مجلة الرسالة/العدد 716/الأدب في سير أعلامه

مجلة الرسالة/العدد 716/الأدب في سير أعلامه

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1947


7 - تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

بين الجد واللهو

ودع تولستوي قازان وفي نفسه أنه ودع اللهو والعبث فما إليهما من عودة، وبلغ ياسنايا تلك الضيعة المحبوبة وقد زاده محبة لها إنها غدت من نصيبه، وإن ليشعر أنه أصبح مسؤولاً عنها وعمن يعيش فيها من الناس؛ ولقد زاد هذا الشعور لا ريب في نفسه العزم أن يطلق حياة اللعب والعبث. . .

ثم إن فكرة تسيطر على لبه اليوم وتملأ جوانب نفسه، ومؤداها أن يعمل في جد على إصلاح حال الفلاحين في الضيعة وما جاورها، فما يليق به أن يذرهم فيما هم فيه من جهل وبؤس.

وتستمع إليه العمة تاتيانا دهشة مبتسمة فما يخرج الأمر عندها عن أن يكون نزعة جديدة من نزعات الشباب؛ ولكنه يعود كل يوم إلى هذا الحديث وإنه لأقوى عزماً وأكثر جداً؛ وإن تفكيره في هذا الأمر ليصرفه عن القراءة وعن الموسيقى التي أحبها حباً عميقاً خبرته عمته؛ وإنها لتجلس إلى البيان تحاول أن تمتعه بلحن مما يجب فما يروعها إلا انصرافه عنها وعن لحنها ليقبل على حديث إصلاح الفلاحين. . .

وتعجبت عمته ويزداد عجبها إذ تراه يتخذ لنفسه زياً خاصاً به يعتزم أن يلبسه في كل وقت وفي كل مكان لأنه يظهره في مظهر الفيلسوف؛ ولكن الفتى لا يلبث حتى يخلع هذا الرداء ويلقي به لأن أحد الزائرين لم يتمالك نفسه ذات مرة من الضحك من مظهره، كره الفتى أن يكون موضع استهزاء، وهو الذي طالما تأنق وتنبل بالثياب. . .

وما الذي ألقى في قلب الفتى هذه الرغبة القوية في إصلاح حال الفلاحين؟ أهي مجرد نزعة من نزعات الشباب حقاً؟ أم هي خيال ألقاه في نفسه قراءة قصة حديثة تسمى (القرية) ألفها قصصي يدعى جريجوروفتش وصور فيها حياة الفلاحين، صورة مؤلمة تبعث في النفوس شعور الرثاء لحالهم؟ أم أن مرد ذلك إلى عاطفة عرف بها منذ طفولته وهي أنه يحب أن يرى الناس جميعاً حوله سعداء؟ الحق أن الفتى ما كان ليستطيع أن يرى مظاهر البؤس من حوله ثم لا يتحرك لها قلبه الإنساني الرحيم، وكيف كان يطيق أن يسمع فيما سمع أن امرأة نحبها من الجهد، وأن المرض فتك بالناس فلا يستطيعون له دفعاً؛ وكيف كان يطيق أن يرى بعض الفلاحين يخرون على قدميه سجداً يسألونه القوت؛ لقد كان ذلك يؤلمه أشد الألم أو كما يقول (إن ذلك كان يؤلمني كما تؤلمني ذكرى جريمة ارتكبت لو يكفر عنها).

على أنه يعجب أشد العجب من إعراض الفلاحين عن إصلاحاته؛ وبألم إذ يرى في وجوههم الشك والإنكار والعناد، وإذ يسمع أنهم يصفون ما بنى لهم من أكواخ جديدة بأنها سجون وأنهم يرمون بالمدارس التي افتتحها لأبنائهم والتي كان يعلمهم فيها بنفسه أحياناً، فعندهم إن هذه المدارس تحرمهم من معاونة أبنائهم إياهم في أعمال الزراعة؛ ويقلب تولستوي كفيه حائراً من أمرهم، وفي نفسه شعور الغضب ومرارة الخيبة. . .

ولا يلبث اليأس أن يصرفه عما شرع فيه، فينصرف عنه مكرهاً لأنه كان شديد التعلق به، يدلنا على ذلك ما جاء في قصة كتبها بعد سنوات قليلة، هي القصة المسماة (صباح أحد الملوك) فقد صور فيها أميراً يحلم بأن يعلم الفلاحين ويسعدهم ويوفر لهم أقواتهم، ويصلح رذائلهم التي تنجم من الجهل والتعلق بالخرافات ويجعلهم يحبون الهدى والحق؛ وفي هذه القصة يترك الأمير الجامعة ليعود إلى القرية ويكتب إلى عمته برغبته في إصلاح حال الفلاحين في ضياعه قائلاً بعد أن يصف مبلغ بؤسهم: (أليس واجبي الواضح المقدس أن أعني بحال هذه الأنفس السبعمائة التي سوف يسألني الله عنها حساباً؛ ثم أليس من الإجرام أن أجري وراء أنماط من اللهو والطمع بينما أدعهم لمشايخ أو رؤساءهم عليهم خشن غلاظ؟ ولم أبحث في نواحي أخرى عما عسى أن يظهرني بمظهر الرجل النافع الخير في حين أن أمامي هذا الواجب الوضئ النبيل الذي أعرفه عن وثوق وخبرة؟).

ولم يكن يدور بخلده أن يجد من الفلاحين هذا الجمود، فما أشد ما كره ما كان فيه من جد وما أسرع ما أقبل على لهوه وعبثه، وقد نما إليه أن أخاه سيرجى يعيش مع غجرية مغنية عيشة مطلقة من كل قيد في ضيعته؛ فحبب إليه عبث أخيه أن يعود هو كذلك إلى عبثه، فأقبل على المجون واللعب وأسرف في ذلك إسرافاً شديداً وبخاصة في مخالطة النساء مخالطة لا تأثم منها ولا تورع فيها حتى لقد أحدثت أثرها في بدنه القوي أو كادت، وحتى لقد عاد الفتى إلى سالف ندمه فانه يكتب في يومياته في منتصف شهر يونيو سنة 1847 يقول (ما أصعب على من يقع تحت تأثير الشر أو يزيد ما تنطوي عليه نفسه من خير. . . هل أبلغ بعد الأمد الذي أجدني فيه مستقلاً عن المؤثرات الخارجية؟ إن ذلك معناه في رأيي الوصول إلى كمال عظيم، حيث إنه في حال الرجل الذي يتخلص من العوامل الخارجية تسيطر الروح على الجانب المادي منه بالضرورة فيبلغ ما يريد؛ وسأضع اليوم لنفسي قاعدة جديدة وهي أن الاجتماع بالنساء إن هو إلا شر من شرور المجتمع لابد منه، وعلى المرء أن يتجنبه ما استطاع؛ وممن نتعلم في الواقع الشهوة والخنوثة والتفاهية في كل شيء إن لم نتعلمه من النساء؟ وعلى من تقع تبعة فقداننا تلك المشاعر الغريزية فينا كالشجاعة والمناعة والبأس والتصبر والعدالة إن لم تقع على المرأة؟ إن المرأة أشد استجابة من الرجل للمؤثرات، وكانت في عصور الفضيلة خيراً منا، ولكنها الآن في عصر الفساد والرذيلة قد باتت أسوأ منا وأرذل).

وتلمح إليه العمة تاتيانا ذات يوم بقولها (إنه لا شيء يكون الشاب خيراً مما يكون ارتباطه بفتاة ذات خلق)؛ ولكن توثب حيويته وعرامة فتوته وحبه الاستقلال، كل أولئك يميل به عن أن يركن إلى ما تقول. . .

وسيكبر هذا الفتى وقد ذاق حلو الحياة ومرها فيكون له من ذلك مادة لفنه وسيفيد من لهوه هذا كما يفيد من جده، فما ينسى شيئاً مما تطالعها به الحياة، وسوف نرى نظرته هذه إلى المرأة سنة 1847 وهو في التاسعة عشرة، تتجدد في قصة يكتبها سنة 1889 وهو في الحادية والستين، وهي قصة كروتنزرسناتا.

لم يعد للفتى أمل في إصلاح فلاحيه وأحسن أنه يقضي أيامه في باسنايا عبثاً فصمم على الرحيل منها، وفي شهر أكتوبر سنة 1848 سافر إلى موسكو حيث قضى ثلاثة أشهر أو أربعة طلق العنان لا يلويه عن العبث واللهو شيء، وله من فراغه وشبابه وماله ما يزيد جموحه ويمد في حبال غوايته؛ ثم سافر الفتى إلى بطرسبرج فدخل جامعتها ليدرس القانون ثانية وليحصل على درجة علمية تهيئه للالتحاق بوظيفة من الوظائف المدنية.

وأقبل الفتى على الدراسة في جد وعزم كأن لم يعرف اللعب يوماً؛ وكتب إلى أخيه في فبراير سنة 1849 يخبره بما هو فيه من جد، وينبئه بأنه سيبقى في وبطرسبرج إلى الأبد؛ ويصف له في كتابه مبلغ ما للحياة في هذه المدينة من أثر نفسه، فكل شيء يبعث على الجد والدأب، وكل امرئ يسعى سعيه حتى لن يجد المرء من يصحبه إلى حياة عابثة، ولن يستطيع المرء أن يحيا هذه الحياة وحده إلى أن يقول لأخيه (أعلم أنك لن تصدق أني غيرت ما بنفسي وأنك ستقول إنها المرة العشرون ولكن في غير جدوى؛ كلا. . . لقد تغيرت الآن. . . وفوق ذلك فإنني اليوم بداخلي إحساس بأن المرء لا يستطيع أن يعيش بالنظريات والتفلسف، ولكنه ينبغي أن يحيا حياة واقعية، أعني أنه يجب أن يسلك سلوكاً عملياً. . . وهذه خطوة واسعة نحو التقدم).

وفي شهر أبريل يجتاز ليو امتحاناً في القانون المدني والقانون الجنائي بتفوق ملحوظ؛ على أن ذلك لم يكن في الواقع ثمرة جهد متصل وإنما كان ثمرة أسبوعين استوعب فيهما ما استطاع أن يستوعبه من هاتين المادتين.

وفي شهر مايو يكتب لأخيه فإذا به يقول في كتابه (أي سير يوشا. . . أتوقع أنك سوف تقول لي أكثر من عرفت ضعف عزيمة، ولكي أكون أميناً، ينبغي أن أقول إن الله يعلم ماذا كنت أفعل هنا!. . . لقد جئت بطرسبرج بغير سبب معين، ولم أعمل هنا عملاً ذا عائدة، وقصاراى أني أنفقت مالاً كثيراً حتى لقد تورطت في الدين؛ يا للغباء! وأي غباء؟ لن تستطيع أن تصدق كيف يؤلمني ذلك، وبخاصة تلك الديون التي يجب أن أؤديها بأسرع ما في وسعي، وذلك لأنني إن لم أفعل فلست أفقد المال فحسب، بل أفقد معه شرف سمعتي. أعلم أنك ستضج بالشكوى، ولكني ماذا عسى أن أصنع؟ إن الإنسان يقترف مثل هذه الحماقة مرة في مدى عمره. . . وإني لأركن إلى عطفك إذ أرجو منك أن تتدبر في إخراجي من هذا الوضع الكريه حيث أجدني مفلساً يحيط بي الدين من كل جانب).

ويعتزم الفتى أن يلتحق بالجيش في فرقة الفرسان متطوعاً في الحرب، وأن يترك جامعة بطرسبرج دون أن يتم دراسته فيها كما ترك جامعة قازان من قبل وكانت الحرب التي يريد أن يتطوع فيها هي تلك الحرب الظالمة التي قذفت بها النمسا الأحرار المجاهدين في المجر، أولئك البواسل الذين رغبوا في الاستقلال عنها وردوا جيشها وقد عصفت العواصف بأنحاء الإمبراطورية حتى استعانت بالجيش الروسي فجاء لمعونتها خمسون ومائتي ألف من هذا الجيش، وكانت روسيا تريد أن تطفئ نار الثورة في المجر حتى لا تمتد إلى بولندة وكانت تحت حكمها فتخلع عنها نير الاحتلال؛ ومن عجب أن يتجه تولستوي إلى التطوع في حرب ظالمة كهذه الحرب وهو الذي سوف يكون في غده من أكبر الساخطين على العدوان وعلى الحرب أيا كانت بواعثها. . .

وكان لزاماً على من يتطوع أن يقضي سنتين في صحبة الجيش العامل قبل أن يسمح له بحمل السلاح والقتال، ولكن تولستوي كان يطمع أن يتخذ مكانه في الصفوف قبل انتهاء هذه المدة بما عسى أن يبدي من مهارة وقوة، وإن خياله ليس له كل شيء فما إن يفكر في أمر حتى يحسبه حقيقة واقعة، وإنه ليحدث نفسه بأن عمله في الجيش سوف يكسبه خبرة بالحياة والناس، وسوف يخلق منه شخصاً جديداً، إذ إنه بهذا العمل ينجو مما يغريه به الفراغ والشباب من عبث ولهو. . .

ولكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يكتب لأخيه يقول له: (أثبت في كتابي الأخير إليك كثيراً من اللغو، وكان أبرزه ما أشرت إليه من رغبة في التحاقي بفرقة الفرسان، وسوف لا أفعل ذلك إلا إذا فشلت في امتحاناتي أو إذا كانت الحرب ذات خطر).

وجاء الربيع يبعث البهجة والحياة في كل حي، وطافت بخيال الفتى مجاليه في أسحاره وآصاله، هناك في ضيعته المحبوبة ياسنايا بوليانا، فسرعان ما أنطلق من جامعة بطرسبرج كما انطلق قبل من جامعة قازان، وسرعان ما أبعد عن فكره وخياله العمل في الجيش وفي الوظائف المدنية جميعاً، ثم أقبل على ياسنايا، وليس في نفسه هذه المرة من عزم إلا تعلم الموسيقى!

(يتبع)

الخفيف