مجلة الرسالة/العدد 714/مصر العربية

مجلة الرسالة/العدد 714/مصر العربية

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1947



للأستاذ أحمد رمزي بك

كتب أبو حيان التوحيدي عن العرب بعد أن شملتهم الدعوة النبوة والشريعة فقال: (قد رأيت كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم. وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم، من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه وساقه إلى أهله بتأييده). وتلك حال مصر العربية من يوم أن دخلها عمرو بن العاص وصحبه منقذين ومخلصين، يحملون أعلام الحرية لا فاتحين وغزاة. فهذه البقعة من الأرض التي خاطب أهلها عمرو من مسجده العتيق بالفسطاط فقال لهم: (اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، تتجه قلوبهم إليكم، وتتشوق إلى دياركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية).

قد خط الله لها في سجل قدره وإرادته أن تكون من المبدأ قلب العروبة، فهيأ لها أن تجتمع محاسن الأمم إليها وفضائل الأجيال عليها، ومهد لها أن رجالا أتوا إلى الوادي لخدمته، بعبقريتهم سيوفهم، وكان أن صمد أهل مصر طول القرون الماضية وهم في رباط دائم، يخدمون الإسلام والعروبة بعلمهم وفكرهم، ويذودون عن الإسلام ونفوذ المسلمين بأيمانهم وسيوفهم، ألم تقم دولة آل طولون بما تعهدت به للدولة العباسية من حماية الشام وأهله والعواصم والثغور في طرسوس وما حولها؟ ألم يدرك المرض الأمير أحمد بن طولون في أنطاكية وهو عائد من جهاده ضد الروم في آسيا الصغرى ليموت بمصر؟

تلك سنة الله التي اختطها لأهل مصر في الأعصر الخالية، فكتب عليهم القتال والجهاد والشهادة وحملها لهم أمانة لجند مصر وأمرائها وملوكها، فما وهنت أعناقهم عن حملها، وإنما ساروا بها لألف سنة والنصر يواتيهم، والشهادة تلاحقهم، وكتبوا بدمائهم صفحات من المجد الخالد، يعرفها كل من اطلع على تاريخ مصر العربية الإسلامية وشوكتها أيام استقلالها وعظمتها كما اعترف بها كتاب الغرب الذين كشفوا بأبحاثهم عن معارك الحروب الصليبية، وإن ود كثير منهم أن يطمسوا الحقائق وتبعهم فريق منا يحاول التقليد ليخفى من أثر مصر وجهادها في تاريخ الإسلام والعروبة.

إننا في حاجة دائماً إلى من يذكرنا بمواقف مصر وجهاد أهلها السابق؛ لأن هذا التاريخ الذي تنطق صفحاته بأيام النصر المتلاحقة المتتابعة عنصر هام من عناصر التكوين الروحي والعقلي للأمة المصرية، وهذاالإيحاء الدائم المتواصل المستمد من تاريخنا الإسلامي والعربي هو مصدر روحي لقوة الأمة وعبقريتها واستعدادها للتصادم ومقارعة الأحداث.

وأعود بهذه المناسبة إلى كلمة نشرتها عن الفكرة العربية وحاجتها إلى مجهود عدد كبير من المفكرين والباحثين ونظرت إليها كجزء مكمل للتكوين الروحي والعقلي للأمة المصرية. بل ذهبت في إيماني بها إلى تقرير مبدأ يتلخص في أن الكثير من مشاكلنا الخلقية والقومية، والتي تبدو لنا صعبة الحل؛ سيسهل علينا مواجهتها على ضوء الأسس الاجتماعية التي لا تعتمد على العقل وحده بل تحرك القلوب والمشاعر، وليس أعظم من الإيحاء الدائم المستمد من التاريخ الحي لتلقين الجماعات وإشعارها بالدور الذي لعبته في الماضي وتهيئتها لمواجهة المستقبل ومصاعبه.

ونحن الآن في مصر أمام حركة قومية تحدث العالم عنها، ووقفت البلاد إزاءها وقفة من تلك الوقفات التاريخية الخالدة، إذ أجمعت الأمة ممثلة في أحزابها ورجالها وساستها في المطالبة بحق ثابت لها، وهذا عمل عظيم رائع يملأ النفس تفاؤلا ويكاد يشعرنا بأن الأيام المقبلة ستكون حتما أسعد لنا من الليالي القاتمة السواد التي مضت. وإنا لنحس بأن هذه الدفعة وليدة الوعي القائم والرغبة المنبعثة عن إرادة شاملة للتحرر، بل فيها ما يقنع بأن هذه الإرادة ترمي إلى أبعد من ذلك كله: ترمي إلى إثبات كفاية هذه الأمة ومقدرتها على التقدم وإلى تأكيد شخصيتها وتحررها من الصلات القائمة لكي تعتمد في حل مشاكلها القادمة على القوة الكامنة فيها وحدها. هذه حالتنا اليوم في موقفنا إزاء الأحداث القادمة، ولئن شغلتنا قضية البلاد بمشاكلها الداخلية والخارجية ومصاعبها؛ فنحن في حاجة ماسة إلى تعهد هذه اليقظة، بعمل دائم من رجال الفكر، لكي تقوم هذه النهضة على أساس عقلي دائم، ولكي تبرز القيم الروحية لهذا الوعي، حتى تغمر الدوافع القومية كل طبقات الأمة. فيكتب لنهضتنا الدوام والاستمرار، وتحمل طابع الخلود الذي يلازم الحركات القومية الكبرى.

وهذا ما يدعونا إلى تقرير بعض المبادئ العامة التي تصلح لأن يؤمن بها كل منا. فالمبدأ الأساسي الذي تقوم به علاقات هذا الوطن بالعالم: يتلخص في أن الأمة المصرية في نضالها وكفاحها لا تضمر شراً لأحد من الناس أو لإحدى الدول الأخرى، وإنما تطلب معاملة الند للند، أي لا تسمح لأي دولة أن تعاملها معاملة أقل من المعاملة المعتادة التي توجد بين دولة أوربية ودولة أوربية أخرى، أي المعاملة المدنية التي تفرض أوربا قيامها مع أي مجموع راق متطور. ومعنى ذلك أن هذه البلاد كاملة السيادة فهي ليست مستعمرة، وعلى من يعيش فيها أن يخضع لأنظمتها وقوانينها ومحاكمها وتشريعها ويرعى قواعد الضيافة ويعود نفسه على احترم الأمة المصرية وتاريخها وتقاليدها.

وتستند هذه القاعدة لقيام صلات مع العالم المتمدين، على مبدأ شامل عام: هو أن الأمة المصرية تسكن هذه الأرض المعلومة بحدودها، وأن لها أرض الوطن الحق الطبيعي التاريخي الثابت، وما من شك في أن هذه الأمة ممثلة في أفرادها وجماعاتها وهيئاتها، تريد أن تحيا وهي متمتعة بكل حرياتها التي تكفلها حقوق الإنسان، وأن تتمسك بكامل شخصيتها ومميزاتها. ومعنى ذلك أنها لن تتنازل عن شيء من حرياتها ومميزاتها لأن كل هذا وديعة بأيدي الجيل الحالي سيسلمها كاملة وبأمانة إلى الأجيال القادمة وهي لا تقبل التفريط أو التساهل، لأن الأمة التي تفقد هذه الأشياء تصبح في النواحي التي ضعفت لديها، فريسة سهلة لما يحيط بها من تأثير الأمم الأخرى.

وأعظم مظاهر الشخصية للأمم هي اللغة: ولغتنا العربية هي من أعظم لغات الأرض بل هي أقوى اللغات السامية التي شقت بحيوية أهلها طريقها في التاريخ، وتمثلت فيها عبقرية الأمم العربية وتفوق الفكر السامي وقدرته على الخلود ومواجهة أحداث الزمن ونكباته، ولها ميزة انفردت بها عن سائر اللغات السلمية وهي أن غيرها فني وانقرض وبقيت لغتنا خلال القرون وهي حافظة على قوة التعبير والقدرة على التطور والإبداع.

وفي العالم الحديث ثقافات متعددة أو هي بعدد الأمم الحية وللعصر اتجاهات، ولكن لنا ثقافة نريد أن تكون حية وهي ثقافتنا العربية وليدة كفاحنا وجهادنا. لا ننوي أن تطغي عليها ثقافة أخرى من لاتينية أو انجلوسكسونية أو سوفييتية مهم علا كسب أهلها في مضمار الحضارة، لأن ثقافتنا جزء ثابت مكون للشخصية المصرية لا يمكن أن نتنازل عنه أو نقصر في حقه بل يجب أن يبرز في كل ركن وناحية من نواحي نشاطنا. ونحن نطمع أن نأخذ بما في الكون من أشياء نافعة وأفكار مبدعة، ونريد أن نساهم بقسط في تطور الفكر وإبداعه، فذلك حق لنا وضرورة لازمة، ونطمع فيما يطمع فيه غيرنا وهو استكمال النقص فينا لإبراز عناصر الحياة وتدفقها في ثقافتنا ولجعلها حقيقة عالمية تفني حين يفنى العالم بأكمله.

ونحن نعرف ما في قوانين الطبيعة من تفاوت وتفرقة، وما تمليه قواعد الطاقة ونظم الحياة الحديثة وما في العالم من قدرة وقوى محركة، ونعرف مواطن النقص لدينا وأماكن الضعف عندنا، ولكننا سنقبل المعركة كما دخلها الآباء والأجداد من قبل، سنتقدم بغير هوادة، لا تقدم اليائس بل تقدم الواثق من نفسه، سوف لا نقف بعد اليوم لأن الجمود تراجع، وستبرز فينا القوى الكامنة والمستمدة من عناصر الفتوحات الكبرى بشكل يبهر العالم. ولا يغرنكم ما ترون من تطاحن وتناحر واختلاف وتنابذ، أن ما يبدو مستحيلا أو بعيداً للوصول إليه سيتحقق، وسنرى الأحزاب مدارس لإخراج الرجال وتدريب القادة، ستملي النهضة قوانينها الثابتة المستمدة من روح الحياة والتاريخ، وتأخذ سيرها الطبيعي بعد التحرر، وتجعل من الأتباع والأعوان أنصاراً للفكرة الكبرى يثبتون على مبادئهم، ويفرضون على القادة التمسك ببرامجهم السياسية، فلا خصومة شخصية ولا كراهية يمليها الحقد، ستكون المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، ومصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد. وسنصل بالعلم والتدريب والنظام إلى خلق طبقة من الرجال: لا يخشون في الحق لومة لائم، أشداء على أنفسهم، فيهم الصبر والتؤدة والإقدام والسرعة، لديهم البصيرة النافذة والعناد والجرأة، نرى في أعينهم الثبات على الرأي، ونلمس في مشيتهم قوة الإرادة والسرور في ملاحقة الأخطار والصعب من الأمور، سيجمع بينهم طائفة من العواطف النبيلة أهمها حبهم لبلادهم وشعورهم بضرورة التفاهم والتعاون لترقية هذا الوطن: سنرى الشافعي في رجل الدين، وابن بكار في القضاء، وابن خلدون في العلماء، وصلاح الدين وبيبرس في القواد والزعماء وسنقول يومئذ ما قاله توسيديد (إن قوة المدينة في رجالها لا في قلاعها ولا في أسطولها).

أحمد رمزي