مجلة الرسالة/العدد 719/مرجعات في الفلسفة:

مجلة الرسالة/العدد 719/مرجعات في الفلسفة:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1947



نظرية المعرفة عند شوبنهور

للأستاذ عبد الكريم الناصري

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

1 - مبدأ الصيرورة:

أو مبدأ التغير، أو قانون العلة والمعلول. ومفاده أن كل شيء في العالم الواقعي المتغير فهو حلقة في سلسلة العلل والمعلولات، وخاضع إذاً للجبرية المطلقة. وسلسلة العلل أزلية أبدية، بمعنى إنها تمتد إلى الماضي اللامتناهي، وإلى المستقبل اللا متناهي. والعلة تسبق المعلول بالضرورة، فلا مجال لتبادلها الأثر في وقت واحد. وهناك ثلاثة أنواع من العلل؛ وهي (العلة) بمعناها الضيق، وتسود التغيرات الميكانيكية واللا عضوية، و (الحافز) أو المهيج الذي يتحكم في الحياة النباتية عند النباتات والحيوانات (كالهضم والدورة الدموية عند الحيوان والإنسان مثلاً)، و (الباعث)، وهو يسيطر على الأفعال المقودة بالإدراك والشعور عند الحيوان والإنسان.

2 - مبدأ المعرفة:

يتحكم هذا المبدأ في تصوراتنا وأحكامنا. وقوة التصورات هي (العقل) الذي يختص به الإنسان، بينما (الذهن) مشترك بين الإنسان والحيوان. والتصورات أو المجردات تتوقف على المدركات أو العيانات، والتصور قد يحيل على تصور آخر، وهذا على آخر مثله، ولكن سلسلة الأفكار المجردة لا بد من أن تقف عند عيانٍ، ويكون هذا هو السبب الكافي للتصور الذي يتوقف عليه مباشرةً؛ كما أن هذا التصور هو الأساس الكافي للتصور الذي يتوقف عليه، أي الذي هو أكثر منه تجريداً. وهناك أربعة قوانين منطقة علياً، هي قانون الذاتية، وقانون التناقض، وقانون الثالث المرفوع، وقانون السبب الكافي للمعرفة.

3 - مبدأ الوجود:

أو مبدأ المكان والزمان. ونحن لا نستطيع أن نتصور العالم الواقعي موجوداً إلا في الزمان والمكان. ولكننا نستطيع، من وجهة أخرى، لا أن نتصورهما مستقلين عن التجربة تصوراً مجرداً فحسب، بل وأن ندركهما بالعيان المباشر. ومن أجل ذلك يعتبرهما شوبنهاور صنفاً مخصوصاً من أصناف الموضوعات. ومبدأ الوجود في الزمان هو (التوالي)، ومبدأ الوجود في المكان هو (الوضع). كل لحظة من الزمان تتعين باللحظة السابقة، وتعين اللحظة اللاحقة. ومواضع المكان يعين بعضها بعضاً بالتبادل. والإضافات (أي العلاقات) المكانية هي موضوع علم الهندسة، والإضافات الزمانية موضوع علم الحساب. وكل هذه الإضافات تدرك، أول ما تدرك، بالعيان الخالص، لا بالتصور والبرهان.

مبدأ العقل:

أو مبدأ البواعث أو الباعثية. وقد كنا - في كلامنا على مبدأ العلية - عددنا الباعث من أنواع العلل الثلاثة. ولكننا كنا عندئذ ننظر إلى العلية من الخارج. فإذا تأملنا الآن في أحوالنا الباطنة، وجدنا أن أفعالنا الإرادية أو مشيئاتنا تتعين بالأسباب التي ندعوها (البواعث). وقد وصف شوبنهاور قانون الباعثية (بأنه العلة مرئية من الداخل)، وعن طريقه يتم الانتقال من عالم الظواهر إلى الشيء في ذاته، ومن الفيزياء إلى الميتافيزيقا.

والمبدأ الأول من مبادئ السبب الكافي هو المبدأ الفيزياوي، والمبدأ الثاني هو المبدأ المنطقي، والثالث هو المبدأ الرياضي، والرابع هو المبدأ الأخلاقي. وهذا معناه أن (الضرورة) المطلقة تعمم عالم الظواهر؛ في صورة الضرورة الفيزياوية، والمنطقية، والرياضية، والأخلاقية. والفرد الإنساني ظاهرة بين الظواهر، فهو إذن خاضع خضوعاً تاماً للضرورة السببية الجبرية، ولا حرية له بهذا الاعتبار.

وكل مبدأ من هذه المبادئ لأربعة، أو بالأحرى كل (شكل) من أشكال هذا المبدأ الواحد، مبدأ السبب الكافي، يعبر كما قلنا آنفاً عن طبيعة الموضوعات الخاضعة له. فمبدأ الوجود في الزمان الخالص هو (التعاقب) أو (التوالي)، وليس الزمان شيئاً سوى هذه الرابطة. ومبدأ الوجود في المكان الخالص هو (الوضع)، وليس المكان في جوهره سوى (الوضع) والعلية هي الرابطة التي تسود موضوعات الإدراك الحسي، التي تملأ المكان والزمان، وتؤلف العالم المرئي، عالم المادة. فإذا سألنا: ما طبيعة المادة؟ فالجواب أن (المادة) ليست في جوهرها سوى العلية. كيان المادة كله هو الفعل، والفعل هو العلية، فالمادة علة ومعلول، ولا شيء وراء ذلك. ومثل هذا يقال في تصوراتنا ومشيئاتنا. وصفوة القول إن كل موضوع من الموضوعات فإنما يوجد ويعرف بمقدار ما يرتبط بغيره من الموضوعات، وفقاً لمبدأ السبب الكافي في صورة من صوره الأربع. وهذه الرابطة تستنفد طبيعة الموضوع باعتباره موضوعاً فحسب، أي فكرة بالإضافة إلى الذات. فلنا إذن أن نقول أن عالم الموضوعات أو الفكرات لا يزيد عن كونه شبكة من العلائق والروابط والنسب، والوجود فيه إذن وجود محض نسبي. ومبدأ السبب الكافي، الذي يظهر لنا العالم مطبوعاً بطابعه (طابع الضرورة والنسبية) واحد متشابهة في كل صوره، فإذا اعتبرنا أبسط هذه الصور مثلاً، وهي الزمانية أو الزمان، فهمنا الصور الأخرى، وطبيعة عالم الظواهر. ونحن نجد أن كل لحظة من الزمان إنما توجد لأنها محت اللحظة السابقة، التي ولدتها، ثم لا تلبث أن تختفي هي أيضاً، إذ تمحوها اللحظة اللاحقة. فالماضي والمستقبل خاويان خواء الأحلام، وما الحاضر إلا الحد المترجرج، غير المنقسم، بين الماضي والمستقبل.

ومثل هذا الخواء نصيبه في المكان، وفي مضمون المكان والزمان، أي في كل ما يصدر عن البواعث والعلل، فلا شيء من ذلك يوجد إلا بالنسبة إلى شيء آخر مثله، أي نسبي زائل. (وهذا المذهب في لبابه قديم: فهو يظهر عند هرقليطي، حين يندب سيلان الأشياء الأبدي؛ وعند أفلاطون، حين يهبط بالموضوع إلى ما هو سائر أبداً، وليس بكائن قط؛ وعند اسبينوزا، في صورة القول بأعراض الجوهر الواحد، الكائن الباقي، كما إن (كانت) يعارض الظاهرة المحضة بالشيء ذاته. وأخيراً فإن حكمة الفلاسفة الهنود القديمة تصرح قائلة: (إن مايا، نقاب الوهم، هو الذي يغشى على أبصار الفانين، ويريهم عالماً لا يستطيعون أن يقولوا عنه، لا إنه موجود ولا إنه غير موجود: إنه كالحلم. إنه كضوء الشمس على الرمال، يحسبه المسافر على البعد ماء. . .) - ولكن ما يقصد إليه كل هؤلاء، وما يتحدثون عنه جميعاً، ليس شيئاً أكثر من هذا الذي نظرنا فيه: العالم باعتباره فكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي).

عالم الظواهر إذن حلم باطل. وليس ثمة من فرق حقيقي بين ما ندعوه الواقع أو اليقظة، وبين حلم الرقاد. إذ ما عسى أن يكون معيار التفرقة؟ إن القول بأن أحلامنا أقل وضوحاً وتميزاً من إدراكنا في حال اليقظة، لا وجه له، إذ لم يتفق أن استطاع إنسان من الناس عقد مقارنة عادلة بين الحالين، لأننا لا نستطيع أن نقارن إلا ذكرى الحلم بالواقع الحاضر. وقد جعل (كانت) ترابط الأفكار أو الموضوعات وفق قانون العلية معياراً للتفرقة بين حياة الواقع وبين الأحلام؛ ولكن يرد على هذا بأن تفاصيل كل حلم على حدته، على الأقل، تترابط تبعاً لمبدأ السبب الكافي في كل صورة؛ ولا ينقطع الترابط إلا بين اليقظة والأحلام، أو بين حلم وحلم. وعلى ذلك نستطيع أن نصوغ معيار (كانت) على الوجه التالي: إن الحلم (الطويل) - الذي نسميه (الحياة) - تترابط أجزاؤه جميعاً وفقاً لمبدأ السبب الكافي؛ ولكنه لا يرتبط هذا الارتباط بالأحلام (القصيرة) وإن كان كل حلم من هذا النوع الثاني مترابط الأجزاء على الوجه نفسه؛ ونحن إنما نميز بين الحلم الطويل والحلم القصير لانقطاع الصلة السببية بينهما.

والحق أن أعظم المفكرين والشعراء لم يترددوا في تشبيه الحياة بالحياة بالحلم. فأصحاب (الفيداس) و (البوراناس) مثلاً لا يملون من تشبيه العالم الواقعي - الذي يسمونه نسيج (مايا) - بالحلم. وكان أفلاطون كثيرا ما يقول: إن الناس يعيشون في حلم، وإن الفيلسوف وحده يحاول إيقاظ نفسه. وشكسبير من الشعراء يقول: لقد جبلنا من المادة التي تصنع منها الأحلام؛ وحيتانا القصيرة يحف بها النوم). وقد جعل كلدرون عنوان إحدى مسرحياته: (الحياة حلم). ولا يكتفي فيلسوفنا الأديب بما يقتبسه من الحكماء والشعراء، بل يدلي هو أيضاً بدلوه، ويستأذن قارئه في هذا التشبيه من تشبيهاته الرائعة: إن الحياة والأحلام صفحات من كتاب واحد. والقراءة المنظمة لهذا الكتاب هي الحياة الواقعية؛ ولكن بعد أن نتهي ساعات القراءة (أي اليقظة) ترانا كثيراً ما نستمر على تقليب الصفحات في تراخ وكل، فنقرأ صفحة من هنا وصفحة من هناك، بغير نظام أو إرتباط؛ وكثيراً ما تكون الصفحة مما قرأناه سابقاً، وقد تكون في بعض الأحيان جديدة علينا؛ ولكن الكتاب المقروء واحد لم يتبدل. ولا ريب في أن مثل هذه الصفحة المنفردة مقطوعة الصلة بالدراسة المنظمة للكتاب، ولكن الفرق لا يبدو كبيراً إذا تركنا أن القراءة المتصلة، كالأمر في قراءة الصفحة المفصولة؛ تبدأ وتنتهي فجأة، وفي وسعنا إذن أن نعتبر المقروء في الحالة الأولى صفحة واحدة كبيرة).

إن عالم الظواهر، هذا الحلم الذي لا نهاية له، والذي يتسلسل في الزمان والمكان وفقاً لمبدأ السبب الكافي، هو موضوع التجربة المادية والعلوم المختلفة، كالفيزياء والكيمياء والتاريخ؛ فإن غاية العلم ومهمته استقصاء ترابط الظواهر أو الجزئيات أو الأفكار وفق المبدأ المذكور، وعلى هدى من (اللماذا). وتسمى هذه العملية بالتعليل وظيفة العلم إذن تعليل الظواهر؛ ومضمونه، الذي لا يستطيع يقدم لنا سواء، هو ما يصل إليه التعليل من الروابط السببية. أما مضمون الظواهر، ومعناه الأخير، أما الشيء في ذاته، فإن النظر فيه والإخبار عنه ليس من شأن العلم، لأنه خارج نطاق السبب الكافي، الذي يهتدي العلم في تعليلاته به. وإنما هو من شأن الفلسفة. العلم يستطيع أن يخبرنا لماذا، وكيف، وأين، ومتى، حدثت هذه الظاهرة عن تلك، ويستطيع أن يصوغ قوانين لاطراد الظواهر، من جذبية وكيماوية وكهربائية ومغناطيسية، ولكنه لا يستطيع أن ينبئنا (ما) المادة، وما الكهرباء وما الجذب وما الألفة الكيماوية، وما سائر (القوى الطبيعية) التي تبقى، بالنسبة إليه، (كيفيات خفية) أو صفات مستوردة؛ وهكذا يتركنا في جهل مطبق بشأن الطبيعة الباطنة لكل شيء. ولكن حيث ينتهي العلم تبدأ الفلسفة. فإن الوصول إلى هذه الطبيعة الباطنة، إلا ماهية العالم، والهدف الذي ترمي إليه، وهي لا تبلغه عن طريق التعليل ومبدأ السبب الكافي، فإن هذا المبدأ لا يمتد إليه كما سبق القول، وإنما تبلغه بضرب من المعرفة العيانية المباشرة، ويقول شوبنهاور هنا إن كل إنسان يعرف في الواقع ما هو العالم، ولكن هذه المعرفة تجريبية، وجدانية، غير متميزة؛ ووظيفة الفلسفة إعادة هذه المعرفة الغامضة بلغة تصورية تجريدية دقيقة. إن الفلسفة هي مجموع أحاكم عامة، أساسها الكافي هو العالم نفسه برمته؛ وهي لذلك تلخيص أو انعكاس للعالم، في صورة أفكار مجردة. . .

(بغداد)

عبد الكريم الناصري