مجلة الرسالة/العدد 714/معاوية بين يدي عائشة

مجلة الرسالة/العدد 714/معاوية بين يدي عائشة

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1947



للأستاذ سعيد الأفغاني

الشورى أساس من أسس الحكم في الإسلام، فكلما كان حظ الحكم منها أوفى كان أقرب إلى روح الإسلام. والحاكم الأعلى في العرف الإسلامي أجير للناس كافة: يسهر على مصالحهم ويمضي أحكام الشرع ويستوفي أجره من بيت ما لهم وليس يملك من الأمر غير ذلك.

انقضى عهد الراشدين وفهم أجلاء الصحابة ورؤوس الناس للحكم هذا الفهم؛ فلما اتفق أن ولي الخليفة عثمان رضي الله عنه بعض الأكفياء من أقربائه أعمالا، أعظم الناس ذلك وخافوا أن تصير مصالحهم العامة حكرة لأحد أياً كان أو وقفاً على أسرة أية كانت، ففشت القالة في عثمان وكان هذا أول الشر الذي أودى بخلافته.

أما معاوية، فإن أربعين عاماً سلخها في حكم الشام إلى جوار إمبراطورية الرومان وفي ديارهم القديمة، قد انحرفت به عن الجادة في أمر الحكم، فلم يسلك به الطريق الإسلامي الذي رأينا أساليب مختلفة له في عهد الراشدين، وإنما سلك به طريقاً (بيزانطياً) وأراد الخلافة أسلوباً ملكياً على أساس بيزنطة، وانتوى لها نية فطفق يتألف لها الناس ويهيئ لها الأمور. . . فلما وجد الأحوال مواتية أعلنها بيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد.

ولم يفعل ذلك معاوية حتى سبر أغوار الأمصار وطباع الناس؛ وكانت قد استلانت واستكانت مدة عشرين عاماً بسبب سياسته وسياسة ولاته الحازمين الأشداء. نعم لقد استكانت إلى الطاعة، حتى من يجيش حمية من رؤوس الناس وأحرارهم، روض معاوية إياهم وأنفتهم بلطفه وعطائه الجم حتى أسلسوا القيادة، أما من لم يسلس له فقد جعله جزر السيوف كما فعل في أمر حجر بن عدي وأصحابه. هذا وقد حصد الموت مدة أربعين سنة أكثر الصحابة وزعماء الجماهير ممن يهابهم معاوية.

مع كل ذلك، لم يخل إعلان البيعة ليزيد من صدمة للنفوس عامة، فأكثرها وقف ثم رضى بالقدر المحتم، وبعضها أنكر ورفع عقيرته بالإنكار.

أما السيدة عائشة فقد لزمت بيتها وسكينتها، وأنا أقطع أنها جاهدت نفسها بهذه السكينة أعظم الجهاد، وكبتتها أعظم الكبت وكظمت غيظاً ما كانت لتكظمه. فما كان هذا الأمر بالأمر الحقير، إنه أعظم ما مر بالسيدة من خروج على الإسلام وتنكر لروحه؛ ولكنه ذكرى يوم الجمل والدماء المهراقة فيه، الدماء دائماً هي الشبح الذي يلوح لعائشة كلما همت بإنكار منكر فترعد فرائصها وتستجير بالله من كل خير يؤدي إلى شر.

لكن أعوان معاوية فاتهم اللطف في تأتيهم لهذا الخرق لحرمة الخلافة، ولم يدركوا ما فيه من كسر لحرية ألفها العرب وشورى يتعبدون بها، ونظم سامية تجري منهم مجرى الدم من العروق. ظن أعوان معاوية أن البيعة ليزيد أمر من هذه الأمور الكثيرة التي يرد بها البريد فتعلق للناس وتنفذ في يسر وصمت. . . مما لا يصدم عقيدة ولا يجافي روحاً ولا يكسر تقاليد أصيلة ولا يذل أنفة قومية.

أرسل معاوية أمره إلى الأمصار بأخذ البيعة لابنه يزيد من بعده، فوقف عامله على المدينة مروان بن الحكم يعلن هذه البيعة على منبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فكان إنكار الناس لها واحداً، وكان متكلمهم عبد الرحمن بن أبي بكر أخو السيدة عائشة، فقد رد على مروان قائلاً:

(كذبت والله يا مروان وكذب معاوية معك، لا يكون ذلك. لا تحدثوا علينا سنة الروم: (كلما مات هرقل قام مكانه هرقل)، (لقد جئتم بها هرقلية وقوقية؛ تبايعون لأبنائكم؟)

قال مروان: (سنة أبي بكر وعمر).

عبد الرحمن: (بل سنة هرقل وقيصر)، (ما لأبي بكر لم يستخلفني؟ وما لعمر لم يستخلف عبد الله؟).

واشتد الغضب والحنق بمروان فقال:

- يا أيها الناس، إن هذا الذي قال الله فيه: (والذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله: ويلك آمن، إن وعد الله حق، فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين).

حينئذ، فرغ صبر عائشة وهي تسمع من حجرتها بالمسجد، وقد رأت أن عبث مروان تطاول إلى القرآن، فغضبت وقالت لمن حولها: (ألا بن الصديق يقول هذا؟؟ استروني) فستروها فجهرت ورددت جوانب المسجد صوتها قائلة:

- كذبت والله يا مروان، ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته؛ إن ذلك رجل معروف نسبه. . . ولكن (رسول) الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قضض (قطعة) من لعنة الله يا بن الزرقاء، أعلينا تتأول القرآن؟! لولا أني أرى الناس كأنهم يرتعشون لقلت قولا يخرج من أقطارها).

وكان لهذه الصرخة أثرها في الجماهير فانخذل مروان وانكسر ولم يعرف أن يقول غير هذه الكلمة: (ما يومنا منك بواحد)

لقد كان جبهها مروان شديداً عنيفاً حاطماً، وما باختيارها جبهته، ولكنه أحرجها. إن الذي بوسعها أن تفعله هو حيادها في أمر هذه البيعة غير المشروعة، وحسبها ذلك قهراً لنفسها وللواجب عليها، وكذلك كان: فلم ترد على مروان شيئاً لما أعلن بيعة يزيد، لكن مروان امتد أذاه إلى أخيها بغير حق، ثم امتد إلى ما هو أشد حرمة من أخيها وما لا يجوز لمسلم أن يقر عبثاً فيه، لقد امتد عبث مروان إلى كتاب الله يدعي أن آية نزلت في عبد الرحمن وهي لم تنزل فيه. . .

لم يكن للسيدة ولا لغيرها أن تسكت على هذا النكر الذي ارتكبه مروان نصرة لعصبيته السياسية.

وأي كان فقد امتنع عبد الرحمن بن أبي بكر عن البيعة وامتنع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، وامتنع لامتناعهم أهل الحجاز.

كتب مروان بالذي كان لمعاوية، فأقبل نحو المدينة فلما دنا منها استقبله أهلها وفيهم الأربعة المذكورون، (فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر فسبه وقال: (لا مرحباً بك ولا أهلاً).

فلما دخل الحسين بن علي قال: (لا مرحباً بك ولا أهلاً، بدلة يترقرق دمها - ولله - مهريقة).

فلما دخل ابن الزبير قال معاوية: (لا مرحباً بك ولا أهلا، ضب تلعة مدخل رأسه تحت ذنبه).

فلما دخل عبد الله بن عمر قال معاوية: (لا مرحباً بك ولا أهلاً) وسبه فقال عبد الله: (إني لست بأهل لهذه المقالة)

قال معاوية: (بلى، ولما هو شر منها).

معاوية في بيت عائشة:

دخل معاوية المدينة وكله خوف من السيدة عائشة أن تشتد عليه فيما ابتدع وما يريد أن يبتدع في أمر خلافة المسلمين مما يهون معه كل ما كان الناس نقموا على عثمان. ثم هو يخشى أن تكون السيدة سنداً وملجأ وقوة لهؤلاء الأربعة الأعلام الحجاز من صحابة رسول الله . ومعاوية من الذين يتأتون للشر قبل وقوعه، ولا تحملهم قوتهم عليه أن يكابروه حتى يقضوا عليه، توفيراً لقواهم ورجالهم، وسياسة لهؤلاء الخصوم عسى أن يصبحوا في جملة أنصارهم فيزيدوا بهم قوتهم.

أراد معاوية أن يتلطف لما في قلب السيدة عليه، فقد قتل قائده - بأمره على ما أرجح - أخاها محمد بن أبي بكر بمصر شر قتله وأشدها نكالا: حرمه قبل قتله شربة ماء وكان يتهالك ظمأ ثم أدرج جثته في جيفة حمار فأحرقها، ولم ينج أخاها من القتل والإحراق شفاعة عائشة ولا إرسالها في أمره رسولا خاصاً من أشراف بني أمية؛ وكذلك أرسلت تشفع أيضا في حجر بن عدي وأصحابه فلم تفد شفاعتها شيئاً. ولا ريب أن في نفس السيدة على معاوية - لذلك - ما فيها، ولكنها كظمت غيظها وردت حنقها. ثم كان من مروان مع أخيها عبد الرحمن في أمر البيعة ليزيد ما رأيت آنفاً.

ومعاوية يخشى أن يفيض الإناء فيكون له من عائشة يوم مثل يوم الدار أو يوم الجمل، والحملة عليه اليوم مواتية ناجحة لاقحة: لهذا الخرق الذي أتاه في الإسلام بأخذ البيعة لابنه يزيد مع أن أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار وأولي الحل والعقد من رجال العلم متوافرون يشهدون ويسمعون: قد تخطى معاوية مشيختهم وأجلاءهم إلى شاب مستهتر سكير سيئ السيرة رقيق الدين فيما زعموا.

لهذا كله، عزم معاوية أن يروض أصعب الناس عليه يومئذ وأشدهم وأجدرهم إذا قال (هلم) أن يلبيه الناس من كل صوب ويثوروا تحت لوائه: عزم قبل كل شيء على زيارة عائشة والتذلل لها وموادتها، (فأقبل ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أم المؤمنين، فاستأذن، فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد، وكان عندها مولاها ذكوان، فلما استقر به المجلس ابتدرته عائشة تقول:

(يا معاوية، أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟).

كان التقريع عنيفاً مفاجئاً كما ترى، لكن داهية الأمويين - على ما يظهر - كان يتوقع مثله، فلم تصدمه المفاجأة، بل أجاب متملقاً متودداً: - ما كنت لتفعلين ذلك.

- ولم؟

- لأني في بيت آمن: بيت رسول الله

فطامن ذلك من عنفها. ثم إنها حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول الله وذكرت أبا بكر وعمر، وحضته على الاقتداء بهما والاتباع لأثرهما. . . ثم صمتت. وكان على معاوية أن يجيب على خطبتها هذه، ولكنه لم يخطب مخافة إلا يبلغ ما بلغت، فارتجل الحديث ارتجالا في الأمر الذي قدم لأجله، وتلطف في تهوينه وتقريبه، وقال:

- (أنت والله يا أم المؤمنين العالمة بالله وبرسوله. دللتنا على الحق وحضضتنا على حظ أنفسنا، وأنت أهل لأن يطاع أمرك ويسمع قولك، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم؛ أفترين أن يقضوا عهودهم ومواثيقهم؟؟).

فلما سمعت عائشة ذلك علمت أنه سيمضي أمره فأوصته بهؤلاء المخالفين: أخيها عبد الرحمن وأصحابه فقالت:

- (أما ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط ولا تعجل فيهم، فلعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت).

ثم قام معاوية، فلما قام ذكرت عائشة فعلته الشنعاء في حجر وصحبه، فقرعته قائلة:

- (يا معاوية، قتلت حجراً وأصحابه العابدين المجتهدين؟)

فقال معاوية مراوغا: (دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟).

قالت: (صالح).

قال: (فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا).

وهكذا انتهى اللقاء الأول بين الخليفة الداهية العظيم وعائشة أم المؤمنين، وأصابه بعض ما يستحق من التعنيف على لسان السيدة

ثم خرج معاوية ومعه ذكوان مولى عائشة، فاتكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول:

(تالله ما رأيت كاليوم خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله) ثم مضى. ولا تظنن وأنت تقرا كلام معاوية آنفاً أن فيه حجة أو أن السيدة اقتنعت، فليس مما يقنع مثلها أن يقال لها في منكر تنكره (هذا قضاء من قضاء الله)، لكن عزيمة سبقت منها في اعتزال السياسة والفتن جعلها تمر بهذه الحجة الواهية متغافلة. ومعاوية يعلم ذلك منها، وكلا الاثنين يجامل صاحبه ويدافع شره.

ثم كان لقاء آخر بمكة زور له معاوية جواباً فيه شبه الحجة في قتل حجر وأصحابه.

والذي أذهب إليه أن السيدة لا تريد هذا التأنيب، وإنما تلوح لمعاوية بقضايا قد تلجأ إلى التشنيع بها عليه إذا هو حاول أن يمس أخاها عبد الرحمن وصحبه بأذى أو بطش، ففهم كل منهما عن صاحبه.

وكأن مكانتها رحمها الله قيدت معاوية عن التصرف كما يريد في إحكام الأمر لابنه في الحجاز فمات وفي نفسه غصة من منزلة عائشة بين المسلمين وتخوف لما قد يكون منها.

أما اجتناب السيدة الشدة في إنكار هذا المنكر فيشرحه أحسن شرح حالها في احتضارها:

ذكروا أنها لما احتضرت جزعت، فقيل لها (أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله وأم المؤمنين وابنة أبي بكر الصديق؟). فقالت (إن يوم الجمل معترض في حلقي. . . ليتني كنت نسياً منسياً).

سعيد الأفغاني