مجلة الرسالة/العدد 722/تفسير الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 722/تفسير الأحلام

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1947


5 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

الرقابة في الأحلام:

استطعنا من خلال دراستنا لأحلام الأطفال أن نصل إلى معرفة شيء عن حقيقة الحلم وكيفية حدوثه وما هي خواصه الرئيسية ووظيفته فرأينا أن الحلم يعمل كوسيلة لإزالة المؤثرات العقلية التي تقلق النوم. ونحن وإن كنا لم نتمكن بعد من الوصول إلى معرفة شيء عن أحلام البالغين، اللهم إلا النوع الذي هو من نوع أحلام الطفولة، إلا إن النتيجة التي وصلنا إليها ليست مما يستهان به؛ فقد اتفق أننا في كل مرة نتوصل فيها إلى تفسير الحلم تفسيراً واضحاً نجد أنه عبارة عن إشباع لرغبة. وهذا الاتفاق لا يعقل أن يكون عرضياً أو عديم الأهمية. أما الأحلام التي من نوع آخر فقد فرضنا، اعتماداً على الشبه الذي بينها وبينا زلات اللسان، إنها عبارة عن بديل محرف لمحتوى مجهول لدينا. الخطوة التالية إذن هي أن نجتهد في معرفة شيء عن ماهية هذا التحريف الذي ينشأ في الأحلام.

هذا التحريف هو الذي يخلع على الأحلام هالة من الغرابة تجعلها بعيدة عن مدارك الفهم. وهناك أشياء كثيرة نريد أن نعلمها عنه؛ أولاً: كيف ينشأ هذا التحريف؛ وثانياً: ما هي وظيفته، وثالثاً: كيف يؤدي هذه الوظيفة.

دعوني أرو لكم حلماً قصته علينا سيدة معروفة في دوائر التحليل النفساني وهي الدكتور فون هج - هلموت - وهذا الحلم كما تقول الدكتورة رأته امرأة عجوز ولكنها مثقفة ثقافة عالية ولها مكانة محترمة بين الناس وهي لم تقم بتحليله لأنه على حد قولها لا يحتاج إلى أي تحليل بالنسبة إلى المحلل النفساني، كما إن الحالة نفسها لم تقم بتفسيره ولكن طريقتها في نقده وذمه تدل على أنها قد فهمت مرماه، فقد قالت: (تصوروا امرأة في الخمسين من عمرها لا هم لها بالليل والنهار إلا رعاية أولادها، تحلم مثل هذا الحلم الفظيع الذي لا معنى له!).

والآن دعوني أرو لكم هذا الحلم الذي يدور حول (الخدمة - الغرامية في الحرب).

قالت الرواية: رأت السيدة فيما يرى النائم أنها توجهت إلى المستشفى العسكري الأول وأبدت للحارس الذي يقف بالباب رغبتها في مقابل كبير الأطباء (وقد أعطته اسماً لا تعرفه) لأنها ترغب في عرض خدماتها على المستشفى. وقد ضغطت السيدة على كلمة (خدمات) بطريقة فهم منها الحارس إنها تقصد بها (الخدمة الغرامية) ولما كانت المرأة متقدمة في السن فقد أفسح لها الحارس الطريق بعد قليل من التردد، ولكنها بدلاً من العثور على كبير الأطباء وجدت نفسها في حجرة مظلمة تحتوي على عدد من الضباط وأطباء الجيش جلس بعضهم حول مائدة طويلة بينما ظل البعض الآخر واقفاً. وقد توجهت المرأة إلى أحد الأطباء وأفضت إليه باقتراحها، ففهم الطبيب تواً ما تقصد إليه. وقد كانت الكلمات التي استخدمتها في الحلم هي: (إنني وكثيرات غيري من نساء وفتيات فينا لعلى استعداد في سبيل الجنود والضباط أو الرجال أن. . .) وهنا انتهت الجملة بدمدمة غير واضحة. وقد ارتسمت على وجوه الموجودين علامات تجميع بين الخبث والارتباك رأت المرأة منها إنهم فهموا ما ترمي إليه فتابعت حديثها قائلة: (إني أعلم إن هذا التصميم من جانبنا يبدو لكم شاذاً غريباً ولكني جادة كل الجد فيما أقول، فالجندي لا يسأل في المعركة إن كان يرغب في الموت أو الحياة. ثم أعقب ذلك فترة رهيبة من السكون المطبق قطعه أحد الأطباء بقوله لها، وقد تأبط خصرها بذراعه (لنفرض يا سيدتي إننا حقاً قبلنا أن. . . (دمدمة) وهنا تخلصت المرأة من ذراعه وهي تتمتم (إنهم كلهم سواء) ثم أجابت: (يا للعجب! أنني امرأة عجوز وقد لا يحدث لي هذا أبداً؛ على إن هناك شرطاً يجب أن يراعي وهو مسألة السن، بحيث لا يسمح لامرأة عجوز وشاب يافع أن. . . (دمدمة) إن هذا يصبح في غاية الفظاعة). فهز الطبيب رأسه قائلاً: (إني فاهم تماماً ما تقصدين). غير إن بعض الضباط ضجوا بالضحك فطلبت السيدة أن تؤخذ فوراً إلى كبير الأطباء الذي تعرفه حق المعرفة، حتى يوضح كل شيء في نصابه. ولكن الدهشة عقدت لسانها عندما اكتشفت أنها لا تعرف أسمه. غير إن الطبيب مع ذلك أرشدها إلى الطريق الذي يؤدي إلى الطابق العلوي في أدب جم واحترام متناه وبينا هي تصعد درجات السلم إذ وصل إلى سمعها صوت أحد الضباط يقول: هذا تصميم عظيم بلا شك. وسواء أكانت عجوزاً شمطاء أم صبية حسناء فلها الشرف العظيم على أية حال). وهنا ملأها شعور بأنها لا تقوم إلا بتأدية أبسط ما يتطلبه منها الواجب، فأخذت تصعد درجاً لا نهاية لها.

وقد تكرر هذا الحلم مرتين في خلال بضعة أسابيع مع تغييرات طفيفة هنا وهناك قالت عنها الحالة إنها عديمة الأهمية ولا معنى لها إطلاقاً:

وهذا الحلم يشبه في تسلسله أحلام اليقظة، غير إنه هناك مقاطعة في بعض المواضع. كما إن هناك كثيراً من النقط الغامضة كان من الممكن توضحيها إذا استفهمنا من الحالة عنها، ولكن هذه الخطوة لم تتخذ كما تعلمون. وإنما الغريب الذي يلفت النظر في هذا الحلم هو وقوع كثير من الفجوات لا في السرد بل في المحتوى نفسه: فهناك آثار للمحو تبدو في ثلاثة مواضع من المحتوى، وحيثما توجد هذه الفجوات فالحادثة تقاطع (بدمدمة): وبما إننا لم نقم بتحليل هذا الحلم، فليس لنا في الحقيقة إذا توخينا الدقة أن نتكهن بشيء عن معناه. غير أن نستخلص منها بعض النتائج. كما إن الحديث الذي يقطع قبل الدمدمة مباشرةً لا يحتاج لإتمامه إلا إلى نوع واحد من التركيب. فإذا قمنا بإتمام هذا الأحاديث فإننا نحصل على رؤيا خيالية مؤداها إن الحالة، تلبية لنداء الواجب، مستعدة لأن تهب نفسها لإشباع الرغبات الجنسية للجند على اختلاف درجاتهم. وهذا شيء فظيع حقاً فهو نموذج للرؤيا الجنسية المكشوفة. ولكن الحلم لا يخبرنا بشيء من هذا، فحيثما احتاج الأمر إلى هذا الاعتراف وجدنا في المحتوى الظاهر دمدمة غير واضحة، كأنما هناك شيء قد فقد أو قمع.

أظن من الواضح جداً إن السبب في قمع هذه العبارات يرجع إلى طبيعتها البشعة. والآن أين نستطيع أن نجد شبيهاً لما يحدث هنا؟ أظنكم في غير حاجة إلى البحث بعيداً في هذه الأيام، فأنتم إذا تصفحتم اليوم أي صحيفة سياسية وجدتم أن ههنا وهنا بعض الفقرات قد حذفت من الأصل وظل البياض الناصع للصحيفة يطالعكم بدلاً منها. وهذا كما تعلمون من فعل الرقيب على الصحافة، فحيثما وجدت هذه الفواصل البيضاء فمعنى ذلك إن شيئاً ما وقع رفع من هذا الموضع لعدم موافقة الرقابة على نشره. وقد تأسفون على هذا العمل لأنه مما لاشك فيه أن هذا الموضع كان يحتوي على أهم ما في الجريدة أو على (زبدة) الأخبار كما يقولون

ولكن في أحيان أخرى قد يتنبه الكاتب مقدماً إلى العبارات التي من المحتمل أن تتعرض لقلم الرقيب، فيقطع عليه خط الرجعة بأن يحور في العبارة تحويراً يجعلها لا غبار عليها، أو قد يكتفي بأن يلمح من بعيد إلى ما يريد أن يكتبه فعلاً. وفي هذه الحالات لا توجد مواضع بيضاء خالية من الكتابة وإنما في إمكاننا أن نستنتج من طريقة اللف والدوران التي يستخدمها الكاتب أو من تعبيراته الغامضة أنه كان يكتب وهو يخشى قلم الرقيب.

والآن نستطيع أن نقول بالمثل إن الأحاديث التي حذفت من الحلم والتي جاءت متنكرة على شكل دمدمة كانت هي الأخرى ضحية لنوع من الرقابة: ونحن في الواقع نستخدم الاصطلاح (رقابة الأحلام) ونرجع جزءاً من التحريف إلى فعلها به فحيثما توجد فجوات في المحتوى الظاهر فإننا نعرف على الفور إن الرقابة هي المسؤولة عن ذلك. بل إننا نذهب إلى أكثر من هذا؛ فإن رأينا وسط العناصر الواضحة الجلية من الحلم عنصراً غامضاً غير واضح المعالم أو لم تستوعبه الذاكرة جيداً قلنا إن هذا دليل على عمل الرقابة. على أن الرقابة قلما تتخذ هذه الطريقة الواضحة المكشوفة كما هو الحال في الحالم الذي يدور حول (الخدمة الغرامية) وإنما تستخدم في أغلب الأحيان الطريقة الثانية التي ذكرتها لكم وهي التحوير في العبارات أو الاكتفاء بالإشارة والتلميح بدلاً من الإفاضة والتصريح.

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن