مجلة الرسالة/العدد 718/مصطفى عبد الرزاق

مجلة الرسالة/العدد 718/مصطفى عبد الرزاق

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 04 - 1947



الشيخ الأكبر الذي فقدناه!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

أيها الروح الزكي الكريم الذي حبسه الموت عن كل قلب عرفه كما يحبس النسيم الرخي عن قلب المحرر الظمآن!

أيها العقل الكبير الذي حول في نفسه ما عرفه من هدى الدين وفلسفة الرأي الصحيح إلى حكمة الخلق الراجح واللفظ النزيه والعمل المبرر، فلم ير فيه الناس ذلك التناقض البغيض بين حكمة القول وطبش العمل، وعلم الدرس وجهل العيش، بل رأوا دينه وعلمه وحكمته كماء الشجرة الطيبة يحيها ويجري فيها عنصرا أصيلا يتحول لبابا حيا وورقا حريريا نديا وزهرا شذيا وثمرا شهيا يملأ الحواس والإدراك وحيه وتعبيره، لا كالماء في شجرة الحنظل يتحول فيها إلى مر زعاق، أو في دم الأفعى يتحول إلى سم مدوف كما يتحول العلم في بعض العقول!

ويا أيتها الواحة المخضلة الوارفة التي كانت تعيش هادئة في مد الرمال الطاغية، رمال الخيلاء العلمية المزدهاة والتعقرات الكلامية الجوفاء، والدعاوى العريضة والمزاعم المنادية على نفسها مناداة المتاجر في الأسواق!

ويا أيتها السكينة النفسية التي كانت تشع على من يقرب منها ألواناً من الرضى والطمأنينة، وتدخله إلى رحاب عالم من السكون والصمت المتحدث!

ويا أيتها (القطعة الفنية) الباقية من الشرق الكريم في وجوهه الحيية وألفاظه العفيفة وثيابه الساترة التي فيها شخصيته وأبوته ووقاره!

ويا أيتها الصوفية العقلية العملية التي تربى مريدها بالأدب الرفيع يتحلى به الكبير أمام الصغير فيأخذه عنه بدون قوالب ألفاظ وفلسفات ومجادلات، بل بذلك السر الخفي الذي يعطيه الآباء الحكماء للأبناء!

ويا أيتها المكرمات التي لا حد لما كانت تبذله من جاهها ومالها وحسن إقبالها على المحتاجين إلى برها، كأنها الينبوع الفياض في هدوء بين قسوة الظروف وشح الأنفس!

ويا أيتها التقاليد الصالحة العارفة بما عند قومها من محامد، فهي معتزة بها مستمسكة بعراه في آداب البيت والزي واللهجة وإن اختلف الزمان واختلت الأوضاع وطغت عوامل التحلل من الواجبات والتقاليد الكريمة على البيت والألسنة والحرمات!

ألا أيتها المعاني والعوالم التي كانت مجسمة في هذا الجسم المهذب الحواشي الدمث الجوانب الذي كان الكمال والسمت يقيده في الحركة واللفتة والكلمة. . . . هل يملك مثلي ممن كان يعيش معك فترات يجدد فيها ذكرى والده في صورتك وروحك ويحي الوفاء الذي كان بينكما، إلا أن ينظر الآن من وراء الغيب إلى هذه الحفرة التي أسلموا إليها ذلك الجسم الزكي الحبيب الذي كان مجتلاك أيتها المعاني؟! وماذا يغني النظر في تلك الحفر التي مضى إليها كل من كان ويمضي إليها كل من هو كائن في أبد الآبدين؟!. . . هل يغني إلا الحسرة على الفقد وضياع ما في يد الإنسانية من تلك المعاني العزيزة النفسية التي هيهات أن تجتمع في ذات إلا في خطفات زمنية وذوات معدودة يجود بها الزمان على بخل وشذوذ؟ إن هذه الذوات التي تجتمع فيها هذه الخلال إنما هي الكتب الحية والكلمات المجسمة التي تفسر الأفكار والأحلام التي يقرؤها القارئون في عالم الكتب المسطورة فيظنونها مخلوقات من عالم الأطياف لا حياة لها على هذه الأرض حتى يروا النموذج في شخص حي فيصدقوا. . . .

وكم يرى الناس من عالم يملأ طباق الفكر علما، ولكنه لا يملأ الفجوة الواعية الحساسة الصادقة في النفس! لأن علمه منفصل عن ذاته وحياته، فهو في فكره كالشيء المقتنى في يده، لم يجر من ذاته مجرى الدم في قلبه والرأي في عقله والخلق في سلوكه فهو حقيق ألا يرى الناس فيه قدوة تهدم أرواحهم القلقة. وإنما ينظرون إلى علمه بإعجاب، كإعجابهم بالمشعوذ أو الحاوي!

وكم رأى الناس من روحي لا يحسن الكلام ولكن يحسن السلوك والعمل وتفيض يداه بالخبر وقلبه بالعطف فيكون فيه للناس علامة مشيرة أبدا إلى منطقة النجاة من لجج الوحل والدنس التي تقطع السبل على الرجل المتطهر! فإذا اجتمع العلم والروح في شخص كان فضل الله عليه عظميا، فإذا كان ذلك على غنى وجاه لرجل يؤدى زكاة الغنى والجاه بالكيل الوافي كان ذلك فضلا عظيما مضاعفاً يعتبر ندرة تجمع عليها القلوب بالحمد.

أنا واثق أن كل فرد من اتصل بالعقيد يستطيع أن يسرد وقائع شخصية له من مكارم هذه الذات، أدبية أو مادية، ولذلك أقترح أن تدون هذه المكارم لتضم إلى المذخور المأثور عن أجواد العرب وساداتهم وعلماء المسلمين الأبرار، فإن في هذا التدوين ثروة تضاف إلى عبقرية الخلق التي هي أعظم العبقريات في الإنسان على رغم ما يشاع عن عبقرية الفكر أو عبقرية الفن، لأن عبقرية الخلق هي (فن الحياة) الذي ينمو في ظلاله الاجتماع الإنساني بما فيه من نتاج فكري وفني وعملي، فهي عبقرية أشبه شئ بالأمومة المضحية الفادية المعطية من غير أخذ. وهي عبقرية يختص الله بها قلوب طراز من الرجال يصح أن يسمى (الرجال الأمهات)! لشدة حبهم لنفع الإنسانية وتفانيهم في خدمتها وبرها.

أيها الروح الزكي الذي كان أبا وأخا وصديقا للجميع؛ إن القوم اجتمعوا لا ليكرموا ذكراك، فإنها عنصر من مكونات معنى الكرم ذاته في إفهام الناس في هذا العصر. . . . ولكنهم اجتمعوا ليكرموا أنفسهم بحديث ذكراك. ولو أرادوا أن يكرموك لأدركوا منك في حياتك كامل ما أدركوه بعد فقدك. . . ولكنهم اعتادوا مع الأسف ألا يكرموا الفضائل إلا بعد موت الفاضل. . لأن انتقال الموت فاجأهم ويفجعهم فيحسون أن الأرض تزلزل تحت أقدامهم بعد أن يتحطم قطب من أقطاب حياتهم عليه. . . وكانوا يدورون حوله وهم لا يشعرون. . . .

فمتى ترشد الأمم الشرقية فتتمتع بثمارها الناضجة التي أودع الله فيها سر النوع البشري قبل عطبها أو اختطافها! لماذا لا ندرك منازلهم في قلوبنا إلا بعد فقدهم، لماذا لا نسرهم في حياتهم بالاستجابة لداعية الخير في نفوسهم حتى يمضوا مطمئنين إلى بقاء الخير والبر بعدهم؟ لماذا لا تكون المدائح قبل المرائي؟

ما أصدق تلك الكلمة التي قالها الأول:

لا أعرفنك بعد الموت تندبي ... وفي حياتي ما زودتني زادي!

وما أصدق قول الآخر:

ترى الفتى ينكر فضل الفتى ... ما دام حياً فإذا ما ذهب.

لج به الحرص على نكته ... يكتبها عنه بماء الذهب!

فاللهم أرشدنا وبصرنا حتى ندرك أن أعظم ثروات الأمة هم رجالها الأفذاذ في الخلق والعلم فتنتفع بهم وتتمتع بعبقريتهم، ولا نضيعهم ثم نبكي عليهم!

روح الله الفقيد وأرواح أحبائه، وأحسن العزاء فيه للجميع فإنه فقيد الجميع.

عبد المنعم خلاف