مجلة الرسالة/العدد 721/تفسير الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 721/تفسير الأحلام

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 04 - 1947


4 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

أحلام الطفولة:

أظنكم تشعرون أننا قد تقدمنا في سرعة زائدة عن اللازم، وعلى هذا فلنقصر من خطوتنا قليلا. تذكرون أننا عندما قمنا بتجربتنا الأخيرة في محاولة التغلب على الصعوبة التي تنشأ عن التحريف في الأحلام، قلنا إنه من المستحسن أن نحتال على ذلك بأن نركز كل جهودنا في اختبار الأحلام التي تكون خالية أو شبه خالية من التحريف إذا كان هناك أحلام من هذا القبيل. ولكننا بهذا القول نكون قد عدنا إلى البعد عن جادة الصواب، لأن الطريق الذي سلكناه في البحث لم يهدنا في الواقع إلى معرفة شيء عن هذه الأحلام الخالية من التحريف إلا بعد أن طبقنا طريقنا في التفسير مراراً وتكراراً على أحلام من النوع المحرف، وحللناها تحليلا مضنياً استنفد منا مجهوداً كبيراً.

وهذا النوع الذي نبحث عنه من الأحلام موجودة في الأطفال، فأحلام الطفولة أحلام واضحة، سهلة الفهم، متماسكة خالية من التعقيد. وليس معنى هذا أن كل الأحلام في الأطفال من هذا النوع، فالتحريف يبدأ عادة في الظهور من بواكير الطفولة، وتوجد تحت يدنا أحلام لأطفال بين الخامسة والثامنة تظهر فيها كل الخواص التي تظهر في أحلام البالغين. ولكن إذا اقتصرنا على النظر في الأحلام التي تحدث في المدة الواقعة بين بدء النشاط العقلي للطفل والسنة الرابعة أو الخامسة من حياته، وجدنا أنها تحتوي على سلسلة من الأحلام يمكن أن نطلق عليها حقاً (أحلام الطفولة). وهذه الأحلام قد توجد بصفة فردية في أواخر الطفولة. كما أن كثيراً من البالغين يرون في ظروف معينة أحلاماً لا تختلف عنها اختلافاً يذكر.

وهذه الأحلام في إمكانها أن تمدنا بمعلومات وافية عن الطبيعة الأساسية للحلم نأمل في أن تكون عامة تنطبق على جميع الأحلام على اختلاف أنواعها: 1 - هذه الأحلام لا تحتاج في تفهم معناها إلى أي تحليل أو تطبيق لطريقتنا في التفسير. فليس من الضروري أن نستجوب الطفل الذي رأى الحلم بل يكفي أن نعرف شيئاً عن حياته. وهذه المعرفة لابد منها لأننا نجد في كل حالة أن حادثة من الحوادث التي وقعت للطفل في اليوم السابق هي التي تفسر لنا الحلم، وما الحلم في الحقيقة إلا رد الفعل الذي ينتج عن هذه الحوادث أثناء اليوم.

دعوني أضرب لكم بعض الأمثلة حتى نستطيع أن نبني استنتاجاتنا القادمة عليها:

(أ) كان على طفل يبلغ من العمر سنة وعشرة شهور أن يقدم صندوقاً من الحلوى هدية إلى أحد أقرانه بمناسبة عيد ميلاده. ومن الواضح أن الطفل قام بهذا العمل على غير رغبة منه، على الرغم من أنه قد وعد بأن ينال شيئاً منها لنفسه. وفي الصباح روى الطفل الحلم الآتي: (لقد أكل هرمان كل الحلوى).

(ب) قامت طفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات برحلة بحرية لأول مرة في حياتها، فلما وصل الركب إلى الشاطئ أخذت الطفلة تصيح راغبة عن النزول من المركب فقد مر الوقت بالنسبة لها مراً سريعاً من غير شك. وفي صبيحة اليوم التالي قالت الطفلة: (لقد رأيت نفسي في النوم على ظهر مركب يمخر عباب الماء). وقد يكون في إمكاننا أن نستنتج أن هذه الرحلة طالت عن الرحلة الحقيقية حتى تشبع رغبة الطفلة.

2 - نرى من هذا أن أحلام الطفولة ليست عديمة المعنى بل هي عمليات عقلية واضحة المرمى مفهومة المعنى، وقد سبق أن بينت لكم أن النظرية الطبية تفسر الحلم على أنه ظاهرة جسمية تنشأ عن اضطراب في المعدة أو ما شابه ذلك. وقد شبهه بعضهم بالأصوات التي تصدر عن آلة موسيقية من يد غير بارعة. ولكنكم بلا شك لن تغفلوا عن التناقض الواضح بين هذا التشبيه وبين أحلام الأطفال التي رويتها لكم. فإذا كان في استطاعة الطفل أن يقوم بعمليات عقلية كاملة أثناء النوم فليس من المعقول إذاً أن يقنع الرجل البالغ بأن تجيء أحلامه رد فعل لعوارض جسمية ليس إلا! هذا مع العلم بأن الطفل عادة يكون أعمق نوماً من الرجل البالغ.

3 - هذه الأحلام خالية من التحريف، وعلى هذا فهي لا تحتاج إلى تفسير، فالمحتوى الظاهر والمحتوى الباطن متماثلان. ومن هذا يمكننا أن نستدل على أن التحريف ليس من الأشياء الضرورية في تكوين الحلم. أظن هذه النتيجة سترفع عنكم عبئاً ثقيلا، ومع هذا فإننا إذا دققنا النظر وجدنا أن التحريف موجود حتى في هذه الأحلام وإن كانت على درجة طفيفة جداً، وأن هناك اختلافاً ولو بسيطاً جداً بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم.

4 - الحلم الذي يراه الطفل عبارة عن رد فعل لحادثة وقعت له في اليوم السابق وخلفت بعدها آثاراً من الندم أو الطموح أو رغبة لم تحقق. وهذه الرغبة تتحقق في الحلم في صورة واضحة مكشوفة. ومن الواضح أننا لا نجد في أحلام الطفولة هذه أي أثر للمؤثرات العضوية التي يركن إليها بعض العلماء في تفسير الأحلام ولكن ليس معنى هذا أننا ننكر أثر هذه المؤثرات في تكوين الأحلام، وإنما كل ما أود قوله هو أن أسألكم لم تغفلون من مبدأ الأمر أن هناك مؤثرات عقلية كما أن هناك مؤثرات عضوية تقلق نومنا؟ فنحن نعلم بلا شك أن هذه المؤثرات هي التي تمنع الرجل البالغ من النوم لأنها تجعل من العسير عليه أن يتهيأ للحالة العقلية اللازمة للنوم أي قطع كل صلة تربطه بالعالم الخارجي، فهو لا يرغب في أي شيء يقطع عليه حبل أفكاره ويود لو ظل يعمل فيما هو مشغول به وهذا هو السبب الذي يمنعه من النوم. وعلى هذا فالمؤثر العقلي الذي يقلق نوم الطفل هو الرغبة التي لم تحقق والحلم هو رد الفعل الذي ينشأ عن ذلك.

5 - نرى من هذا أن قيمة الحلم كرد فعل للمؤثرات العقلية تتوقف على قدرته على تصريف الرغبات المكبوتة حتى يزول المؤثر ويظل النوم متصلا. ونحن لا نستطيع أن نعرف بعد كيف يحدث هذا التصريف من الوجهة الديناميكية، ولكنا قد لاحظنا بلا شك أن الأحلام ليست مقلقة للنوم (وهي التهمة التي تلصق بها دائماً) وإنما هي حارسة عليه تخلصه من عوامل القلق والإزعاج. وقد يميل البعض إلى الظن بأننا لو لم نحلم لنمنا نوماً أحسن ولكنه بذلك يكون مخطئاً لأن الحقيقة أن الفضل في القدر الذي نمناه يرجع إلى الحلم وأننا لولاه لما نمنا على الإطلاق. وإذا كان الحلم لا يجد بدا من إزعاجنا قليلا فمثله في ذلك كمثل الشرطي الذي لا يستطيع أن يتجنب إحداث جلبة أثناء طرده من قد يعكر علينا هدوءنا أو يوقظنا من النوم.

6 - من الصفات الرئيسية للأحلام أنها تنشأ عن رغبة وأن محتوى الحلم يمثل هذه الرغبة. هذه واحدة والثانية أن الحلم لا يعبر عن فكرة وحسب، وإنما يمثل الرغبة كأنها تحققت. فمثلا في الحلم الذي رأته الطفلة كانت الرغبة: (إني أود أن أظل على ظهر المركب) أما محتوى الحلم فكان: (لقد رأيت نفسي على ظهر مركب يمخر عباب الماء). ومن هذا ترون أنه حتى في أحلام الطفولة هذه يوجد فرق بين المحتوى الظاهر والباطن للحلم. وأن هناك تحريفاً بسيطا إذ تحولت الفكرة في المحتوى الباطن إلى تجربة حسية في المحتوى الظاهر. وعلى هذا يجب علينا عند التفسير أن نعمل أولا على إعادة كل شيء إلى ما كان عليه.

7 - تعتبر الأحلام توفيقاً بين قوتين: إحداهما تعمل على استغراقنا في النوم والثانية تعمل على إيقاظنا منه لإشباع الرغبة المكبوتة. فتكون النتيجة أننا ننام وفي نفس الوقت نشبع هذه الرغبة عن طريق الحلم.

8 - جرى الناس على أن يطلقوا كلمة (أحلام اليقظة) على الخيالات التي يسبح فيها الإنسان وهو يقظان ليحقق بها آماله في الطموح أو رغباته الجنسية. ولكن أحلام اليقظة هذه تظل دائماً أفكاراً وخيالات فقط ولا تتحول أبداً إلى تجارب حسية كما هو الحال في الأحلام أي أنها تحتفظ بإحدى الصفات الرئيسية للأحلام التي ذكرناها في البند السادس ولا تحتفظ بالصفة الأخرى.

وهناك أيضاً أقوال مأثورة في اللغة تشير إلى أن الحلم عبارة عن إشباع لرغبة. فكلنا يعلم المثل القائل: (يحلم الخنزير بثمرة البلوط والإوزة بالذرة). أو (بماذا يحلم الفروج؟ بالحَب). وهناك أيضاً جمل كثيرة تستخدم أثناء الحديث تشير إلى نفس المعنى كقولنا (جميل كالحلم) أو (ما كنت لأحلم بمثل هذا أبداً).

والآن تأملوا أي محصول غزير جمعناه في غير صعوبة تذكر أثناء دراستنا لأحلام الطفولة! فقد رأينا أن وظيفة الحلم هي المحافظة على النوم، وأنه ينشأ عن قوتين متعارضتين تظل إحداهما، وهي الرغبة في النوم، ثابتة؛ بينما تعلم الأخرى على إشباع رغبة ملحة، كما ثبت أيضاً أن الأحلام عبارة عن عمليات عقلية غنية بالمعاني، وأن لها صفتين رئيسيتين هما إشباع الرغبات وتحويل الأفكار إلى تجارب حسية؛ وهذا كله في الوقت الذي كدنا أن ننسى فيه أننا ندرس التحليل النفساني.

نرى من هذا أن الأحلام لو كانت كلها من نوع أحلام الطفولة لانحلت المشكلة ووصلنا إلى غايتنا في غير ما حاجة إلى استجواب الحالم أو الرجوع إلى عقله الباطن أو استخدام طريقة الترابط المطلق. وعلى هذا فالمسألة التي علينا أن نبت فيها الآن هي معرفة ما إذا كانت الصفات التي تنطبق على أحلام الطفولة تنطبق كذلك على بقية الأحلام وبالأخص تلك الأحلام التي تبدو غير واضحة المعنى والتي لا نستطيع أن نرى في محتواها الظاهر أية إشارة أو تلميح إلى رغبة ظلت بغير إشباع من اليوم السابق. هذه الأحلام في رأيي قد تعرضت إلى درجة عالية من التحريف وعلى هذا أرى أن لا نتسرع بالحكم عليها، فأغلب الظن أننا سنحتاج في التغلب على هذا التحريف إلى معونة التحليل النفساني الذي استطعنا أن نستغني عنه أثناء دراستنا لأحلام الطفولة.

ومع هذا فهناك على الأقل نوع آخر من الأحلام خال من التحريف كأحلام الطفولة ويعبر مثلها عن إشباع رغبته. وهذا النوع ينشأ عن الحاجات الطبيعية الملحة كالجوع والعطش وإشباع الرغبة الجنسية. فتحت يدي مثلا حلم لطفلة لها من العمر سنة وسبعة شهور يحتوي على قائمة بأصناف المأكولات وفي أعلاها اسم الطفلة. وقد جاء الحلم كرد فعل ليوم اضطرت فيه الطفلة إلى الصيام عن الطعام نظراً لسوء الهضم الذي ألم بمعدتها نتيجة لكثرة الأكل من نوع من الفاكهة ظهر مرتين في الحلم. وقد أثبتت المشاهدات أن السجين الذي يترك بغير طعام، أو المسافر الذي يعاني الجوع والحرمان يحلم دائماً بإشباع رغباته. وقد جاء في كتاب لأوتو نوردنسكولد عن العصبة التي أمضى معها فصل الشتاء ما يلي:

(كانت أحلامنا في هذا الوقت تشير بوضوح إلى الاتجاه الذي كانت تتخذه أفكارنا، فلم يسبق لنا قبل ذلك أن رأينا أحلاماً بهذه الكثرة والوضوح، حتى إن الرفاق الذين كانوا لا يحلمون إلا نادراً أصبحت لديهم قصص طويلة يقصونها علينا في الصباح عندما كنا نتبادل رواية ما قمنا به من تجارب في هذه الدنيا الواسعة من الأطياف. وقد كانت الأحلام كلها عن هذا العالم الخارجي الذي أصبح بعيداً عنا، ولكنها كانت غالباً ما تحوي تلميحات إلى الحالة التي كنا عليها؛ فالأكل والشرب والسفر كانت في أغلب الأحيان المحور الذي تدور حوله أحلامنا. . . فكان بعضنا يحلم بالموائد الحافلة، والبعض الآخر يحلم بالسفن رائحة وغادية وهكذا. .) وإذا كان أحدكم قد أكل يوماً أكلة أظمأته أثناء الليل فمما لاشك فيه أن سيحلم بشرب الماء. ولكن هذا الحلم بالطبع لن يخفف عنه حدة الظمأ، وما يحدث في هذه الحالة هو أنه يصحو من النوم ظمآن ويضطر إلى أن يشرب ماء حقيقياً. والخدمة التي يؤديها الحلم في هذه الحالة ليست بذات قيمة من الوجهة العلمية، ولكنها مع ذلك ترينا أن الغرض من الحلم كان حماية النوم من المؤثرات التي تدفعنا إلى اليقظة والعمل، وقد تستطيع هذه الأحلام أن تؤدي الغرض منها إذا كانت الرغبة على درجة أقل من الحدة

وليس معنى هذا أن أحلام (إشباع الرغبة) التي هي من نوع أحلام الطفولة لا تنشأ عند البالغين إلا كرد فعل للحاجات الطبيعية الملحة التي ذكرتها سابقاً، وإنما هناك أنواع أخرى كذلك من الأحلام، قصيرة واضحة تنشأ عن حالة عقلية خاصة تكون مستولية على تفكير الشخص. فمثلا هناك (أحلام الملل)، وهي تنشأ عندما يكون الشخص آخذاً في الاستعداد للقيام بعمل هام كرحلة طويلة، أو مشاهدة مسرحية ذات موضوع يستهويه، أو زيارة صديق، أو سماع محاضرة شيقة. . . الخ. فمثل هذا الشخص ما تكاد عينه تغفو حتى تلم به الأحلام فتحقق له مقدماً ما كان يستعد لتحقيقه، فإذا به يرى نفسه على ظهر الباخرة، أو في قاعة التمثيل، أو يتحدث إلى صديقه الذي كان يأمل في زيارته وهكذا.

وهناك أيضاً أحلام من نوع آخر يطلق عليها (أحلام الراحة)، وهي تنشأ عندما يكون الشخص مستغرقاً في النوم لا يريد أن يصحو منه أبداً، وفيها يرى الشخص نفسه كأنما هو يغسل وجهه، أو يرتدي ملابسه، أو في طريقه إلى المدرسة، ومعنى ذلك أنه يفضل أن يحلم أنه استيقظ من النوم على أن يستيقظ منه فعلا. وفي هذه الأحلام نرى أن الرغبة في النوم (وهي التي قلنا عنها إنها تدخل في تكوين الأحلام)، تتمثل بوضوح وتبدو كأنها السبب الحقيقي في تكوين الحلم. وهي في هذا الاعتبار تدخل ضمن الحاجات الطبيعية الملحة التي ذكرناها سابقاً.

تذكرون أنني سبق أن قلت لكم إننا نجد في جميع الأحلام فيما عدا أحلام الطفولة وما يشبهها، عائقاً يعوقنا عن التفسير وهو التحريف. ونحن لا نستطيع أن نقرر من الآن إن كانت هذه الأحلام أيضاً إشباعاً لرغبات، كما أننا لا نستطيع أن نخمن أي مؤثر عقلي دفعها إلى التكوين، ولا أن نثبت إن كانت هي أيضاً تعمل كأحلام الطفولة على تصريف الرغبات. فالحقيقة أن هذه الأحلام يجب أن تفسر أولا، أي تترجم؟ ولذا يجب علينا أن نعكس عملية التحريف، وأن نستبدل المحتوى الظاهر بالمحتوى الباطن، وذلك قبل أن نقرر إن كانت الصفات التي اكتشفناها في أحلام الطفولة تنطبق أيضاً على بقية الأحلام على اختلاف أنواعها

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن