مجلة الرسالة/العدد 716/مقالة بلا موضوع!

مجلة الرسالة/العدد 716/مقالة بلا موضوع!

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1947



للأستاذ علي الطنطاوي

قال لي من أيام صديق لي: أسمع؟

قالت: وهل تحسبني أصم؟

قال: إن كتابتك لا تعجبني.

قلت: آسف جداً!

قال: لا تسخر. سلني، لماذا؟

قلت: سألتك.

قال: لأنك لا تعرف الدنيا. . . لذلك تجيء كتابتك بعيدة عن الحقيقة، خالية من الصور، ليس فيها حياة، ولا ابتكار.

قلت: إن ناساً قد زعموا إلى غير ما قلت.

قال: هو ما أقول لك، فلا تصدقهم، إنهم يضحكون عليك إني ألحظ من كتابتك أنك تعيش منطوياً على نفسك، بعيداً عن الدنيا، فقل لي، بالله عليك، كيف كنت تعيش في دمشق؟

قلت: كما يعيش الناس؛ أغدو على محكمتي صباحاً وأخرج منها ظهراً، فأمر على المكتبة العربية وهي من أحب الأمكنة إليّ، وأصحابها إخوان كرام عليّ، فألبث فيها ساعة، وقد أتغدى فيها، ثم أمضي إلى الدار فلا أفارقها إلى غداة الغد، إلا مرات معدودة في السنة كلها أزور فيها صديقاً أو قريباً، أو أخطب في حفلة، وقد كنت قبل أن ألي القضاء أجلس أحياناً في قهوة، أو أمضي إلى سينما، فتركت ذلك كله.

قال: وفي مصر؟ كيف تعيش ومن زرت وماذا رأيت؟

قلت: أعيش أعيش أنا وأسرتي في منزل خالي، وأمضي إلى (الرسالة) كل يوم، وإلى الوزارة أو المحكمة أو المجلس الحسبي في أكتر الأيام. وأنا في مصر كما كنت في الشام، معتزل متفرّد أفرّ من لقاء الناس، وأنأى عن المجامع، ولم أزر أحداً في داره إلا نفراً من علماء الأزهر، وزرت لجنة التأليف والترجمة مرة، وجلست مرة واحدة في القهوة، وخمساً في السينما، رأيت في إحداها (فلماً) عربياً فخرجت منه غضبان أسِفاً، ورأيت في سائرها أفلاماً فرنجية، ومشيت إلى الحدائق والمتاحف ولولا الصغار ما مشيت إليها؛ فقد وجدت الحدائق، مجمع غيد ودار مواعيد، ورأيت الناس في حديقة الحيوانات، ينظرون إلى امرأة مضطجعة على المقعد أكثر ما ينظرون إلى سبع البحر، ويضحكون لفتيات يلعبن على الحشيش أكثر مما يضحكون للقردة تتراقص في الأقفاص. . .

قال: وهذا كل شئ؟

قلت: نعم. لا شئ فوقه ولا تحته.

قال: ألم أقل لك، إنك لا تعرف الدنيا؟

قلت: فكيف تريد أن أعرفها؟

قال: كما يعرفها كل أدباء العالم، وذلك. . . ولكن قل لي أولاً، هل تحب؟

قلت: أحب؟ نعم. وهل في الدنيا من لا يحب؟

قال: تحب من؟

قلت: أحب أولادي، وأهلي، وإخوتي، وعمتي. . .

فصاح: لا لا، ما هذا أعني. هل أنت عاشق؟ إذن يجب أن تعشق، إنه لا شئ كالعشق يصب الحياة في الأدب.

قلت: هل تريد أن أختار فتاة من الطريق فأعشقها؟

قال: من الطريق، من الشباك، من السينما، المهم أن تعشق.

قلت: ويكفي هذا لتعجبك كتابتي، وترى فيها حياة؟

قال: نعم.

قلت: سهلة، سأعملها غداً؛ أحلق، وألبس أحسن ثيابي، وإن لم يكن عندي، والكلام بيننا، إلا ثوب واحد، ألبسه كل يوم، وأقف في. . . أين يقفون عادة؟ في شارع عماد الدين مثلاً، ثم أختار أجمل امرأة تمر بي، فأقول لها: العفو يا ست، أو يا مدموازيل، كما تقولون في مصر، كلمة من فضلك. فتقول: ماذا؟ فأقول: أنا كاتب يكتب مقالات مريضة، وقد وصف لي أطباء الأدب، أن أحب لتصح مقالاتي، فهل تأذنين لي أن أحبك؟

قال: أنا لا أحب الهزل.

قلت: تحب الجد؟ إذن قل لي، ماذا بعد الحب؟ أي بعد الموعد واللقاء؟ ماذا تكون النتيجة على رجل متزوج له أولاد، وعلى امرأة لا يمكن أن تكون عجوزاً ولا كهلة ما تكون إلا فتاة غريرة، أو عذراء بكراً، لم يطوّح بها الاحتياج والفقر، ولكن هذه المدنية الملعونة، وهذا السفور والاختلاط؟ أيساوي ما أفقده من شرفي وديني، وما تضيعه من عفافها ومستقبلها، المقالات التي أكتبها يومئذ حية مشتعلة؟ وهل تكون تلك المقالات إلا جريمة ثانية لأنها تدعو إلى مثل هذا الحب؟

قال: إنك تتكلم بلسان العصر الماضي، إنا لن نرجع إلى الوراء، فلا تحاول المستحيل، هذه هي دنيا اليوم، ولابد أن أريكها؛ فقم معي.

قلت: إلى أين؟

قال: لا تسأل: امش حيث أقودك.

قلت: بشرط أن لا تدخلني خمارة ولا ماخوراً ولا مرقصاً، ولا مجمعاً فيه نساء سوافر.

قال: فكيف إذن ترى الدنيا؟

قلت: وليست الدنيا إلا هناك؟ هذه دنيا الرجس. . .

قال: ينبغي أن يرى الأديب كل شئ.

قلت: إننا تعلمنا من مشايخنا الرجعيين، أسلوب الدعوة إلى الله، وكيف تكون بالحكمة والتدريج لا تكون طفرة، فلماذا لا تمشون يا أيها المجددون على هذه الحكمة في الدعوة إلى. . . إلى. . . رؤية الدنيا؟!

قال: طيب، آخذك اليوم إلى أمكنة لا تنكرها ولا تأباها

فضحكت وقلت: ثم تمشي بي خطوة بعد خطوة، حتى تبلغ بي حيث تريد. هذه هي الحكمة.

قال: هيا بنا، على أن لا تنفق شيئاً، أنت في ضيافتي.

وأركبني سيارة، سلكت بنا شوارع على النيل، رأينا فيها أزواجاً من الناس، أزواجاً في العدد لا بعقد المأذون الشرعي فقال لي: ترى هؤلاء؟

قلت: نعم.

قال: مثل هذا يفتح قريحة الأديب حتى تتدفق بالشعر الحي الذي يهز القلوب من قراراتها، فهل أمتع من هذا؟ جمال الطبيعة وجمال الحب. . .

قلت: والحكومة ترى هذا ولا تمنعه! والعلماء يبصرونه ولا ينكرونه! والآباء. . .

قال: علماء إيه؟ وبتاع إيه؟ إنت فين يا أخي؟

ومشينا، ومر بي على قصور شامخات، فسماها ووصف لي ما يجري فيها، من دفق الذهب على موائد الميسر، وخنق الأعراض في سرر الشهوات، وحرق الأكباد بكؤوس الشراب، ثم قال لي فجأة: هل تعرف الرقص؟

قلت: لا، ولم أحضر في عمري حفلة رقص، ولم أر راقصة إلا في السينما يوم كنت أدخلها

فصفَق كفاً بكف، وأبدى الرثاء لي والشفقة عليّ، وقال بلهجة المؤدب الناصح، للمريد الطائع:

يجب أن تتعلم الرقص، إن له في مصر مدارس خاصة، وإنك تلقى فيها من يلزمك الحب إلزاماً. . .

قلت: وهل الرقص إلا الفاحشة المستترة، كالسم يوضع في علب الحلوى؟

فقال متحمساً: لا. أبداً. من قال هذا؟

قلت: أنا.

قال: هذه أفكار المتأخرين الجامدين.

قلت: وما هي أفكار المتقدمين المائعين؟

قال: ثق أننا لا نفكر أبداً عند الرقص إلا في الرياضة والموسيقى. . .

قلت: ألست تعانق فتاة غريبة عنك، يكاد يمس وجهك وجهها، وصدرك صدرها، و. . . أعني ألست تحتضنها؟

قال: وماذا في ذلك؟ لماذا تنظرون إلا إلى الناحية البهيمية؟ هذا فن!

قلت: وكشف أفخاذ بنات المدارس للرياضة فن، وتجردهن للسباحة فن، وجلب الفتاة العارية ليصورها طلاب مدرسة الفنون الجميلة فن، إن كلمة الفن اليوم مرادفة لكلمة الفجور عند أجدادنا الأولين.

وانتهى الطريق فنزلنا من السيارة، وقلت:

أشكرك. السلام عليكم.

قال: إلى أين؟ إننا سنتعشى ثم نبدأ سهرتنا.

قلت: نبدأ؟ صارت الساعة التاسعة! قال: وماله؟

قلت: نتعشى في البيت ونعود.

قال: دعك من البيت، إنا اتفقنا على أن أريك الدنيا.

قلت: وهل البيت في الآخرة؟

فأصرّ فعلمت أن العشاء في السوق من شرائط رؤية الدنيا إجادة الكتابة، فقبلت ومشينا.

قلت: إني أعرف (مطعماً) جيد الطبخ.

قال: أي مطعم؟

قلت: الحاتي.

قال: الحاتي؟! تعال أرك الدنيا. امش. امش. . .

قلت: وأين الدنيا؟

قال:. . . . . . . . .

وسمى أسماء نسيتها.

وأدخلني واحداً من هذه المطاعم، فرأيت مكاناً مزدحماً، وسقفاً واطياً، وهواء ثقيلاً، ودخاناً مطبقاً، وضجة مرهقة، وموائد ملتصقة، ثم جاءنا النادل فكلمته بالعربية، فلوى شدقه استكباراً ولم يفهم ولم يجب، فكلمه صاحبي بلغة لا أعرفها، فجاءنا بطعام أدعو الله أن لا يطعمه مؤمناً، إلا إذا عذبه به في الدنيا تكفيراً لذنبه، وتخليصاً له من عذاب الآخرة، طعاماً خبيثاً، وشيئاً كالضفادع والسراطين وعقارب البحر ودود البر، وحشرات الجو، وشيئاً لزجاً كأنه مرهم الزنك مخلوطاً بالاكتيول فرفعت يدي عنه ولم أميه، وأكل صاحبي بشماله، لأن من العيب كما فهمت أن يأكل باليمين. . . واستعمل ملاعق وأشواكاً وسكاكين كباراً وصغاراً تسلح عصابة كاملة. . . ثم جاء النادل بزجاجة فتحها له، قرأت عليها اسم خمرة من الخمور، فالتفت فإذا الذي نحن فيه خمارة، فغضبت وقمت، وقلت:

أما إذا بلغ الأمر مبلغه، فاعلم أني أمزح معك، وأتسلى بصحبتك، وما أحب أن تمتد المزحة أكثر من هذا، ولله عليّ أن لا أصحبك بعد اليوم

ورأيته قبل أن أنصرف، قد دفع ثمن عشائه وزجاجته تسعين قرشاً، أطعم بمثلها أسرتي كلها يوماً كاملاً.

وعدت إلى الدار، فتلقاني أهله بالمودة والبشر، وأسرع الأولاد وتعلقوا بي، فأحسست إذ أبصرت دعة المنزل، ونعمة الأهل، وسعادة الفضيلة، ولذة الاستقرار، بمثل ما تشعر به السمكة تلقى في الماء، بعد أن أشرفت على الاختناق.

هذا وما مشينا إلا خطوة واحدة من الطريق، وما رأيت إلا المطعم، فكيف لو أكملت الطريق ورأيت الدنيا؟!

لا. لا أريد هذه (الدنيا)، خلّيتها لكم، فاسرحوا فيها وحدكم وامرحوا، لا أريدها، حسبي دنياي، فهي خير لي وأجدى عليّ، ولو لم يكن فيها إلا راحة الأعصاب، وهدوء البال، وصحة الجسم، لكان ذلك مرغباً لي فيها، صارفاً لي عما سواها، فكيف ومع ذلك كله تقدير الناس، ورضا الله؟

أما الأدب فإن كان لا يعجب الناس منه إلا ما يجئ بسهر الليالي، وذرع الطرقات، وسُكنى المراقص، وإغراء الغيد بالفواحش، وسلوك طريق جهنم، فإن أهون شئ عليّ أن أهجره وأن أطلق الكتابة ثلاثاً، ثم لا أعود إليها، ولا أقبل عليها، وأن أنام بعد مستريحاً خليّ القلب فارغ الذهن، إذ لم أخسر بتركها شيئاً ولا خسر القراء!

علي الطنطاوي