مجلة الرسالة/العدد 722/من مذكراتي اليومية

مجلة الرسالة/العدد 722/من مذكراتي اليومية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1947


يوم الأحد 23 فبراير سنة 1947:

اختلف أطبائي الخمسة في شرح ما بي، ولكنهم اتفقوا على أن أذهب إلى حلوان فأنقع في هدوئها ودفئها أعصابي وأوصابي. ففي صباح هذا اليوم العابس القر انتقلت إلى هذه المدينة ونزلت فندقاً من فنادقها الكبرى، ثم قطعت ما بيني وبين دنيا الناس فلا أشغل ذهني بفكر ولأيدي بعمل - هذا الفندق الغريق في الضوء والسكون أشبه الأشياء بالدير الجبلي في روعته الأخاذة ووحشته القابضة: وهؤلاء النازلون به المستشفون فيه أشبه الأحياء بالرهبان المنقطعين في معيشتهم الرتيبة وعزلتهم الرهيبة. إنه كالدير في غير بساطة ولا زهادة؛ وإنهم كالرهبان في غير ورع ولا عبادة. هم أزواج ومزاج من جاليات الأمم الذين انتجعوا مصر انتجاع البدء ومساقط الغيث، ففيهم اليوناني والطلياني واليهودي، وفيهم كذلك خلق عجيب من جيراننا الأدنين يلبسون القبعة حتى لا يقال إنهم مصريون، ويتكلمون الفرنسية حتى لا يتهموا بأنهم شرقيون. وأكثر هؤلاء الأخلاط كهول وكهلات يشكون ذات الصدر أو وهن الأعصاب أو وجع المفاصل أو داء الملوك؛ فمنهاجهم اليومي أن يغدوا إلى العين الكبريتية فيستحموا، أو إلى العين المعدنية فيشربوا، فإذا متع الضحى رجعوا فرادى وثناء حتى يتجمعوا حلقاً حول الموائد تحت مضلات الحديقة وفوق شرفات الفندق. فهنا جماعات العجائز السمان والعجاف جلسن يثرثرن وفي أيديهن إبرة الحياكة تدخل وتخرج، وفي أفواههن آلة الغيبة تتحرك وتهرج، فلا يزلن معظم النهار بين أيد تحوك، وألسنة تلوك، وأهدافهن أعراض أولئك الحسان القليلات اللائى جلسن متفرقات يهدهدن أجسامهن وأحلامهن على الكراسي الوثيرة الهزازة.

وهناك جماعات الكهول الثقال والخفاف يتراطنون بفضول الكلام وغث الحديث ولؤم الوقيعة، وكل منهم يتفغل عجوزه المراقبة من بعيد ليخالس النظر إحدى أولئك الجميلات المنفردات فلا يرى منها بالاً يعي ولا طرفاً يجيب!

كان مرضي يمنعني القرار في مكان واحد، فكنت أسترق السمع حيناً إلى جماعات النساء، فلا أجد حديثهن يخرج عن أن هذه الفتاة الداخلة عشيقة الغنى فلان تاجر القطن وقد أخفاها عن زوجه في هذا الفندق، وهو يزورها من الإسكندرية كل أسبوع فيقضي معها الليلة أ الليلتين؛ وإن هذه المرأة الخارجة أرملة لعوب وصلت أسبابها بالمرابي الأرمل فلان؛ فهو يلقاها كل عصر في (دار الينبوع) أو في (الحديقة الصينية)؛ وإن هذه المستلقية على الكرسي الطويل يهودية بذلت سريرها لصديق زوجها فانتحر الزوج وأفلس الصديق؛ وهي الآن في حضن صاحب سينما. . .

ثم أسترق السمع حيناً إلى جماعة الرجال فلا أجدهم يخوضون إلا في الهجر والنكر، ففلان أثرى بالسرقة، وفلان يتجر بالفحش، وفلان قضى بهذا الفندق شهرين ثم لم يعط الخدم يوم سافر إلا قرشاً صاغاً كان من نصيب الخادم الذي نقل له الحقائب. فإذا أفضى بهم الحديث إلى قضية المصريين والإنجليز مطوا الشفاه، وعوجوا الأفواه، وقاموا على أنفسهم خلطاً أسود من الغمز بنا والطعن فينا، وأخونا الشرقي المقبع الذي يناقلهم الحديث لم يرد أن يقول لهم ولنفسه: (حسبكم! فإن لحم أشداقكم التي تلوونها بالبذاء، وشحم أعناقكم التي تثنونها بالكبرياء، هما من ضيافة هذه البلاد!) ولكن المجتمع الأجنبي هنا كأكثر المجتمعات الأجنبية في كل مكان: نسيج من عمل الشيطان، لحمته الجناية على الأخلاق، وسداه الزراية على مصر.

أحمد حسن الزيات