مجلة الرسالة/العدد 718/الواعظ الضرير!. . . .

مجلة الرسالة/العدد 718/الواعظ الضرير!. . . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 04 - 1947



للشيخ حسن عبد العزيز الدالي

كان ذلك منذ ثلاثة أشهر، وكان المطر غزيرا، والبرد قارسا وأزقة القرية مملوءة بالأوحال، وقد لاذ أغلب الأهليين إلى دورهم طلبا للدفء، وإذا بشيخ وقور مكفوف البصر تقوده ابنته وهي في العاشرة من عمرها، عليه مهابة وله جلال، يخب في جبته وقفطانه وقد بلل المطر ثيابه فاصبح كالقاضي الذي قيل فيه:

وسخ الثوب والعمامة والبر ... دون الوجه والقفا والغلام

دخل علينا فحييناه وأدفأناه، ثم قال:

شكرا ومعذرة يا سادة إذا كانت وظيفتي غير منسجمة مع حالتي، وكان عملي شاقا مرهقا، فإن كثرة العيال، والحاجة إلى العيش تجعل الرجل يركب الصعب، وأنا نكلف برسالة دينية يجب أن أؤديها مهما كان الثمن.

أثبتوني في دفتر 14 وبلغوني المسجد. . أنا واعظ المركز. . . ثم أدى رسالته وانقلب إلى أهله.

وفي هذا الأسبوع، دخل الشيخ علينا يتفصد وجهه عرقا وينوس برأسه من الحر؛ فالشيخ ربع القامة، شحيم الجسم، وقد افتر ثغره لطيفة، هي بسمة الرضاء بالقضاء، حدثناه وحدثنا، فكان مما قال إ، هـ في هذه السفرة عدم الرفيق فضل الطريق، بعد أن نزل من السيارة العامة، وكان لابد من أن يجتاز الترعة التي اعترضت طريقه، فخلع سرواله واجتازها وحمد الله على النجاة من الغرق. ثم إنه بالأمس القريب كان يؤدي رسالته في قرية أخرى، فأشلت الأطفال كلابها عليه فمزقت ثيابه وخدشت إهابه.

وفي ذات مرة نبه السائق أن ينزله أمام قرية كذا، فأنزله خارج حدود دائرته فحمد الله وشكره على أنه لم يصب بمكروه! يا سبحان الله، ما هكذا يكون الاختيار يا إدارة الوعظ والإرشاد؟ وما هكذا يكون الوضع السليم يا وزارة الداخلية!

إذا كان ولا بد أن يكون هذا العالم الجليل في سلك الوعظ والإرشاد، لذلاقة لسانه وقوة بيانه، وعظيم إيمانه، فألحقوه بمنطقة في مدينة يطمئن فيها على نفسه، ويستطيع أن يباشر مصلحة أهله ويأمن فيها على كرامته، فلا يجتاز ترعة، ولا تهره الكلاب الطريق، حتى يخرج إلى دائرة أخرى، وهناك يكفيه مؤنه هذا العناء قائد صغير لا يكلفه غير دراهم معدودة. إن ما يقوم به فضيلة الشيخ المكفوف، من وعظ وإرشاد بالقرى في يوم كامل يقوم به فضيلة البصير في نصف يوم مع الراحة التامة والكرامة الموفورة.

يا أولى الأمر: أنقذوا أمثال هؤلاء المكفوفين من عناء هذا العمل، فالميدان واسع، والنقل سهل، والثواب من الله عظيم، وإن كانت الحكمة في تعيين المكفوفين للوعظ والإرشاد أن يعظوا الرجال والنساء، فما في الريف نساء يجتمعن لسماع الوعظ؛ وإن كان فمن وراء حجاب.

حبذا لو فكرت وزارة الشئون مع وزارة الداخلية تفكيرا جديا فعممت الإذاعة بالريف، وجعلت للوعظ نصيباً من الإذاعة كل أسبوع، فإن ذلك يكون أجدى وأصلح وأوفر. اذهبوا مشكورين يا أولى الأمر بهؤلاء الوعاظ إلى المساجد المغلقة والمهدمة فافتحوها وشيدوها.

اذهبوا بهم إلى التدريس بالمعاهد والوعظ بالسجون العمومية والفرعية. أفسحوا لهم المجال بالمحاكم الشرعية والمحاماة: إنكم إن فعلتم ذلك فقد خطوتم بنا إلى الأمام، وخففتم العبء عن هؤلاء المكفوفين الكرام. ولعلنا نسمع قريبا أن وزارة الشئون قد أخذت بيد أمثال فضيلة واعظ مركز طلخا المكفوف البصر وأجلسته بدار الإذاعة ليلقى محاضراته الدينية في هدوء واطمئنان بعد أن تعمم الإذاعة بالريف، فيعم النفع ويسلم الوضع، ويطمئن الشيخ. . . ليت. . . ليت!

حسن عبد العزيز الدالي

عمدة كفر دمبرة القديم