مجلة الرسالة/العدد 722/من معجزات القرآن

مجلة الرسالة/العدد 722/من معجزات القرآن

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1947



تفسير الآيات الأولى من سورة الروم

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

لابد لتفسير الآيات الكريمة التي افتتحت بها سورة الروم من مقدمة تاريخية تبين الحوادث التي أشارت إليها هذه الآيات.

- 1 -

كان غربي آسيا، في جملته، متنازعاً بين الدول الفارسية المختلفة التي قامت في إيران وبين الدول الأوربية التي مدت سلطانها إلى آسيا. وقد استمر النزاع في هذه البقاع قروناً كثيرة أكثر من ألف عام.

فدولة الأكمينيين، الدولة الفارسية الأولى التي أقامها كورش في منتصف القرن السادس قبل الميلاد وأزالها الإسكندر المقدوني حوالي سنة 330 ق. م، هذه الدولة نازعت دولة اليونان حقباً، وحروب دارا وخلفائه في آسيا الصغرى وبلاد اليونان معروفة مشهورة.

والدولة الأشكانية التي نشأت في إيران بعد الإسكندر حاربت الرومان في هذه البقاع عصوراً طويلة.

والدولة الساسانية التي قامت في إيران سنة 226م وبقيت حتى أزالها الفتح الإسلامي نازعت الرومان ودولة الروم الشرقية التي تسمى الدولة البيزنطية ودام بينهما النزاع إلا فترات قصيرة حتى زالت الدولتان كلتاهما عن آسيا بالفتوح الإسلامية.

- 2 -

والحادثات التي تشير إليها فاتحة سورة الروم هي خاتمة الجلاد الطويل والحروب المتمادية بين الدولتين.

وخلاصة هذه الحادثات على طولها واضطرابها فيما يأتي:

كسرى برويز حفيد كسرى أنو شروان، من أعظم ملوك الفرس وهو آخر ملوكهم العظام، ولي الملك سنة 590م بعد قتل أبيه هرمزد أثناء ثورة قائد فارسي عظيم اسمه بدام جوبين.

ولما تولى برويز العرش حاول إصلاح هذا القائد فاستعصى عليه وحاربه حتى اضطره إلى دخول مملكة الروم، وقد استنجد الإمبراطور موريس فأمده بجند رده إلى عرشه فاستحكمت المودة بين الملكين. فلما قتل موريس سنة 602م شن كسرى الحرب على فوكاس خليفة موريس. وتوالت وقائع زلزلت دولة الروم الشرقية زلزالاً شديداً.

توالت هزائم الروم في آسيا الصغرى والجزيرة وشمالي الشام حتى فزع الروم، واستغاثوا هرقل (هركليوس) أبن وإلى أفريقية فأقبل إلى القسطنطينية فاختير إمبراطوراً مكان فوكاس.

وحاول هرقل جهده أن يصد الفرس، ولم يدخر وسعاً في حربهم فلم يستطع لهم رداً. وامتدت فتوح الفرس إلى الجنوب حتى استولوا على دمشق سنة 614 واتخذوها مركزاً سيروا منه الجيوش إلى أرجاء مختلفة حتى فتحوا بيت المقدس بيجوش جرارة فيها ستة وعشرون ألفاً من اليهود وبلغت كبرياء كسرى غايتها فأخذ الصليب الذي يزعم النصارى إن المسيح صلب عليه، وكتب إلى هرقل كتاباً خلاصته:

(من كسرى بروبز رب الأرباب إلى عبدة الحقير هرقل. تزعم إنك تعتمد على المسيح فلماذا لا يخلص المسيح بيت المقدس من يدي. ولماذا لم ينقذ نفسه من أيدي اليهود حينما صلبوه).

ثم امتد الفتح إلى مصر فظفر بها الفرس بعد تسعة قرون من خروجهم منها أيام الإسكندر المقدوني.

وفي العام التالي صمم الفرس على فتح القسطنطينية ولم يكن بينهم وبينها إلا المضيق، وحالفوا الأوار على أن يغزوها من تراقيا.

وزاد أمر الروم إضطراباً، وبلغ يأسهم أن عزم هرقل على الفرار إلى قرطاجة لولا أن عرف الروم أمره فثار الناس واستحلفه البطريق في كنيسة آياصوفيا ألا يبرح المدينة على أية حال.

في أثناء هذه الهزائم المتوالية الماحقة التي توالت على الروم عشرين عاماً، وحوالي سنة 615 حينما غلب الروم في أدنى الأرض إلى بلاد العرب، في أرض الشام وهي الهزائم التي أهمت العرب نزلت الآية الكريمة: ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين الخ. وكان خبراً عجيباً، أنكره مشركو العرب حتى راهنوا على كذبه.

روى الطبري وغيره إن أبا بكر رضي الله عنه راهن أبي بن خلف على خمس إبل إلى خمس سنين فأمره الرسول صلوات الله عليه أن يزيد في الرهان ويمد الأجل فراهنه على مائة ناقة إلى تسع سنين.

- 3 -

في سنة 622 أعد هرقل العدد لحرب الفرس، وتحمس النصارى لمجاهدة العدو الذي استولى على بيت المقدس وأخذ الصليب الحقيقي. . . وحقر النصرانية وسفه عليها هذا السفه، وبذل القساوسة الجهد حتى صهروا آنية الكنائس من الذهب والفضة يتخذونها عدة للحرب.

ولم يكن لهرقل بقية من أمل إلا في أسطول بقى لهم، فأبحر في جيش والفرس مشرفون على الخليج ينظرون إليه حتى نزل في أسوس على ساحل الأناضول.

وكان هذا أول انتصار للروم بعد موت موريس أي منذ عشرين عاماً.

ثم توالى النصر في آسيا الصغرى وأرمينية إلى أن عبر هرقل الفرات شطر الغرب والجنوب سنة 625.

وحاول كسرى برويز أن يوقع بالروم في حاضرة ملكهم، فحالف الأوار وسير جيشاً لمحاربة هرقل وآخر لحصار القسطنطينية سنة 626 مع الأوار. فلقي الجيشان كلاهما الخيبة والهزيمة.

وأغرى هرقل الظفر المتتابع فعزم على أن يغزو كسرى في مدينته دستكبرد وهي على تسعين ميلاً إلى الشمال من المدائن عاصمة الدولة. وكانت وقعة الزاب في 12 ديسمبر سنة 627 ثم فر كسرى، وقابلته العاصمة بالثورة عليه وخلعه. ثم حبس في بيت الظلام ولا زاد إلا الخبز والماء. وبالغ ساجنوه في إهانته. وقتل كثير من أولاده أمامه ثم قتل هو قتلة فظيعة. وذلكم كسرى برويز الذي أرسل إليه رسول الله كتاباً فمزقه (فقال اللهم مزق ملكه كل ممزق).

وخلفه على العرش أبنه شيرويه (قباذ الثاني) فصالح الروم على أن يرد إليهم كل ما فتح الفرس من البلاد التي في سلطان الروم، وعلى أن يرد الصليب. وقد سار هرقل بالصليب إلى بيت المقدس فوضعه مكانه في شهر سبتمبر سنة 629. وكان يوماً عند النصارى مشهوداً، وتمت الغلبة للروم.

كان انتصار الفرس في الشام حوالي سنة 615 وبعد بضع سنين شرع الروم يهزمونهم سنة 622 وتوالت عليهم الهزائم حتى قتل برويز وصالح أبنه مصالحة المغلوب على أمره.

وذلك تأويل الآية الكريمة: (وهم من غلبهم سيغلبون في بضع سنين).

ونرجع إلى رهان أبي بكر وأبي بن خلف.

روى أن أبا بكر حين هاجر أخذ عليه كفيل وإنه حين انتصر الروم أخذ الرهن من أولاد أبي بن خلف.

وهنا نقول: لماذا اهتم العرب بحوادث الروم والفرس ولماذا أنزل فيها قرآن؟ يقول المفسرون إن مشركي العرب فرحوا بانتصار الفرس وهم أصحاب أوثان كالعرب المشركين وبانهزام الروم وهم أهل كتاب كالمسلمين، وقالوا للمسلمين سنغلبكم كما غلب الفرس الروم. فاهتم المسلمون وأخبروا رسول الله فنزلت الآية الخ.

ولا أحسب إن اهتمام العرب بالأمر كان لهذا بل أحسب، والله أعلم، إن العرب قلقوا لغلبة الفرس على الشام وهي منقلبهم للتجارة، وقد ألفوا الروم فيها، واتصلوا بهم بالتجارة وغيرها واتخذوا من عامتهم وخاصتهم أصدقاء وأعواناً، وتجاراً يعاملونهم ويبايعونهم، فكان الروم أقرب إلى عرب الحجاز ومن يتصل بهم من قبائل الشام وفلسطين، وكان العرب بهم أعرف، وبينهم وبين الروم من الأسباب، ولهم فيهم من المنافع ما جعلهم يشفقون من غلبة الفرس على الشام، وزوال سلطان الروم عنها، ثم كان انهزام الروم انهزام حلفائهم وأنصارهم من عرب الشام ولهم بعرب الحجاز صلات.

(يتبع)

عبد الوهاب عزام