مجلة الرسالة/العدد 723/لوازم الحديث

مجلة الرسالة/العدد 723/لوازم الحديث

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

كان الحديث عن آفاك الأرمني الذي قيل إنه طبيب روحاني يشفي الأمراض المستعصية ويلمس المريض مرة أو مرتين فينهض سليما معافى.

وكان المتحدث رجلا يصدق من الغرائب والمفارقات بمقدار ما فيها من مفاجأة الناس ومصادمتهم بالمستبعد المستغرب من الأمور. . . له في الحديث لازمة هي كلمة (لا) النافية. يقولها عشرين أو ثلاثين مرة في الجلسة الواحدة، ويقولها لمن يوافقه ومن يعارضه، ولمن يقبل كلامه على علاته ومن يرفضه (على طول الخط) كما يقولون. ويخيل إليك وأنت تستمع إلى حديثه إنه يفضل إنكارك كلامه على موافقتك وتأمينك. لأن الإنكار يفتح له باب الجدل والاستمتاع بتلك الكلمة المحبوبة لديه، البغيضة إلى الناس اجمعن، وهي كلمة (لا) النافية ومرادفاتها في اللغة العربية.

قال: إن أفاك شفى مشلولا كسيحا لا ينهض على قدميه.

قالها والتفت إلى متوقعا أن أنكر منه هذا الخبر، واجزم باستحالته أو استبعاده.

فخيبت ظنه وقلت: يحصل. نعم يحصل في الزمن القديم وفي هذا الزمن. وقد حصل على أيدي الأطباء الذين لا ينتحلون لأنفسهم قدرة روحانية ولا كرامة من كرامات الأولياء. وحصل في عهد العباسيين قبل هذا العهد الحاضر الذي عرف الناس فيه علم العلاج النفساني وسلكوه في عداد العلوم الطبيعية. وذكرت قصة الجارية التي كان الرشيد يحبها فرفعت يدها ذات يوم فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها، وعولجت بالتمريغ والدهن فلم ترجع يدها إلى حركتها. فلما استدعى ابن بختيشوع لعلاجها قال الرشيد: إن لم يسخط على أمير المؤمنين فلها عندي حيلة: تخرج الجارية إلى هاهنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده فأمر الرشيد بالجارية فأحضرت، أسرع إليها الطبيب وأوثق يدها الطليقة وأمسك ذيلها وكأنه يريد أن يكشفها. فانزعجت الجارية وبسطت يدها المعتقلة إلى أسفل. وكان ذلك شفاءها.

هذا وأشباهه جائز في الطب مشاهد في الواقع، والمعمول فيه على استفزاز القوى الحيوانية من طريق المؤثرات النفسانية. فإذا كان آفاك يملك القدرة على استفزاز هذه القوى في نفوس معتقديه فلا مانع فعلا أن يشفي بعض الأمراض بهذا النحو من العلاج.

وليس المهم في مقالنا هذا هو حديث آفاك الأرمني وان كان حديثه ليجري الآن على كل لسان. وإنما المهم (لا النافية) على لسان صاحبنا الذي آمن بآفاك ليقولها ويسمعها من سامعيه!. . فقد ظننت أنني أخذت عليه الطريق وانتزعت هذه الكلمة من بين شدقيه. فإذا هي والله أول كلمة علق بها على هذه القصة، وإذا به يفتح فاه ليقول: لا. ليس هذا قصدي. . .

قلت لا. بل ينبغي إن يكون هذا قصدك. ماذا تعني أيها الرجل (بلا) هذه التي تفاجأ بها الناس موافقين أو مخالفين؟ قلت إن آفات يشفي المرضى فقلنا لك: يحصل. فأين موضع (لا) هنا لا حرمك الله سماعها من كل لسان؟

فانقبض واستخزى. وكانت عنده بقية أدب في الخطاب فقال معتذرا: والله إنها لازمة. ولازمة ذميمة والحق يقال. ولكن ما العمل في العادة وسيئاتها قبحها الله!

وخطرت لي لوازم الكلام عند اكثر المتحدثين؛ فسألت نفسي: أيها يا ترى خير وأفضل. (لا) هذه التي تقال في كل جواب؟ أو (نعم) ومرادفاتها التي تعود بعض الناس أن يعقبوا بها على النقيضين في مجلس واحد؟

- حبذا لو خلت مصر من الأحزاب.

- صحيح.

- ولكن الأحزاب ضرورية في الأمم الديمقراطية.

- صحيح والله!

- إلا إن الديمقراطية قد تستغني عنها في بعض أوقات التطور والانتقال.

- معك حق. فهذا صحيح.

فكم من المتحدثين يستمع إلى أمثال هذا التعقيب في كل يوم وبين كل طائفة من الناس؟ وكم تسوءهم هذه الموافقات وهم ينتظرون الشجاعة الأدبية من ذوي الرأي فلا يرون بينهم وبين الجهلاء الإمعات من خلاف؟

إن كانت هناك (نعم) شر من (لا) فهذه النعم شر من جميع اللاءات وجميع أدوات النفي على الإطلاق.

ومن اللوازم ما هو أعجب من الموافقة والإنكار على هذا المنوال؛ لأنها لازمة تلقى على المستمع تهمة لا ذنب له فيها ولا مناص له من دفعها.

تلك هي لازمة (على رأيك) عند بعض الناس.

يحدثك عن رجل لا تعرفه ولعلك لم تذكره قط في حياتك، فإذا به يقول: (على رأيك إنه رجل لئيم). . . ويمضي في تحميل رأيك المظلوم تبعات هجائه وأنحائه وأنت لم تر شيئا مما اتهمك برؤيته، ولم يفكر هو بعقله في إسناد التهمة إليك وإنما جرت التهمة (البريئة) على لسانه من حيث لا يريد.

وحضرت مجلسا فيه واحدا من أصحاب هذه اللازمة وهم غير قليلين. فصرح أحد السامعين الذين اتجه إليهم الحديث مستغيثا:

يا شيخ حرام عليك! متى وصفت الرجل بهذه الصفات؟ وهل هو رأيك أو رأيي الذي تحكيه وترويه؟

وضحك صاحبنا وكان ظريفا حسن التخلص. فراح يقول: هو التواضع يا فلان. هو التواضع. وهل يليق بأدب الحديث إن أقول: هذا رأيي! هذا رأيي في كل ما أرويه واحكيه؟

ومن اللوازم ما يبعث الضحك ولا يبعث الفزع كهذه اللازمة التي يلازمها الاتهام، لا قد يضحك الحزين إذا غلبت عنده روح الفكاهة على روح الجد والصرامة.

من هذه اللوازم لازمة كانت لأحد القضاة المشهورين يرددها وهو ذاهل عما يسمع وذاهل عما يعنينه. وهي لازمة (برافو برافو) التي يتخلص بها من التفكير فيما يقول.

ولقي شابا كان يعرف أباه فسأله: أين أنت الآن؟ قال: موظف في هذا الديوان. . .

قال: برافو برافو. وأين أبوك؟

قال: تعيش. . مات منذ شهور.

فلم يلبث إن حيا أباه تحية الاستحسان المعهودة. لأنه مات!

لكن اللازمة البغيضة حقا تلك اللازمة التي تضطرك إلى الجواب على كل فقرة من فقرات الحديث كأنك في محضر تحقيق

- أخذت بالك؟ (فاهمني)؟ ولابد من الجواب، ولابد من انتظاره جوابا ملفوظا لا يغنى عنه الإيماء ولا السكوت.

ومن هؤلاء من يبدي لك الرأي ثم يسألك:

هل أنا غلطان؟

فتقول مثلا: معاذ الله. بل أنت على صواب.

فلا يكتفي بذلك ويعود سائلا: إن كنت غلطان قل لي. هل أنا غلطان بالله؟

لا لست بغلطان.

لا لا. إن كنت غلطان فقل لي ولا تخف الحقيقة عنى. إنني رجل صريح. أليس هذا الواجب؟

ويكررها: أليس هذا الواجب؟ أليس هذا الواجب؟ حتى تفض المشكلة بقسم غليظ. . . فيصدق انك قد آمنت بأنه ليس (بغلطان).

وقد تكون اللازمة التي من هذا قبيل عقلية تأتى من نقص الوعي والإدراك ولا يقف بها الأمر عند حب التكرار والإعادة مع فهم الحديث المعاد.

تسأل أحدهم: هل لقيت فلانا؟

فإذا هو قد أعد كلمة الاستفهام في منتصف السؤال وبادرك مستفهما: نعم؟

- هل لقيت فلانا؟

- فلانا؟

- أي نعم فلان!

ما له؟ أو ما باله؟ أو علام تسال عنه.

ولا يعي إنك تسأله عن لقائه إلا بعد السؤال الثالث أو الرابع على هذا المنوال. وهي عادة غالبة على الطبقة الجاهلة في بلاد الريف على الخصوص مرجعها بطئ الحركة الذهنية وإهمال الكلام واعتباره لغوا لا يرتبط بالتفكير ولا يحمل معناه إلا مع التوكيد والترديد.

وبعض هذه اللوازم لازم في الحديث المفيد، لأنه يعينك على تتبع الحديث والوقوف على مراحله وغاياته. كلازمة (نهايته) في موضوعها الصحيح، أو لازمة (على كل حال) أو (لا تؤاخذني) إذا كانت تهيئ الذهن حقا لسماع شيء يحتاج إلى الاستئذان أو طلب السماح. فهذه اللوازم في المحادثات أشبه بعناوين الفصول والأبواب في الكتب والمخطوطات.

ولكنها قد تتواتر وتتكرر حتى تفقد معناها ولا تتعدى أن تكون حشوا بغير دلالة. . .

ومن قبيل ذلك فنان قدير في فنه تلازمه كلمة (ثانيا) حين يقيم الأدلة على صحة فكرة أو مذهب من المذاهب الفنية. فإذا (بثانيا) هي أولا وثانيا وثالثا ورابعا إلى آخر العشرة، أو تزيد!

وكفى بمراقبة هذه اللوازم إنك تستمد منها سببا للإصغاء إلى الأحاديث سواء منها ما استحق الإصغاء وما استحق الأعراض. . . لأنك تسمع على الأقل (لوازم) تصلح للتفكه وتصلح للدلالة على الفوارق بين (الشخصيات) والفوارق بين أساليب الألسنة وحركات العقول.

عباس محمود العقاد