مجلة الرسالة/العدد 717/حول (أغنية السودان)

مجلة الرسالة/العدد 717/حول (أغنية السودان)

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1947



للأستاذ علي متولي صلاح

نحمد لمحطة الإذاعة اختيارها - الفنية بعد الفنية - إحدى روائع شوقي الخالدات لتغني على الناس في مناسبة عابرة أو ظرف قائم أو لمقتضى حال يجب أن يقال فيه ما يطابقه.

وقد أحسنت الصنيع يوم اختارت قصيدته (نكبة دمشق) التي مطلعها (سلام من صبا بردى أرق)، وأحسنت الصنيع يوم اختارت قصيدته (ذكرى المولد) التي مطلعها (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) ولو إنها أضافت إليها - توهما منها أن ذلك يجعلها أدنى إلى المناسبة القائمة وأكثر مطابقة لمقتضى الحال - ما كان منها كالرقعة الرخيصة في الوشى الثمين، ولو لم تفعل لتمت المطابقة دون الحاجة إلى هذا التكلف!

وأحسنت المحطة الصنيع أيضاً حين اختارت - في الأسبوع المنصرم - قصيدته (شهيد الحق) التي مطلعها (إلام الخلف بينكما إلاما) التي قيلت بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة المرحوم الزعيم مصطفى كامل، وأطلقت عليها اسم (أغنية السودان)!. .

ونحن نشكر للمحطة جاهدين أن تختار الشعر العالي، ونود لو إنها تتحلل يوماً بعد يوم من هذا الهذر والسخف الذي تنطق به حناجر بعض المغنين فيها، وإن تترك هذه الأغنيات الرخيصة المائعة التي تتسرب إلى نفوس الناس سماً وفساداً وانحلالاً. . . غير إننا ونحن بصدد الحديث عن اختيارها لقصيدة (شهيد الحق) نريد أن نبصرها بأمور كانت عسية أن تتجنبها، وليكون ذلك دستوراً لها إن أرادت حقاً أن يغني بها شعر رفيع عال كهذا الذي تختاره من شعر شوقي، وإن ذلك لجدير - في المستقبل - أن يعفيها من كل لوم، وأن يجنبها كل زلل، ويوقيها كل عثار.

1 - فنحن لا نفهم أولاً كيف تعدو المحطة على التاريخ الأدبي والتاريخ السياسي فتنحرف بالقصيدة عن الغرض الذي قيلت فيه وتخرجها عما إليه قصد منشئها، ثم تعدو بذلك على ذكرى غالية لزعيم وطني من طراز قل أن يوجد بين الزعماء؟؟ ثم تسميها عنوة واقتداراً (أغنية السودان) وما بها صلة بالسودان إلا إنه ذكر فيها مرة!! ولقد كان للمحطة معدى عن ذلك لو إنها تمهلت قليلاً في الاختيار، أو وكلته إلى أهل الذكر في الأدب الذين يعرفون قول الذي قال: قد عرفناك فاختيارك إذ كا ... ن دليلاً على اللبيب اختياره!

كان لها معدى عن ذلك باختيار شعر آخر أو قصيدة أخرى لشوقي، وله في الوطنية شعر كثير، أو لحافظ وله قصائد متفرقة تفيض وطنية وحثاً على الاتحاد والائتلاف وتنديداً بالفرقة والاختلاف، ولكن محطة الإذاعة راقها مطلع القصيدة (إلام الخلف بينكمو إلاما) وملك عليها أمرها فلم تجد عنه منصرفاً! على إننا لا نفهم كيف أسمتها قصيدة (السودان) وأغل أبياتها التي غناها عبد الوهاب موجهة إلى (شهيد الحق) مصطفى كامل وكيف يوفق سامعوها بين عنوانها هذا وبين تلك الأبيات؟؟

2 - على إن المحطة وهي تريد الدعوة إلى الائتلاف والاتحاد أغفلت الأبيات التي تؤدي إلى ذلك وتدعو له في القصيدة لأسباب يعلمها الله وحده! وإلا فهل دل على هذا الذي تهدف المحطة إليه من قول شوقي: -

لقد صارت لكم حكماً وغنما ... وكان شعارها الموت الزؤاما

وثقتم واتهمتم في الليالي ... فلا ثقة أدمن ولا اتهاما

ومن قوله: -

وكانت مصر أول من أصبتم ... فلم تخص الجراح ولا الكُلاما

إذا كان الرماة رماة سوء ... أحلوا غير مرماها السهاما

أبعد العروة الوثقى وصف ... كأنياب الغضنفر لن يراما

تباغيم كأنكمو خلايا ... من السرطان لا تجد الضماما؟

ومن قوله وقد يكون فيه دعوة واضحة صريحة إلى أن يكون الحكم في أيدي الأحزاب جميعاً متحدين مؤتلفين: -

ولينا الأمر حزباً بعد حزب ... فلم نك مصلحين ولا كراما

جعلنا الحكم تولية وعزلا ... ولم نعد الجزاء والانتقاما

وسنا الأمر حين خلا إلينا ... بأهواء النفوس فما استقاما!

ولكن الأمر ما أغفلت المحطة كل ذلك. . .

3 - كان التلحين الذي غناها به محمد عبد الوهاب بعيداً غاية البعد عن المعنى المنشود، لقد كان هذا اللحن أبعد شيء عن معاني الوطنية والاستنهاض والدعوة السريعة العاجلة إلى الاتحاد والتهكم اللاذع - بالموسيقى اللاذعة - بهذا الاختلاف وتلك الفرقة، والمناداة العالية برأب الصدع، واللهفة الحارة إلى جمع الشمل. . . ما أحست والله وأنا أسمعها إلا بأنين وحشرجة وخفوت ونوم واحتضار!!

فرفقاً بالأدب العالي والموسيقى العالية يا محطة الإذاعة.

علي متولي صلاح