مجلة الرسالة/العدد 717/معروف الرصافي

مجلة الرسالة/العدد 717/معروف الرصافي

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

في هذا الكتاب دراسة أدبية للشاعر العراقي الكبير وبيئته السياسية والاجتماعية كتبها الأستاذ بدوي أحمد طبانة مدرس اللغة العربية وآدابها في دار المعلمين العالية ببغداد.

ونحن نرحب بهذا الكتاب وبأمثاله لأكثر من سبب واحد:

لأن تأليف الكتب عن الشعراء المحدثين بعد وفاتهم سنة حسنة لم نأخذ بها كثيراً في حياتنا الأدبية العصرية.

فقد يشتهر الشاعر ويسير شعره في الآفاق ويلتف به المعجبون والرواة المتشيعون. ثم تنقضي حياته فتنقضي العناية به وبشعره وتطويه كل سنة تمضي بعده في حجاب بعد حجاب، وقصارى ما يبلغه من بقاء الذكر أن يعاد طبع ديوانه إن كانت له ذرية يعنيها طبعه والإبقاء على شهرة صاحبه، أو كان طبع الديوان لا يكلف طابعيه مغرماً ولا مشقة. فأما الدراسة والتحليل وتخليد السيرة في الكتب التي تصلح للمطالعة والتداول فذلك عمل نادر في حياتنا الأدبية العصرية أو معدوم. لأن الذين ظفروا بعد موتهم بالكتابة عنهم لم يكن فضلهم كله مقصوراً على الشعر والعبقرية الشعرية، وكانت شفاعتهم إلى الذكر مناصب الدولة أو غير ذلك من الشفاعات.

ونرحب بكتاب (معروف الرصافي) مرة أخرى لأنه علامة من علامات التقارب بين الأقطار العربية في هذه الآونة التي وجب فيها التقارب بين هذه الأقطار وتهيأت له العوامل والأسباب. وكثيراً ما سمعنا العتب من أدباء العرب في سورية ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز لأن صحف مصر لا تفسح صدورها للتنويه بآثارهم والتعقيب على أعمالهم، فكنا نقول لهم إن شأن أدباء العرب في ذلك كشأن الأدباء المصريين أنفسهم بغير خلاف. لأن الصحافة المصرية لا تكتب عن مؤلفات الأدباء المصريين ولا تتبع أعمالهم بالنقد أو الثناء، ومن المصادفات التي تذكر في هذا الصدد إن كثيراً من الصحف المصرية يتولاها أناس من أصول لبنانية أو سورية، فليس في الأمر تمييز بين أمم العرب بل هو تقصير شامل لكل أمة منها بلا استثناء.

أما إذا رجعنا إلى الشعب المصري - بمعزل عن الصحافة - فقد يكون إقباله على المؤلفات العربية متى وصلت إليه أكثر من إقباله على المؤلفات المصرية، لأنه في هذه الحالة يضيف حب الاستطلاع وحب المجاملة إلى حب التقدير والاستفادة.

فالآن يسرنا أن نرى أديباً مصرياً يتجرد لدراسة شاعر عراقي كبير ويسبق أدباء العراق إلى هذه الدراسة وهي من واجب الأدباء في الأقطار العربية جمعاء، وقد أشار الأستاذ الجليل السيد محمد رضا الشبيبي وزير المعارف السابق بالعراق إلى هذا المعنى في مقدمته للكتاب فقال: (ومما راقني جداً أن يضطلع بها مؤلف مصري فيحوز قصب السبق في هذا المضمار على أدباء العراق) ثم قال: (وقد تصفحت الكتاب فإذا مؤلفه الأستاذ قد ألم بكثير من النواحي التي ينبغي الإلمام بها في هذا الشأن، فلم يفته البحث في بيئة الرصافي ومنشئه وسيرته وفنه وشاعريته إلى غير ذلك. وقد كون آراءه في النقد وذكر ما للشاعر وما عليه، والموازنة بين محاسنه ومساويه في الشعر والأدب تكويناً لطيفاً يدل على تجرد وإنصاف في كثير من فصول الكتاب).

وقد استعان الأديب المؤلف بجميع المؤهلات التي تندبه للكتابة عن شعر الرصافي وأدبه ومسيرة حياته. لأنه عاش حيث عاش واطلع على معاهد شعره وسيرته، وانطوى له على إعجاب يتيح له أن يفهمه وينصفه وأن يعطف على موضوع دراسته. وربما كان العطف على موضوع الدراسة أول شرط من شروط التأليف في ذلك الموضوع، فإن الناقد الذي يدرس شاعراً أو كاتباً أو رجلاً من رجال تاريخ كائناً ما كان لا يراد منه أن يتعقبه تعقب الغريم أو يدينه إدانة القاضي أو ينظر إليه نظرته إلى غريب لا يعينه أمره ويستوي عنده إنصافه وظلمه. وإنما يراد منه أن يشعر بشعوره وأن يخلص إلى بواطن نفسه، ولا سبيل له إلى ذلك بغير عطف وصداقة نفسية تعينه على الفهم الصحيح.

ولكن هذا العطف لم يمنع الأديب المؤلف من نقد الشاعر حيث يجب نقده في أدبه أو خلقه كما قال الأستاذ الجليل مقدم الكتاب. فمن أمثلة ذلك إنه أنكر عليه التبذل في الغزل فقال: (وله إلى جانب هذا الهوى المتوزع والقلب المتفرق غزل مبتذل ووصف مكشوف لا يتورع فيه الرصافي عن ذكر الخفيات وإنداء العورات في غير تحفظ ولا احتشام، مما يأباه العقل الحكيم ويمجه الذوق السليم، وما كان يليق منه ولا يقبل هذا وهو الذي جعل شعره صورة لمجتمعه وقائداً لأمته، ولا سيما بعد ما عرف إقبال الناس على آثاره وحفظهم لأقواله).

وللنافذ حق في هذا النقد المتفقد عليه. ولا عذر للرصافي فيما يعاب من تبذله إلا إنه وارث من وراث مدرسة العباسيين في بغداد. وقد أطلعت تلك المدرسة أبا نواس والبحتري كما أطلعت الشريف وأبن المعتز. ولا تحسب أن أدباء العصر في العراق يعدون هاتين المدرستين في أسلوب النظم ووجهته. فمن جنح إلى مدرسة الشريف وأبن المعتز فهناك اللفظ الجزل والنمط الرفيع والغزل العفيف، ومن جنح إلى مدرسة أبي نواس فقد يجمح جماحه أو يتبعه في التمرد وخلع الربقة والرقبة في بعض الأمور. فيقف عند الثورة على القديم ولا يتطوح معه في الخلاعة والمجون. . . ولابد للمدرسة من الجناح المتطرف كما يقولون في لغة الحرب والسياسة، فكان الرصافي ذلك الجناح وعليه جناحه ولا مراء!

على أن الأستاذ طبانة قد أفلح ولا شك في إبراز محاسن الشاعر وتشويق القراء إلى استقصاء شعره في مظانه؛ فإن الشواهد التي أتى بها في سياق الترجمة إما حسنات أدبية تروق القارئ لما فيها من الظرف والبلاغة والسجايا المأثورة كقول الرصافي يخاطب وطنه:

يا موطناً لست منه في موادعة ... عش بعد موتى عيش الوادع الهاني

فكل من فيك تعنيني سعادتهم ... وكل أبنائك الأعداء إخواني

إن سرّك الدهر يوماً سرني، وإذا ... آذاك بالمزعجات الدهر آذاني

أو قوله في الهجاء:

سوّد الله منك يا شيخ وجهاً ... غش حتى باللحية السوداء

لو نتفنا من شعرها وغزلنا ... لنسجنا خمسين ثوب رياء

أو قوله في الرد على من يعيبون ظهور الفتاة على مسارح التمثيل:

وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح ... تمثل حالي عزة وإباء

ولكن عاراً أن تزيا رجالكم ... على مسرح التمثيل زي نساء

فإن لم تكن الشواهد من هذا القبيل فهي مراجع تاريخية يهم القارئ أن يتابعها للوقوف على مناسباتها، وهي على الجملة مناسبات الشرق الحديث في معرض السياسة والاجتماع.

ولم يبرز الأستاذ طبانة فضائل الرصافي وكفى؛ بل هو قد أبرز من فضائل أهل العراق ما تضرب به الأمثال في تواريخ الأدب بين جميع الأقوام، فنحن لا نرى في تلك التواريخ أمثلة كثيرة لمروءة ذلك المحسن الأريحي السيد (مظهر الشاوي) الذي تكفل بالشاعر في شيخوخته ومنحته فأجرى عليه أربعين دينارً مشاهرة مدة حياته، ولا نرى في تلك التواريخ وفاء كثيراً كالوفاء الذي ظهر من أهل بغداد في تشييع الرصافي إلى مثواه. فكل ما أنكروه عليه أيام حياته من تمرد أو خروج على العرف والعقيدة لم يذكروه ساعة فارق الحياة؛ بل ذكروا له الفضل وحده غير معتز بصولة الجاه أو حواشي المنصب والثراء، فشيعوه ألوفاً إلى مقره الأخير.

عباس محمود العقاد