مجلة الرسالة/العدد 716/القصص

مجلة الرسالة/العدد 716/القصص

ملاحظات: الملك والناسك أو الأسئلة الثلاثة هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1885. نشرت هذه الترجمة في العدد 716 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 24 مارس 1947



قصة من روائع الأدب الروسي:

الملك والناسك. . .!

للفيلسوف الروسي ليو تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

زعموا أن ملكاً من ملوك القرون الغابرة الأولى. قيل له أن الفشل والإخفاق لن يملكا إليه سبيلاً، إذا ما أدرك دواماً خير الأحيان للانطلاق في العمل الذي يروق لباله ويعن لخاطره وإذا ما ألم بأجدر الناس بالإنصات إليهم والإصغاء إلى حديثهم. . . ومن هم أولئك الذين ينبغي عليه أن يجانبهم ويرغب عن مجلسهم!. . . وإذا ما تناهي علمه إلى معرفة أحق الأشياء بالعمل وأخلقها بالتحقيق فأمر الملك رجاله بأن يذيعوا في آفاق مملكته، أن كل من يشير على الملك بخير الأوقات للعمل وأجدر الناس بالإنصات والصحبة وأفضل الأشياء وأحقها بالعناية والرعاية سوف يجازى جزاء حسناً ويحظى بهبة سنية من لدنه. . . وأقبل العلماء وأهل الخبرة والتجربة من كل فج على الملك يتنافسون ويتسابقون يجلون له ما غمض عليه ويجيبونه على ما سألهم إياه. بيد أنهم تباينوا في آرائهم وتعارضوا في أقوالهم واختلفوا في مشورتهم. فقال بعضهم - جواباً على السؤال الأول - أن ليس ثمت سبيل إلى معرفة خير الأحيان إلا بتسطير لوحة تسجل عليها الأيام والأشهر والسنون، ولا يسير المرء في شئون الحياة إلا وفق نظامها. وبهذا ينجلي للمرء أي الأوقات خير من الأخرى وقال بعضهم إن ذلك لا يتأتى إلا بالفطنة واليقظة لما مضى ولما يجد من الأمور. فيتعرف على خيرها وأبلغها أهمية فيبتدره في حينه. وقال فريق منهم إنه مهما توخي الملك الدقة والدقة والبراعة في معرفة أجل الأوقات، فلن يبلغ مبتغاه. فمن أشق الأمور وأعضلها على الرجل الواحد أن يقرر الخير فيما يتراءى له من الأوقات. . . وعليه أن يعقد مجلساً من أصحاب الحكمة في دولته فيلقى منهم عوناً صادقاً على تحديد الوقت اللائق الموفق.

واختلفت آراؤهم على السؤال الثاني. فأجابه البعض بأن أجدر الناس بالرفقة والإصغاء هم أهل الشورى والحكمة، وقال آخرون بأنهم رجال دين والأطباء. . . بينما رجع البعض أن الجند هم أفضل من يستفيد المرء من قربهم. . . أما عن السؤال الثالث فرأى جمع منهم أن أحق الأشياء بالرعاية هو العلم. . . ومال آخرون إلى إنه الحذق والبراعة في فنون الحرب والقتال. وارتأى بعضهم إنه الفناء في عبادة الله عز وجل وتأدية فروض الدين على أكمل وجه. . .

فلما استبان للملك أنهم لم يستقروا على رأي صائب راجح منع عنهم عطيته. . . وعقد في نفسه عازماً على أن يتوجه إلى ناسك ذاعت شهرته وطبقت حكمته كل أفق بعيد. . . يستلهمه النصيحة ويستوحيه المشورة. . . وكان ذلك الناسك يتعبد في جوف غابة لا يبرحها أبداً. . . ولا يلقى من الناس إلا الفقراء والمعوزين. فأحاط الملك نفسه بثوب بسيط، ليس عليه من ظواهر الملك شيئاً. . . وترجل عن جواده وخلف حرسه على مبعدة وانطلق وحده. . . فلما أدرك الناسك ألقاه يفلح الأرض أما صومعته. . . وحينما أبصره الناسك بادره بالتحية، وأثنى إلى فأسه يضرب بها أديم الأرض. . . فكانت الضربة التي يهوي بها فيقلب الترب تستنفد ما بقى في جسده من قوة، وتجعله يبهر من الإعياء وينهج من التعب. . . فقد كان شيخاً ضعيفاً وهنت عظامه ووهت قواه. . .!

فدنا الملك منه وأفصح له عما في نفسه قائلاً: (أيها الناسك الجليل. . . لقد أتيت إليك - عن نأي - أروم جوابك عن أسئلة ثلاثة: (أولهما: كيف يتاح لي أن أعلم خير الأوقات لأنجز خير الأعمال؟)، (وثانيهما: أي الناس أولى بالصحبة وأجدر بالاهتمام؟)، (وثالثهما: ما هي الأشياء التي تستوجب مني العناية وتستحق التفرغ لها؟). فأصغى الناسك إليه منصتاً، بيد أنه لم ينبس ببنت شفه جواباً. . . وبصق في راحتيه وعاد ينبش الأرض بفأسه وهو يفلحها من جديد. . . فارتفع صوت الملك - وقد لمح ما على الناسك من دلائل الضعف وظواهر الوهن: لقد بلغ التعب والإعياء منك مبلغاً. . . فناولني الفأس، أتولى عنك الإفلاح حيناً. . .!) فلما هوى الملك بالفأس إلى الأرض مرتين، رفع رأسه إلى الناسك، وسأله ثانية جواباً على ما بسطه له وصارحه به. . . فلم يتلفظ الناسك بشيء، بل مد ساعده إلى الملك يبتغي الفأس قائلاً: (استرح قليلاً، ودعني أوالي العمل برهة!) ولكن الملك رغب عن أن يعطيه الفأس، وعاد يحتفر الأرض.

تصرمت ساعات اليوم ومال ميزان النهار وتولى الضياء عن صفحة الكون. . . وراحت الشمس تتوخى سبيلها إلى المغيب في خمرة موردة وراء الأشجار السوامق. . . فألقى الملك الفأس من يده وهو يقول: (لقد أتيت إليك أيها الناسك الجليل أبتغي جواباً لأسئلتي الثلاثة! فإن كنت لا تود أن تجيبني عليها فخبرني. . . لأنقل إلى داري!) فقال الناسك وهو يمد طرفة إلى الأفق (ثمة من يعدو! فدعنا نرى من يكون!) فتلفت الملك وراءه. . . فالتقى طرفه برجل ذي لحية كثة يركض نحوهما!. . . وقد أمسك يديه على بطنه، والدم يتفجر خلال أنامله. فلما بلغ مكان الملك هوى أمامه على الأرض وهو يئن ويتأوه في وحدة وألم. . . وقد تولاه الإغماء. . . فراح الملك والناسك ينضوان عنه ثيابه. . . فألقيا في بطنه جرحاً غائراً في الأمعاء. . . أخذ الملك يغسله بالماء. . . ويضمده بمنديله ثم برباط أتاه به الناسك من صومعته. . . بيد أن الدم لم ينقطع سيله، فعاد الملك يغير الرباط الملطخ بالدم بآخر أقتطعه من ثيابه. . . فلما توقف فيضه عن الجريان والترف عاد إلى الرجل الجريح رشده وصوابه وأفاق من غشيته. . . وطلب بعضاً من الماء فوافاه الملك بما سأله إياه. . . وكانت الشمس حينئذ قد هوت كالجمرة خلف الأفق وغابت عن صفحة السماء. . . وشاع البرد في كل مكان. . . فاستعان الملك بالناسك على رفع الرجل وحمله إلى داخل الكوخ حيث استقر في الفراش وأغمض جفونه وراح يغط في وسن هادئ وسبات عميق! وارتمى الملك في ركن من الكوخ وقد أعياه العمل وأضناه العناء والكدح فأغرق هو الآخر في النوم.

حينما استيقظ الملك في صبيحة اليوم التالي، كاد إلا يذكر أين مكانه، ولا يعرف ذلك الرجل الملتحي الذي يقبع في فراشه يحدق فيه ويرنو إليه بعينين نفاذتين. . . قال الرجل - وقد أحس أن الملك بدأ يستعيد وعيه ويفيق من نومه وراح ينظر إليه - (أضرع إليك أن تشملني بعفوك!) فأجابه الملك في رنة عجب: (إني لا أعرف من أنت. . . فعلام ترجو عفوي؟!) - (أنت لا تعرفني بيد أني أعلم من أنت!. فأنا ذلك العدو الذي أقسم غير حانث على أن ينزل بك نقمته وعدوانه جزاء ما أعدمت أخاه وانتهبت داره وشردت أهله. . . فقد تناهى إلى علمي أنك قاصد إلى الناسك. . . فبيت النية وعقدت العزم على أن أنهز هذه البادرة وأقتلك وأنت في سبيل العودة. . .! ولكن اليوم تقضي ولم أستبن لك أثراً. . .! فبرزت من مكمني لأنقب عنك. . .! فلمحني رجالك وتعرفوا علي، وأصابوني بجرح بالغ في بطني. . . لدق أفلت منهم فتلقتني براثن الموت، وكدت أن أسلم الروح لولا أو توليتني بعنايتك فآسيت جراحي وآويتني في هذا الكوخ. . . لقد كنت متعمداً قتلك فأنقذت حياتي. . . جزيت خير الجزاء. . . والآن لو امتد بي الأجل فوف أقوم على خدمتك - إن رضيت - عامر القلب بالإخلاص لك كعبد من عبيدك الأوفياء. . . وكذلك أبنائي وأهل بيتي فقد قيدت عنق ربهم بمعروف لن ينساه فأسألك أن تعفو عني وتغفر لي!) فاستخف الملك الفرح والبشر وطربت نفسه وطاب قلبه بما رأى من السلم والوفاق الذي عقده مع عدوه في بساطة وهدوء فكسبه صديقاً وفياً. فلم يعف عنه فحسب بل أخبره بأنه سوف يبعث إليه بخيرة أطبائه وخدمه ليقوموا على العناية به ووعده بأن يرد عليه ماله المسلوب ويعيد إليه ملكه المغصوب.

غادر الملك صاحبه الجريح وأخذ يتلفت في ساحة الكوخ باحثاً بعينه عن الناسك ليرجوه من جديد أن يجيبه على أسئلته. فألفاه جاثياً على ركبته يغرس الحب في النقر التي احتفرها البارحة فدنا منه ودعاه قائلاً: (إني أرجوك لآخر مرة أن تجيبني على ما سألتك إياه. . . أيها الحكيم الجليل). . . فأجابه الناسك وهو ما يزال جاثياً على ساقيه الرقيقتين (لقد أجبت على ما تود!!) فتساءل الملك في دهش وعجب (كيف أجبت!؟ وما الذي تعنيه) فرفع إليه الناسك رأسه وعللا ثغره ابتسامة، وقال في صوت شاع في الهدوء والرزانة: (ألم تر أنك لو لم تترفق بي وترحم ضعفي بالأمس ولم تهيئ لي هذه الحفيرات بل انطلقت في سبيلك لهاجمك ذلك الرجل وبلغ منك مقتلاً. . . وحينئذ كنت تقعد نادماً تأكل قلبك الحسرة وتتمنى لو أنك مكثت لا تبرحني. إن خير وقت كان في ذلك الحين الذي كنت تحتفر فيه الأرض. . . وكنت أنا أولى الناس باهتمامك ورعايتك. . . وكان أفضل عمل أديته هو الإحسان إلى. .! وبعد حين أتانا ذلك الرجل يسعى راكضاً. . . فكان أدق وقت هو ذلك الذي توليته فيه بعنايتك وحدبك. . . إذ لو إنك رغبت عن معونته لقضى دون أن تحظى منه بسلام وحمد ولذا كان هو أجدر الناس وأحقهم بالاهتمام والعطف وكان ما أديته له من معروف من أروع أعمالك وأجمل فعالك. فأعلم إذن لأن ليس ثم إلا وقت واحد يستحق منك الاهتمام ذلك هو (الآن) الذي تكون فيه. . . فهو الآونة الوحيدة التي تتملك فيها قوتك وقدرتك، وأحق الناس بأن تعنى به هو من يكون معك فأنت لا تدري إذا كنت تعامل غيره بعد ذلك أو يكون هو آخر من تعامل! وأجل الأشياء وأعظمها شأناً هو أن تبادر بالخير والمعروف إلى غيرك فلهذه الغاية السامية فطر الإنسان في هذا الكون.

(القاهرة)

مصطفى جميل مرسي