مجلة الرسالة/العدد 719/قصائد تكريم خليل مطران في الميزان
مجلة الرسالة/العدد 719/قصائد تكريم خليل مطران في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 2 -
وكانت ثانية القصائد التي ألقيت في تكريم مطران قصيدة الأستاذ عبد الرزاق محي الدين المفتش بوزارة المعارف العراقية وكانت قصيدته - في الحق - غاية في الإشراق والبهاء والنصاعة، وكانت الموسيقى، وكان الجرس العذب الشجي شائعين في جميع أجزائها. . .
وكانت (الحضارة) واضحة جلية فيها، ولعل أصدق وصف يوصف به هذا الشاعر أنه الشاعر (المتحضر)! واعتقادي أن لحياته الخاصة، ولماضي أيامه، ونظام عيشه، دخلاً كبيراً في ارتقاء شعره وأخذه هذا السمت الرفيع وإن لم أنل شرف التعرف إليه.
وقصيدته في جملتها قطعة موسيقية متناسقة متسقة لا ترى بها نشوزاً ولا تحس فيها انحرافاً عن النهج الموسيقي القويم، وهي تغريك بقراءتها إغراءً قوياً ملحاً، وتأخذ بك إلى غايتها دون توقف أو تمهل أو تراخ، فليس لك عن تمامها معدي أو منصرف. . .
ولقد استطاع أن يضفي عليها جواً شعرياً صافياً نقياً متعطراً وكان له فيها - إلى ذلك - معان رائقة طريفة ما أحسب الكثير من شعرائنا المعاصرين يأتون بمثلها وتتفتح لهم مغاليقها إلا من عصم الله!
وقد وصف فيها (الشاعر) الشاعر لذاته مطلقاً أروع وأجمل وصف، فبين خصائصه التي يجب أن تكون، وميزاته التي يجب أن تتوافر، وأوضح طريقه الذي يجب أن ينهج، وفلكه الذي ينبغي أن يدور فيه أنظره يقول عن الشاعر إنه:
آلة مسحورة تحيا متى ... فنيت بالشيء روحاً وخلالا
ضلت الألباب عن إدراكه ... ومضت تحطب رشداً وضلالا
وأنظر قوله هـ ممثلاً في شخص مطران:
الغواني البيض ما زالت لها ... فاتناً. . . تُوليك حباً ووصالا
والمعاني العصم ما زلت بها ... أكثر الناس اقتناصاً واعتقالا
تتحدى السرب في شاهقة ... وتعاف السهل للناس مجالا. . .
وأنظره يقول عنه هذا البيت الطريف الرائع البديع: مصلح في غير دعوى مصل ... ونبي لم يكلفنا امتثالا. . .!
ولعل من كمال الجو الموسيقي الذي أحاط بالقصيدة من كافة جوانبها أن أختارها الشاعر من هذا البحر الغنائي المرقص (الرمل). . .
وهو وإن يكن قد اضطر في القليل جداً من أبياته إلى ضرورات كنا نود لو تنزه عنها مثل قوله:
جئت والنهضة فينا طفلة ... بعدُ. . . لم تبلغ فطاماً أو فصالا
والفطام والفصال بمعنى، ومثل قوله يصف الشاعر (وبماذا تتحامى شره؟). فإن هذه العبارة فوق مجافاتها للغة الشعر وللغة هذه القصيدة خاصة، فإن الشاعر ملاك رحيم، وليس بالشيطان الرجيم! وليس وراء الشعراء هذا الشر المستطير، وهذا الويل الكبير الذي يتهيبه الناس ويتقونه ويلتمسون الوسائل للنجاة منه! وصدق الذي قاله: (أنتم الناس أيها الشعراء). إلا أن هذه هنات هينات جداً لا تضيره في شيء. ولا تنقص قليلاً من قصيدته الرائعة التي نباركها عليه، ونشد على يديه مهنئين طالبين ألا يسكت - ما وسعه الجهد وواتته الظروف - عن الإنشاد، وألا يسلم إلى الصمت القياد، وسبحان من له الكمال وحده. . .
وكانت ثالثة القصائد لشاعرنا الأستاذ محمد الأسمر، وقد وجدت شيئاً بنفسي يرجع بي وأنا أقرأها إلى الوراء لم أتبينه للوهلة الأولى، غير أنه أخذ يدفعني دفعاً قوياً شديداً إلى الوراء كلما أمعنت في قراءتها حتى وجدتني أردد معلقة عنترة العبسي:
هل غادر الشعراء من متردّم ... أم هل عرفت الدار بعدتوهم؟؟
ولكنني ما كدت أهتدي إلى هذه المعلقة حتى أوغلت في قراءاتها وتركت قصيدة الأسمر؛ ومن وجد البحر استقل السواقيا!
أراد الأسمر أن يقلد القدامى، فنظر وأطال النظر في هذه المعلقة، ووقف وأطال الوقوف عندها، عله يقول كلاماً فيه منها مشابه وملامح، ولكنه عاد من النظر والوقوف يظل باهت، وصدى خافت.
على أن ألفاظه كنت بعيدة عن جرس الشعر وما ينبغي له من تخيرو انتقاء واصطفاء، وهل من الشعر قوله:
قدمتهم نحو العلا فتقدموا ... والفضل فضل مقدم المقدم! وهل من الشعر كذلك قوله.
هذا. . . وكم لك من شمائل حرة ... هي (في الحقيقة) روضة المتوسم
أو قوله:
من شاعر يثني عليك وناثر ... هو شاعر أيضاً وإن لم ينظم
أو قوله:
صورت جنة ظالم وجحيمه ... حتى الغناء وآهة المتألم
ولا أدري ولا المنجم يدري كيف يكون التصوير إن خلا من آهة المتألم وغناء النشوان وهما أدنى ما ينبغي أن يقال!
وفي مقالنا القادم إن شاء الله سنتناول القصائد الباقية وهي لشبلي ملاط وعبد الغني حسن وللمحتفل به.
(المنصورة)
علي متولي صلاح
(الرسالة) للأستاذ الكاتب رأيه في شعر الأستاذ الأسمر،
والرسالة لا توافقه في جمله ما يرى.