مجلة الرسالة/العدد 721/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 721/الأدب في سير أعلامه:
12 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
في القوقاز
كان أكثر ما يجد من الأنس في صحبة صديقه سادو وفي صحبة رجل آخر هو إبيشكا القوزاقي صاحب الكوخ الذي كان يقيم به، وذلك الذي برع في الصيد براعة عظيمة أو الذي برع في الحديث عن مقدرته ومهارته فيه، وعن أيام شبابه الأولى وكيف كان الغواني يأخذن عليه كل سبيل ويفتتن به كل الافتتان، ولقد جعل منه ليو صورة إروشكا في قصته (القوزاق) فبلغ في ذلك غاية الإبداع.
وكان الصيد من أحب ما يلهو به في ساعات فراغه، وقد كانت الأرض غنية بطلبته من الأرانب البرية والثعالب، وكان يصحبه إبيشكا إلى قرى وأماكن بعيدة في الجبال حيث كانت تحيط بهما المخاطر في كثير من الحالات. . .
وليته جعل للصيد كل فراغه، فلقد عاد إلى الميسر منذ سنة على الرغم من مغالبته نفسه ابتغاء الإقلاع عنه، وما استطاع أن يكف عنه إلا ستة أشهر بعد أن وقع في الشرك ولم يمض عليه في القوقاز أسبوعان؛ وما إن عاد إلى التفرج على إخوانه الضباط وهم يلعبون حتى غلبه حب اللعب فأقبل عليه إقبال النهم الذي حيل بينه زمناً وبين الطعام، ففي كتاب منه إلى عمته تاتيانا في شهر يناير سنة 1852 أخذ يقص عليها كيف عاد إلى الميسر وكيف لحقته الخسائر من كل فج! وظل هذا شأنه طول تلك السنة والتي تلتها حتى عاوده ندمه وضيقه.
أما عن جانب الجد من حياته في القوقاز، فإنه في الجيش قد أبدى من البسالة في مواطن كثيرة ما استحق به صليب سان جورج للبطولة، ولكنه لم يحزه فعلا نظراً لعجزه عن تقديم شهادات وأوراق خاصة كان لابد أن يقدمها من يحظى بهذا الإنعام. . .
وكان كما سلفت الإشارة إليه قد أخذ يكتب منذ سنة 1851 وفي شهر يوليو سنة 1852 أت كتابه (عهد الطفولة) باكورة فنه وخطوته الأولى صوب المجد وذهاب الصيت وأرسلها بإمضاء ل. ن. إلى مجلة شهيرة كانت تسمى (المعاصر) وكان يصدرها رجلان من أعلام الأدب وقتئذ وهما نكراسوف وبانييف. . .
وظل ليو شهرين ينتظر رداً من المجلة وهو يسلم نفسه إلى الأمل الحلو تارة وإلى اليأس المرير تارة حتى جاءه كتاب من نكراسوف ينبئه فيه بقبول القصة للنشر، ولكن على ألا يدفع لصاحبها أجراً حسب ما تعارف عليه أصحاب المجلات الأدبية يومئذ إذ كانوا لا يدفعون أجراً لكاتب غير معروف على أول شيء يقبل منه للنشر. . .
وفرح تولستوي فرحا عظيما بالنشر في ذاته فهذه أمنيته، أما الأجر فما خطر بباله قط؛ وازداد فرحا إذ جاءه كتاب ثان من نكراسوف يقول فيه إنه ازداد رضاء عن القصة وهو يصححها للطبع وأنه يعتقد أن مؤلفها ممن وهبوا المقدرة، وإنه لأمر ذو أهمية أن يعمل المؤلف ذلك في بداية عهده بالكتابة. . .
ونشرت القصة في عدد أكتوبر فسرعان ما حظيت بثناء أهل الفن جميعا وفي مقدمتهم تُرجنيف ذلك الذي كان اسمه من أشهر الأسماء يومئذ في فن القصة، ومنهم دستويفيسكي وكان في منفاه بسيبيريا فكتب إلى أحد أصدقائه يسأله من يكون ل. ن. هذا صاحب تلك القصة. . .
ولم يكن بالأمر الهين أن يلتفت ترجنيف ودستويفسكي إلى هذا الكتاب فقد خلف هذان الكاتبان جوجول في زعامة القصة واغتدى اسماهما أرفع الأسماء في الجيل الذي أعقب جيل جوجول. . .
وطابت نفس الفتى ليو نيقولا تولستوي وابتهج فؤاده بهذا النجاح، وإن كان ضايقه من الناشر أنه غير عنوان الكتاب فجعله (تاريخ عهد طفولتي) بدلا من عنوانه الأصلي (عهد الطفولة) وذلك أن الكاتب كما ذكر في أكثر من موضع لم يقصد بكتابه أن يكون ترجمة منه لنفسه. . . وكذلك ضايقه أن الرقيب تناول بالحذف أو التغيير بعض عبارات الكتاب.
أخذت تتفتح الأكمام في هذا الكتاب عن عبقرية الكاتب الناشئ الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وبدأت تنجلي خصائص فنه وتتضح مواهبه وفي مقدمة تلك المواهب إحساسه المرهف وقلبه الشاعر وذكاؤه الحاد وبصيرته النافذة إلى أعماق الأشياء المحيطة بتفاصيلها ودقائقها وروحه الدائبة المتوثبة التي لا تعرف سأماً وحيويته الكفرية التي لا تقل عن حيويته البدنية.
أما فنه فكان قوامه الأصالة والصدق والسمو وتجنب ما لا عائدة منه في التعبير والتصوير، وكان يجمع فيه بين عاطفة الفنان ومهارة الصانع وتفطنه إلى كنه ما في يده؛ وكان يقبل على الكتابة في تحمس شديد وإخلاص بالغ، ثم يطيل النظر فيما يكتب فيمحو ويثبت ويحذف ويضيف حتى يستقر على وضع ترتاح نفسه إليه ويقرأ ما يكتبه على من يدخل عليه يتبين أثره في نفسه، كما كان ينفعل انفعالا شديداً إذ يتلو لنفسه ما كتب فتدمع عيناه ويهتز بدنه وترتعش يداه، ثم يشيع السرور في كيانه وتستقر الطمأنينة في وجدانه.
كتب في مذكراته في هذه السن المبكرة يقول في أوائل سنة 1851 (إن الخيال هو مرآة الطبيعة، مرآة نحملها في أنفسنا وفي هذه المرآة تصور الطبيعة، وأجمل الخيال هو أصفي المرايا وأصدقها وتلك هي التي نسميها العبقرية. . . إن العبقرية لا تخلق وإنما هي تعكس ما ترى) وقال في موضع آخر (إن الكتابة الأدبية ينبغي أن تكون أغنية منبعثة من صميم نفس الكاتب).
لم يكن كتابه (عهد الطفولة) ترجمة لحياته، ولم يكن كذلك عملا خيالياً بحتاً، وإنما كان وسطاً بين هذا وذاك، ولعله كان إلى وصف حياته وبيئته الأولى أقرب. قالت زوجته فيما بعد (كانت كل الصور فيه مشتقة من أعضاء أسرته، وكان الإسكندر إسلنيف هو صورة جدي لأمي).
ولم يعن تولستوي في كتابه هذا بالحوادث في ذاتها فليس فيه إلا الحياة العادية التي يحياها الناس كل يوم، وإنما عنى بإبراز المشاعر والأحاسيس التي تثيرها الحوادث فيما صور من الأشخاص فكان عمله أقرب إلى التحليل النفسي الذي سوف تمتاز به القصة الروسية عما قريب بوجه عام وفي فن دستويفسكي بوجه خاص.
ولقد وفق تولستوي توفيقاً كبيراً في تصوير الخلجات النفسية في كتابه هذا حتى ما يظن قارئه (إن لم يكن يعرف) أنه عمل مبتدئ، هذا إلى دقة اللمسة الفنية والبراعة في عرض الصور مع وضوحها وخلق المناسبات، واختيار ما يحتاج إليه السياق في غير استطراد ممل أو على حد تعبيره (استبعاد كل ما لا ضرورة له وكل ما هو سطحي أو ضعيف).
وللكتاب أهمية من ناحية أخرى إذ هو يرينا تأثره إلى حد ما بروسو وستندال ودكنز وبخاصة في قصة دافيد كوبر فيلد التي هي في الواقع حياة دكنز في بيئته الأولى مقنعة كما شاء القصصي العظيم، وكانت هذه القصة كما ذكرنا تنشر تباعاً يومئذ مترجمة إلى الروسية في مجلة المعاصر. . .
وحفزه نجاحه في كتابه الأول إلى أن يكتب (عهد اليفاعة) فأقبل على ذلك في نشاط وأمل وغبطة؛ وكان أثناء كتابته (عهد الطفولة) قد كتب بعض الأقاصيص عن حياته في الجندية ومنها (قطع الغابة) و (الغارة)، وقد أرسل هذه الأخيرة إلى مجلة (المعاصر) فنشرتها وقد اطمأنت إلى القصصي الشاب؛ ولكن الرقيب شوه بعض أجزاء هذه الأقصوصة حتى لقد اشتكى مؤلفها قائلا (لقد قضى عليها الرقيب، فقد محا كل ما كان حسناً فيها أو بدله).
وأقبل القصصي الشاب على مذكرته يثبت فيها ما يعتزم كتابته من قصص؛ وكلما طرأ على خاطره موضوع يصلح لقصة عجل بإثباته ودون ما يعن له من ملاحظات ليعود إليها في حينها، وكلما أعجبته حادثة أو شخصية ممن يحيطون به كتبها مخافة أن ينساها ليجدها فيما بعد حين يأخذ في بناء قصصه وهكذا بث نجاحه الأول في نفسه كثيراً من الأمل والنشوة. . .
أخذ يزداد سأم الفتى من القوقاز ومن حياة الجندية يوماً بعد يوم، منذ أن ذهبت عن تلك الحياة جدتها؛ واشتد ضيقه في شهر أكتوبر سنة 1852 حتى إنه ليكتب في يومياته إنه يعد سني نفيه من ذلك التاريخ، ويقول فيما يُشعر بالأسى إنه لن يستطيع أن يعتزل خدمة الجيش إلا سنة 1855 (وعندئذ أكون في السابعة والعشرين من عمري، وما أكثر ما أكون من الكبر في هذا السن!. . . ثلاث سنوات أخرى في خدمة الجيش منذ اليوم؟ إن عليّ أن أقضيها فيما يجدي).
وفي مستهل سنة 1853 يقول (يا للناس من أغبياء! إنهم جميعاً وبخاصة أخي لا يدعون الخمر، وهذا شيء أراه كريها. . . إن الحرب أمر باطل. . . هي شر لا ريب حتى إن الذين يخوضون غمارها ليحاولون تلقاءها أن يخنقوا ضمائرهم. أحق ما أنا فاعل؟ أرشدني يا إلهي واغفر لي إن كنت أعمل باطلا). . .
والحق إنه لولا ما كان يصادفه في القوقاز مما يكون مادة طريفة لفنه من الناس والحوادث والمناظر، ما استطاع صبراً على العيش هناك، ولا أطاق حياة الجندية وما فيها من خشونة وما كانت تبعثه في نفس كنفسه من سأم وضيق بأيامها المتكررة المتشابهة. . .
وبدأ يشكو أسقاماً في معدته وأمعائه وكان مرد ذلك إلى ما اعتاده من إسراف في الطعام، فقد كان من مرذول عاداته نهمه في تناول أنواع من الأطعمة كان يحبها كالفطائر والمثلجات وأصناف الحلوى، وكان لا يستطيع أن يصد نفسه عنها إذا تهيأت له، أو يفطمها إذا غابت عنه، وإنما كان يسعى إليها سعياً حتى يظفر منها بأوفر نصيب وإن مسه الضر؛ وكان لا يكترث لنصح أو يشفق من أذى اتكالا على ما يحس من قوة بنيته وشدة حيوانيته، ورغبة منه في تعويض ما يبذله من طاقة في تلبية نداء جسده. . .؛ ولكن ذلك النهم قد أضر بمعدته ضرراً أخذ يزداد منذ كان في القوقاز وسوف يتمكن منها حتى ليستعصي على العلاج حين يتقدم به العمر. . .
وكذلك أخذ يشكو من الروماتزم والحمى والرعاف والتهاب الحلق في كثير من الأحيان، ونجده يكتب إلى عمته تاتيانا ذات مرة يقول لها (لا تظني أنني أخفي عنك شيئا. . . إني وإن كنت متين البنية أعاني دائما ضعف الصحة).
وفي شهر مارس سنة 1853 يكتب في يومياته قائلا (إن الخدمة في القوقاز لم تجر عليَّ إلا المصاعب والكسل ومعرفة غير الأخيار. . . إنه ينبغي أن أخلص منها أسرع ما أستطيع. . . لقد فقدت ما كان معي من المال جميعاً، ولا زلت مديناً بثمانين من الروبلات لأوجولين وستة ليانوفتش وخمسين لسكوفنين وثمان وسبعين لقنسطنطينوف؛ وتبلغ جميعاً أربع عشرة ومائتين، وقد أنفقت فضلا عنها ثلاثين ومائتين كانت كل ما أملك. . . إن ذلك لسيئ).
(يتبع)
الخفيف