مجلة الرسالة/العدد 720/الامتيازات الطائفية القضائية

مجلة الرسالة/العدد 720/الامتيازات الطائفية القضائية

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 04 - 1947



وجوب إلغائها كالامتيازات الأجنبية

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

تخلصت البلاد من الامتيازات الأجنبية أو كادت، وتنفس الناس الصعداء، وعما قريب سيصبح جميع السكان خاضعين مدنياً وجنائياً لقضاء واحد هو القضاء الوطني أو السلطة القضائية المصرية، ولتشريع واحد مستمد من السلطة التشريعية المصرية. سلطتان هما، مع السلطة التنفيذية، مظهر السيادة القومية للدولة.

ولكن لم يفكر أحد إلى الآن - لا الحكومة والأفراد - في وجوب إلغاء الامتيازات الداخلية القضائية التي اختصت بها جميع الطوائف في مصر حتى المصرية المحض منها، بل إن تلك الهيئات أخذت تطالب الآن - لمناسبة مشروع القانون المعروض على مجلس الشيوخ - بالمزيد من امتيازاتها والتوسع فيها وهي ترفض بشدة إشراف القضاء الوطني العالي على أحكامها كما ترفض تنظيم الحكومة لأقلام كتابها، وذلك بدلا من أن تشكرها على هذه العناية وترحب بهذا الإصلاح المشكور الذي أرادته لها الحكومة.

ولا يخفى أن من أول واجبات الحكومات تولي القضاء وإقامة العدل بين الأفراد، وهذه هي وظيفة السلطة القضائية، إحدى السلطات الثلاث التي تكون منها سيادة الدولة، وعليها يقوم كل نظام، بل إنها الأساس العام للمجتمع الإنساني في عصرنا الحالي ولولاها لكان العالم على الحالة البدائية للشعوب المتوحشة والقبائل البدوية غير المتحضرة.

وما القول إذا عهدت حكومة من الحكومات إلى فرد من الأفراد أو جمعية أو شركة أمر الحكم في بعض القضايا المدنية أو محاكمة طائفة من الذين يرتكبون الجرائم كذلك النظام الشاذ الذي كان يتمتع به الأجانب، مع أن الذي كان يتولى محاكمتهم إنما هي محاكم نظامية قضائية تابعة لحكومات حقيقية شرعية ولكنها حكومات أجنبية، وكانت المحاكم القنصلية تحكم بمقتضى قوانين وضعية مدونة معروفة للجميع سنتها سلطات تشريعية عامة في حدود سلطانها. وحتى المحاكم المختلطة فأننا كنا نشكو بحق من وجودها لأنها تحدُّ من السلطة القضائية الوطنية وبالتالي من سيادة الدولة مع أنها محاكم شبه مصرية تحكم بمقتضى قوانين كانت تشترك الحكومة في وضعها مع الحكومات ذات الشأن، وتتوج أحكامها باس جلالة الملك.

ولكن المدهش حقاً أن برى الحكومة المصرية تتولى القضاء في أمور الأفراد المالية فقط وتغفل ما هو أهم من المال بكثير، وأعني به مسائل الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والبنوة والولاية على النفس ونفقة الأقارب وغيرها مما هو أساس الأسرة، وعليه يقوم النظام الاجتماعي بأكمله، لأن الأسرة هي نواة المجتمع، وتترك الحكومة هذه الأمور الهامة الحيوية لبعض الهيئات الطائفية تتصرف فيها كما تشاء من غير رقيب عليها ولا قانون وضعي ثابت لها يقيدها إلى حد ما في أحكامها، قانون صادر من السلطة التشريعية المصرية صاحبة الولاية على التشريع في البلاد.

وكم كتب المفكرون والمصلحون عن فوضى محاكم الأحوال الشخصية في مصر، والفساد المنتشر بين جدرانها، والتحيز والتلاعب بل الظلم البين الذي طالما وقع في أحكامها. وإني أحيل القارئ إلى المقالات الضافية التي ينشرها عنها بحق الأستاذ عزيز خانكي بك وغيره ممن طوقوا هذا الباب وبينوا عيوب تلك الهيئات وفساد نظامها وخلوها من كل تشريع وضعي لأحوالها الشخصية صادر من السلطة التشريعية. ولا أنكر أنه توجد بعض مجالس منظمة قليلا إلى حد ما مثل المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس بالقاهرة، ولكن هذا استثناء لا يبنى عليه حكم، وهو يرجع إلى بعض الأفراد الأفاضل الذي يجلسون الآن في هذه الهيئة وليس ما يضمن بقاء الحال فيها هكذا. ويكفي أن نقول إن كثيراً ما تؤجل القضايا إدارياً لعدم حضور الأعضاء كلهم أو بعضهم في أكثر من نصف جلسات الستة وأن هذه المجالس تعطل مدة أربعة شهور الصيف.

فواجب الحكومة الآن أن تمحو هذا النظام العتيق البالي من أساسه وأن تلغي الامتيازات الداخلية القضائية التي كانت قد اختصت بها الطوائف في الأزمنة الغابرة لعدم ثقتها بالحكومات القائمة في تلك العهود إذ كانت فكرة حماية الأسرة والنظم الاجتماعية معدومة من أذهان الناس، وكانت وظيفة الحكومات في تولي القضاة غير راسخة - نقول إن واجب الحكومة الآن أن تلغي هذه الامتيازات الداخلية الطائفية أسوة بالامتيازات الأجنبية، وذلك بأن تلحق اختصاص محاكم الأحوال الشخصية جميعها الشرعية والمالية بالمحاكم الوطنية كما هو حاصل في جميع البلاد الغربية وفي تركيا نفسها، وأن تسن تشريعاً عاماً للأحوال الشخصية لجميع السكان يضم إلى القانون المدني تطبقه على الجميع محاكمنا الوطنية. وأعتقد أن قضاتنا أوفر علما وأكفأ من أعضاء تلك المجالس وأبعد عن الهوى والتحيز وسوء التصرف. وها هو القانون المدني في تركيا وفي جميع البلاد الغربية والأمريكية وفي اليابان يشتمل من جهة على الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والبنوة والولاية على عديمي الأهلية الخ كما يشتمل من جهة أخرى - في الجزء الثاني منه - على الأحوال الخاصة بالمال كالملكية والالتزامات والعقود وغيرها.

ولا مانع من إنشاء نظام انتقال يقوم في فترة من الزمن ثم يلغي، تشكل فيه مثلا دوائر أحوال شخصية بالمحاكم الوطنية، دائرة لكل ملة، يجلس فيها مع القاضي الوطني الرئيس (عضو ملة) من أبناء الطائفة كما هو حاصل الآن في المجالس الحسبية ويسن لهذه الفترة تشريع وقتي للمسلمين، وآخر لجميع الطوائف غير المسلمة تقرب فيه أوجه الخلاف بين التشريعين، فيقيد مثلا حق الطلاق وحق تعدد الزوجات في التشريع الأول وتوسع هذه المسائل قليلا في التشريع الثاني إلى أن يلتقيا مستقبلا في التشريع الموحد الأمثل المنشود.

ولنذكر الخطوة الجريئة التي خطتها الحكومة المصرية الوطنية قبل الاحتلال المشؤوم حين سنت القانون المدني وقانون العقوبات العصريين العظيمين، واستعاضت بهما عن الأحكام القديمة، فلم يرتفع في ذلك الحين إلا احتجاجات خافتة من بعض العناصر الرجعية الجاهلة، لم تلبث أن سكتت لأن أولي الأمر يومئذ لم يعيروها أدنى اهتمام وذهبوا في طريق الإصلاح الاجتماعي العظيم الذي بدءوا فيه حتى رفعوا مصر إلى مصاف الدول المتمدنة الراقية، واستطاع المصلح العصري الكبير الخديو إسماعيل أن يقول كلمته المشهورة وهي (إن بلادي ليست من أفريقيا ولكنها جزء من أوربا). وكان هذا بفضل النهضة العلمية التي ألقى بذورها العلماء الفرنسيون الذين حضروا إلى مصر في عهد بونابرت (نابليون) ثم أخرجها إلى حيز الفعل ونشرها المصلح الأول في مصر الحديثة وهو محمد علي الكبير وخلفاؤه من بعده حتى عمت جميع النواحي من التعليم - العصري الصحيح - إلى الصناعة والتجارة، إلى الفنون العسكرية والصناعات الحربية. واستمر ذلك العهد السعيد يرتقي ويزدهر إلى أن جاء الاحتلال اللعين فقضى على كل شيء صالح في هذا البلد المسكين، حارب التعليم وقتل الروح العلمية العصرية وجنى على العقول وأفسد الأخلاق ورجع بنا إلى الوراء بنحو المائتي عام على الأقل.

ومن الغريب أن يزعم بعض رجال الطوائف في مصر أن الزواج عندهم عقد ديني محض يجب أن لا يمسه أحد. وإني لا أدري إلى أي نصوص في كتبهم الدينية يستندون وهي خالية من وضع أحكام لمسائل الزواج وغيره من الأحوال الشخصية، ولم يكن الدين المسيحي دين عقائد وتشريع كبعض الأديان الأخرى وإنما هو دين عقائد فقط. ولو رجع هؤلاء المعترضون على الإصلاحات العصرية المرجوة إلى تاريخ منشأ الأنظمة الاجتماعية وتطورها لا تضح لهم أن الزواج ليس له أي مصدر ديني إطلاقاً بل إنه كان - على العكس - في بادئ الأمر في كثير من الجمعيات الإنسانية نظاماً مكروها. فكان في عدد كبير من الشعوب القديمة قاصراً على الأرقاء من النساء يستحوذ عليهن الرجال ويملكوهن ولهم عليهن حق الحياة والموت، ولكن كانت المعاشرة تؤدي في كثير من الأحوال إلى شيء من الألفة والعواطف الطيبة خصوصاً إذا كانت المرأة على جانب من الإخلاص ووداعة الأخلاق، وعلى الأخص إذا أبحت نسلاً فيحسن سيدها معاملتها وقد يدوم ارتباطهما طيلة الحياة. ولما تراءى ذلك للأحرار من النساء الفقيرات قبلت الكثيرات منهن أن يستسلمن للرجال على ذلك الوجه لتضمن القوت والمأوى ثم أخذت هذه الحالة تتدرج إلى أن عمت معظم النساء، وعندئذ تدخل المشرعون ونظموا هذه العلاقة بين الرجل والمرأة - علاقة المعاشرة المستمرة التي سُميت بالزواج، وهي قائمة إلى حد ما في بعض أنواع الطيور وبعض أنواع ذوات الثدي العليا وعلى الأخص القرود الشبيهة بالإنسان (الغورلا، والشامبنزه، والأورنجوتان والجيوبون) وتقتصر ذكر بعض هذه الأنواع على زوجة واحدة. ونذكر مثلا أن من بين طرق الزواج في القانون الروماني القديم (التقادم) فمن عاشر امرأة مدة عام كامل دون أن ينقطع عنها ليلة واحدة تصبح زوجته من تلقاء نفسهما بحكم القانون بلا حاجة إلى أي إجراء آخر، كما هو الحال في الملكية وباقي الحقوق العينية تُكسب بالتقادم أي بوضع اليد المدة الطويلة المقررة في القانون.

ومن هذا كله يتضح أن الأديان ليست مصدر الزواج وإنما هو نظام اجتماعي محض نشأ في النوع الإنساني وفي بعض أنواع الطيور والحيوانات العليا بفعل العوامل الطبيعية البحت.

وما لنا وهذا كله، تركيا وباقي بلاد أوربا وأمريكا واليابان قد نظمت قوانينها المدنية أمور الزواج وأحكامه وكيفية انعقاده وفسخه عند الاقتضاء وما يتبعه من أحوال الطلاق والنبوة والولاية على النفس وعلى المال الخ. . . دون أي دخل للأديان. وقد فرضت أغلب الشرائع البلاد المتمدنة عقوبات صارمة على رجال الدين الذين يعقدون الزواج قبل أن يعقده موثق الزواج الحكومي الرسمي فضلاً عن أن هذا الزواج يُعد باطلاً قانوناً وكأنه لم يكن لأن الحكومات هناك ترى بحق أن الزواج نظام اجتماعي هام هو أساس الأسرة والمجتمع بأسره فلا يمكن أن يترك أمره للأفراد مهما كان مركزهم. وكل ما هناك أنه يجوز لمن يشاء من الأزواج أن يذهب، بعد إتمام العقد بالطريق النظامي الرسمي، إلى رجال الدين ليجروا طقوسهم الدينية عليه.

وإني لا أدري لماذا تفضل الحكومة الأقليات الطائفية التي تريد أن تستأثر بأحوالها الشخصية بدعوى أنها من أصل الدين - لماذا تفضلها على الأغلبية من المصريين وقد أبطلت استعمال تشريعهم الديني الخاص بالمعاملات والعقوبات واستعاضت عنه بالقوانين المدنية والتجارية والجنائية العصرية.

ومعروض الآن على مجلس الشيوخ مشروع قانون لتأييد تلك الامتيازات الطائفية مع تنظيمها. فكل محب لخير بلاده يرجو من حضرات شيوخنا أن ينظروا إلى الموضوع من ناحية مصلحة الوطن العليا غير متأثرين بفكرة مجاملة زملائهم من أبناء الطوائف الأخرى فيرفضون المشروع برمته ويرسمون للحكومة في رفضهم الخطة المثلى التي يجب أن تتبعها وهي ألا تترك أمر الأحوال الشخصية في أيدي الأفراد فإن من أول واجباتها أن تقوم هي بتنظيمها وسن قوانين عصرية صالحة لها وتتولى القضاة فيها على ما تقدم بيانه.

وليضع رجال التشريع وأولو الأمر فينا نصب أعينهم أن أول صفة يجب أن يتحلى بها من يتزعم الحكم هي الشجاعة والأقدام في تنفيذ الإصلاحات النافعة دون أن يبالي بمقاومة العناصر الرجعية الجاهلة.

نصيف المنقباوي

المحامي