادها العبقري للتخلص من وبقة الاستعمار.
فالروح في الشمال لم تستكن يا صاح - في تاريخها الطويل - للغزاة الفاتحين؛ فإذا نظرنا إلى غزاة مصر من الإغريق والرومان فأنا نجد أنهم لم يفلحوا في فرض طابعهم على الحياة المصرية ذلك لأن هنالك قوة حيوية كامنة في نفوس المصريين تستحثهم الدوام وتوجههم للثورة على الغالبين، فغدوا هم غالبين منتصرين، مسيطرين على المجرى الطبيعي لوادي النيل؛ ومن هنا ندرك أن الروح المؤمنة الشاعرة تنتصر على الدوام لأن رسالتها تنبعث من قوى الإيمان الصادق.
وإذا انتقلنا مع الزمان نقلة سريعة باحثين عن الأثر الذي تركته الحياة العربية في جنوب الوادي فإننا نلمح تجاوباً سريعاً في حياة الروح في الشمال والجنوب، ذلك لأن الآلام واحدة والآمال واحدة كذلك، ومرجع ذلك ومرده إلى وحدة اللغة والدين والعادات والتقاليد، لأ حياة الأمم - كما نعلم - لا تتكون إلا عن طريق هذه النظم الإجماعية الكبرى التي تعبر تعبيراً صادقاً عن التطور الطبيعي المرموق، وعلى هذا فالإيمان الذي يدعوا إليه أبناء الشمال عن الجلاء ووحدة الوادي يجد سبيله النافذ إلى أبناء الجنوب فهم يستمسكون به ويدافعون عنه ويضحون في سبيله بأغلى ما يملكون. فالروحان المتعانقان في الشمال وفي الجنوب يؤمنان ويجاهدان ويعملان. . .
ولكن ما هي العناصر التي تمد هذه الروح وتذكيها، وما هي الآثار التي يخلفها هذا الإيمان، وما هو المدى الذي تتطلع إليه هذه الروح في غدها القريب السعيد؟ كل هذه النتائج يتلمسها المتتبعون لسير الحوادث في جنوب الوادي في هذه الآونة الأخيرة؛ ذلك أن حركة وادي النيل قد أخذت تظهر منذ أن هب المخلصون من السودانيين تلك الهبة المعروفة والتي تمخضت عن حوادث سنة 1924 الدامية إذ قتل فيها من قتل وشرد فيها من شرد، فكانت تلك الحركة إذن وقوداً يذكي لروح الشعبية في جنوب الوادي، وقد وجدت تلك الحركة صداها في نفوس الشعراء من شباب ذلك الحين فانبعثت الألحان الثائرة من عبد الله بن عبد الرحمن، ومدثر البوشي، وعبد الله البنا، وصالح عبد القادر. فكانت الشرارة الأولى للروح الثائرة المؤمنة. . .
وإذا نظرنا إلى قصة الروح في الشمال فإنا نجد أن الحملة الفرنسية قد كان لها دور بعيد في تأريخ هذه الروح، إذ كان الفرنسيون أول أمة غربية هبطت مصر في تأريخها الحديث واستولت عليها، وبهذا فقد اتجهت أنظار الدول الأوربية إلى مصر وغدا لها في تاريخ الروح الأوربية طور جديد؛ أضف إلى هذا أن إنكلترا قد أخذت تهتم بمصر اهتماماً عظيما وذلك لمركزها الجغرافي المرموق، وأخذت تعمل - بالتالي - للحيلولة دون وقوع مصر في يد دولة غربية أخرى، ومن هنا تلعب قصة الروح دورها الذي انفردت به من بعد على مدى التاريخ؛ ومن هنا ظهرت لجنوب الوادي مكانته في نظر السياسة الإنجليزية كما هو معروف.
ومن البداهة أن يلاقي العباقرة من العظماء والمجاهدين والفنانين الآلام المبرحة في سبيل الوصول إلى القمة في حياة الروح، ذلك لأن التخلص من طبيعة الأرض يمسك بهم من الانفلات والصعود فيجاهدون ويجاهدون، ومن البداهة كذلك أن تلاقي الأمم هذه الآلام في تاريخها للوصول إلى العزة والكرامة والاستقلال، فالإيمان والمثابرة شرطان ضروريان للروح في سبيل تلمس مثلها العليا الكريمة، والغاية قريبة - مهما بعدت الشقة - إذا دعمتها إرادة قوية وإيمان مطلق.
كانت الروح التي نادى بها جمال الدين الأفغاني مشتعلة وهاجة، إذ لبث في مصر سنوات يتصل بالطلبة من كل أرجاء العالم الإسلامي ويبث تعاليمه ومبادئه فتجد الاستجابة المؤمنة في نفوس أبناء الأزهر بشكل لم يعهد له مثيل في العصور الحديثة وأخذ الإمام محمد عبده يعيد للفكر قدسيته وللدين مكانته من حيث النظر العقلي السديد مما يذكر الباحثين بابن رشد حينما أراد أن يؤاخي بين الشريعة والحقيقة، ومن هنا كان لهذه الحركة صدى بعيد في الجنوب فارتبط الجهاد على الإصلاح والإيمان كما يرتبط اليوم على الجلاء والوحدة، وكان ذلك النشاط المرموق يستمد قوته وبقائه من الحركة العرابية في الشمال ومن حركة المهدي في الجنوب، وعلى هذا فقد تلاقت الأكف والقلوب والحناجر بالدعاء والتضحية والإباء. . . .
أما اليوم - في حياتنا المعاصرة الرشيدة - فقد أخذت الروح في الشمال تعبر تعبيراً صادقاً عن إيمانها بالجنوب، وأخذ الأديب السياسي الفنان هيكل باشا يصوغ هذا التعبير إذ قال: (إن مصر لم ترد في يوم من الأيام سيطرة على السودان ولا تسلطاً على أهله ولا استغلالا لموارده، ولكنا ونحن نعيش في واد واحد تتحد فيه مرافقنا واقتصادياتنا ومقوماتنا جميعاً لا يستطيع أحدنا أن يستغني عن صاحبه في الشمال أو في الجنوب، كما أن أهل لغرب طالما كرروا ويكررون أن الأمم الصغيرة خاصة لا يمكن أن تعيش وحدها بل يجب أن تتكتل لتصبح قوية قادرة على التعاون، والأمم لا تتكتل إلا إذا تجاورت، وليس هناك تجاور أقرب من تجاور السودانيين والمصريين).
وأخذت الروح في الجنوب تعبر تعبيراً صادقا عن إيمانها بالشمال وتجعل هذا التعبير في القوى المدخورة التي ادخرتها الأمة لوفدها الأمين، وفي هذه الآثار القوية المتجلية في وجود الشعب ومشاعره وأحاسيسه وفي الأفكار التي يبعث بها الجنوب على صفحات الصحف المحلية والخارجية وفي الوثيقة الدموية التي خطها الشباب بقلبه وروحه ودمه، وفي كل ما يحدث من ثورات ويسيل من دماء تعبر عن هذا الإيمان وتكشف عن طبيعة الروح وهي تتخذ طريقها للتعبير. . .
آمنت الروح على ضفاف الوادي بأنها ستنال حريتها وكرامتها، وكان من طبيعة هذا الإيمان أن تتجاوب أنغام التضحية والفداء فأخذت القلوب تتلاقى في الشمال والجنوب مؤمنة برسالة الحرية والإخاء داعية لأنغام الجهاد، فسالت الدماء الطاهرة على قرى الوادي مؤذنة بميلاد الفجر الجديد، وارتفعت الحناجر منادية بالثورة في شباب الجامعة في الشمال وفي أروقة العلم في الجنوب ولفظ الشهداء أنفاسهم الأخيرة وهم ينادون بالاستقلال للوادي الكريم، فأذن المؤذن بميلاد الفجر الجديد.
نعم، قد أراد الوادي اليوم أن يكون خالصاً لبنيه، وإذا أرادت الأمم شيئاً فهي واصلة إلى ما تريد. فالروح إذن إنما تعبر تعبيراً صادقاً عن أحاسيس أبناء الوادي ومشاعرهم وتترجم عن مواطن القوة والكمال فيهم:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسر
ذلك لأن إرادة الحياة - كما يقول الشابي - إنما تخلق بالأمم القوية الشاعرة التي تؤمن برسالتها في الحياة وفي حقها في الوجود.
يا إخوان الطفولة ويا حماة العرين! انظروا إلى الأسد البريطاني يفغر فاه ليلتهم القوى المذخورة في النفس. فلنكن يقظين، فالإنجليز معكم يا إخوان يسيطرون على كل شبر في الجنوب، وينبشون بينكم في كل مكان، ويصرفون الأمور بعددهم العديد الجم، فكونوا يقظين حريصين ناظرين، واعلموا أن جهادهم في الحرب قد استنفد منهم كل ما يملكون وفي الجنوب عوض للجهود التي بذلت وللنفوس التي حطمت وللأرواح التي حاق بها الخسران. . .
هل تؤمنون اليوم بان الإنجليز يؤيدون حركة الانفصال ويرعونها لأن فيها خير البلاد ورفاهيتها وتقدمها، وهل يقوم حاكم السودان بجولاته في الغرب والشرق، شارحاً قصة الحكم الذاتي، متحدثا ًعن أسطورة الاستقلال، داعياً إلى مذهبه الجديد، هل يصدق أولئك وغيرهم بأن الحاكم الإنجليزي يفعل ذلك لخير السودان أم لخير الإمبراطورية!؟
نحن مؤمنون يا صحاب بأن موسيقى الحياة تسير على أنغام عذاب، ونحن مؤمنون بأن حركة الانفصال تلعب بها أصابع خفية ناشزة، فلتشدوا الأوتار من جديد ولتصلحوا الحياة، كيما تستقيم، واعزفوا لأطفال اليوم ورجال الغد بأن الإنجليز هم الداهية الدهياء في الشرق الحديث، وابعثوا الأنغام هادئة نقية، وآمنوا بأن للوادي روحاً وجسما وانظروا إلى رسالة السماء. . .
ولتسر هذه الروح مؤمنة برسالتها في الشمال وفي الجنوب واليدان ممدودتان - من ريشة الفنان - قبل الأرض تباركان الخير وتبذران الحب للساعين. . .
عثمان طه شاهين
ليسانسيه في الفلسفة