مجلة الرسالة/العدد 725/من أحاديث الإذاعة

مجلة الرسالة/العدد 725/من أحاديث الإذاعة

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 05 - 1947



في الترام

للأستاذ علي الطنطاوي

يا سادتي ويا سيداتي. كنت راكباً أمس في الترام، أفكر في موضوع أتحدث به إليكم، فأسليكم وافديكم، فلا يكون الحديث لذيذ بلا نفع، ولا نافعاً بلا لذة، فكان يطير الموضوعات من رأسي، هواء بارد يلفح الوجوه، فيبلغ منها مثل ما تبلغ السياط، فقمت إلى الباب لأغلقه فاستعصى علي، فشددته فتأبى فجربت فيه الوسائل فما أجدت، فتركته وقعدت. وصعد شاب مفتول العضل، عريض المنكبين، بادي القوة، فجذبه فما استطاع فأمسكه بكلتا يديه، ووضع قوته كلها في ساعديه، حتى احمر وجهه وانتفخت أوداجه، والباب على حالة، فأغضى بصره حياء منا أن ينظر في وجوهنا وقعد. وركب بعده شيخ وكهل وامرأتان، لم يكن فيهم إلا من جرب مثلما جربنا، وخاب كما خبنا. . .

فلما رأيت ذلك، قلت مقالة أرخميدس في أول الدهر: (أوريكا)، وجدت الموضوع إني سأجعل موضوع حديثي (في الترام)، فالترام يا سادة معرض الناس، ومرآة الأمة، وهو مسلاة لمن نشد تسلية، ومدرسة لمن أراد استفادة، وهو سينما أبطالها أناس صادقون، لا (يمثلون) رواية وضعها كاتب، ولكن يعرضون فطرهم التي فطرهم الله عليها، وأخلاقهم وطباعهم وكل صغيرة (في الترام) تمثل كبيرة في الحياة: هذا الباب المغلق مثلاً عنوان فصل كبير من فصول حياتنا، ونقص في تربيتنا، إذ ربما كان دفاع الباب اقل من قوة اثنين منا، ولكنا أتيناه متفرقين، كما نفعل في كل أمر نرومه، وإصلاح نطلبه، نعمد له فرادى، ونقصده أشتاتاً، فلا نصل إلى المقصد، ولا نبلغ غاية، قد استقرت (الفردية) في سلائقنا، فترى الواحد منا يعمل ما لا تعمله الجماعة، فإذا اجتمعنا أضعف بعضنا بعضاً، أو استبد بعضنا ببعض، وإذا نحن أردنا التخلص من هذا، قفزنا من أول الخط إلى آخره، فجاوزنا حد الاعتدال، وتعدينا نطاق الممكن، وأردنا أن نبني الدار قبل أن نعد الحجارة، ونصلح الأمة قبل أن نصلح الأفراد، كأن الأمة مخلوق مستقل، له طول وعرض وعمق وارتفاع. لا يا سادة، ما الأمة إلا أنا وانتم وهم وهن، فإذا لم يصلح كل منا نفسه لم يكن للامة صلاح.

هذا عيب كبير فينا دل عليه الحادث الصغير، وما أكثر ما تدل الصغائر!

ركبت الترام مرة، وكان مزدحماً يغص براكبيه، فلا تبصر لون أرضه، ولا تعرف من الازدحام طوله من عرضه، وكان على المقعد إلى جنبي شيخ مسن احسبه قد دخل في السبعين، وكان معه لبن سائل في صحن ضحل لا غطاء له ولا قعر، فكلما اهتز الترام، أو تحرك الناس، طار رشاشة على ثوبي الذي كنت أتجمل به أيام الحرب، ولا أجد وأنا موظف السبيل إلى غيره، فكنت أضم ثيابي إلي، وأحاول أن ابتعد عنه، ليدرك أذاه لي فيدفعه عني، فلا يدرك ولا يبالي، فقلت له: (يا عم، قد آذيتنا. . . ولوثتنا بالحليب. . .) فما كان منه إلا انه صرخ تصريخاً جمع على أهل الترام، وقال: (اتق الله، ما هذا الكفر؟ ما هذا الجحود؟ ألا تعرف قدر النعم؟ إنه حليب طاهر، هل هو نجاسة؟ حرام عليك).

فتركته ودخلت بين الناس، ووقفت مع الواقفين، وقد كادت تتلامس الوجوه، وتتلاقى الأنفاس، وكدت أختنق، وإذا بشاب على آخر طراز. . . في فمه سيكار أسود ضخم كأنه ذنب العضرفوط، يخرج منه دخان كان رائحته ضراط الخنافس، فوقف أمامي، حتى أوشك أن يحرق بناره انفي، فقلت له: (انتبه يا أخي)، فصاح: (وأين الحرية الشخصية؟ وبأي حق تكلمني؟) وأمثال هذا الهذيان. . .

فرأيت في ذلك مثالاً لعيب آخر من عيوبنا، إننا نأخذ المسائل مقلوبة، ونفهمها على أضدادها، فلا الشيخ فقه الدين وعرف الحلال من الحرام، قبل أن يعظ ويفتي، ولا الشاب عرف المد نية، وأدرك أحوال أهلها، قبل أن يهذي ويتفلسف، الدين يحرم إيذاء الناس، والمدنية تمنع التدخين في الترام، ولكننا نأخذ ما لا نعرف، ونخوض فيما لا نعلم، فكان في حياتنا الشيء وضده، اجتمعت فيها المتناقضات، وائتلفت المختلفات، كما يكون في عصور الانتقال كلها. . .

وصعدت الترام مرة عجوز متصابية متبرجة، كأن وجهها خريطة حربية، من كثرة الخطوط المرسومة عليه والألوان، ففوق عينها خطان أسودان مقوسان، وعلى خديها بقعتان حمراوان، وشفتاها كأنهما قد غمستا بالماء المغلي فاحترقتا ثم نزفتا، فاجتمع عليهما الدم متجمداً فظيعاً، فلم تعود شفتين ولكن صارتا والعياذ بالله، آفتين مشوهتين، وأظافر يديها كأظافر ذئبة افترست حملاً، فهي طويلة محمرة مخيفة، فوقفت في غرفة الرجال وهي مملوءة بالناس، والى جنبها النساء فارغة مفتوحاً بابها فنظر الناس إليها معجبين، ثم ردوا أبصارهم عنها منكرين، فقالت: (ما فيكم واحد مؤدب، يقوم للست يا عيب الشوم).

فقال لها أحد الحاضرين (تفضلي، هذه غرفة النساء خالية) فنفضت يدها في وجوهنا، وقالت:

- أنتم (متأخرين) كثير، (متوحشين) ما تعلمتم التمدن.

ورأيت مرة شابين دخلا علي غرفة الترام، يلبسان أردية بلا أردان، وسراويل تكشف السيقان، فألقى أحدهم بنفسه على المقعد فاضطجع اضطجاع العروس على سريرها، ورفع الثاني رجلاً فوق الرجل فعل الراقصة على مسرحها، ثم تحدثا حديثاً مخلوطاً فيه العامية والفرنسية والإنكليزية، بالضحكات الخليعة والإشارات المخنثة، تحدثا في الأدب، فكان من رأيهما أن الزيات والعقاد والمازني تحتاج كتاباتهم إلى ترجمان، لصعوبتها وأنها لا تفهم بلا قاموس، ثم ذكرا الامتحان والدروس، ومع الحب والغرام، وأماكن اللهو والتسلية. . . حتى إني لم اعد أطيق الصبر فنزلت وركبت تراماً أخر. . .

هذان مثالان لطبقة من نسائنا ورجالنا، يبديها الترام إن أخفتها البيوت، طبقة هي في الأمة كالديناميت في البناء، والسم في الجسم، والقذى في العين، وهي وان تكن نادرة فينا، ولم تكن تخلو أمة من مثلها - لا ينبغي للمصلحين منا أن يغفلوا عنها، ويهملوا إصلاحها، لأننا أمة تستعيد اليوم حريتها، وتبدأ جهادهاوتسعى لتصل ما انقطع من أمجادها، ولا ينال المجد إلا بشاب أولي خلق وعلم، ونساء أولات عقل وعفاف.

ولكن في الترام، في مقابل هذه الصور التي لم تؤلم وتسوء صوراً تسر وتفرح، لقيت فيه أمس فلاحاً من فلاحي مصر بجلبابه و (طاقيته) وزيه، وكان معي صديق يتكلم في الجلاء عن مصر، وفي جامعة الدول العربية، فاندفع والله هذا الفلاح في حديث عن السياسة والنزاع بين الدول الكبرى، وموقف هذا الشرق الأدنى، وما يتوقع له، وفصل القول في حالة مصر والشام والعراق والمغرب والحجاز واليمن، فكانت محاضرة مرتجلة استمرت اكثر من نصف ساعة، مشى فيها الترام من الفسطاط إلى شبرا، ولو أن سياسياً دعا الناس إلى أفخم ناد من النوادي، فألقى عليهم مثلها لخرجوا معجبين.

ولقيت في الترام فلاحاً آخر، مر به جابي الترام فناداه، (ياأفندي) فقال له: (ما فيش أفندية دي الوقت، الفلاحين هم أسياد البلد)! يقظة عجيبة، وكلام عظيم، وسيكون أعظم يوم يصير الفلاحون أسياد البلد حقاً، يوم لا يبقى في مصر شركة أجنبية، ولا مصرف أجنبي، يوم لا يبقى في مصر شحاذ مصري، يوم يكون المصريون أعلم من الأجانب وأنظف منهم وأحرص على الصحة وأفهم للحياة وأسبق إلى المغامرة، وسيجيء هذا اليوم قريباً بحول الله.

أيها السادة والسيدات.

إن الترام يكشف أخلاق الناس، وطبائع البلدان، وهو مدرسة يرى المرء فيها القبيح من جاره فيتركه، والحسن فيتعلمه ويستمع الملاحظ المدقق بعد هذا كله بفصول (الفلم) البشرى المعروض عليه

هذا فصل من الرواية: رفيقان يدعان الأمكنة الخالية، ويجلسان حولك هذا عن يمينك وهذا عن شمالك، ويتحدثان في أمورهما الخاصة بهما، من فوق رأسك، لا يحفلان بك ولا يباليانك، كأنما أنت كرسي أو متكأ أذنيك شباك يتكلمان منه. . .

وهذا فصل أخر: رجل طويل عريض، لا يطيب له أكل (بذر البطيخ) إلا في الترام، فلا يزال يقضمه بأسنانه، ويقذف قشره بلسانه، فإن لم يصب به الناس، آذاهم بقبح منظره، وسوء أدبه. . .

وهذا رجل يأتيك من خلفك وأنت واقف في زاوية الترام، يرجوك أن تفسح له ليمر، فإذا انزحت له اخذ مكانك وتركك حائراً لا تدري أين تقف!

وهذا عامل بثيابه الملوثة بالزيت المعدني، أو الملطخة بالطين يحك بك وأنت بثيابك البيض فلا يدعك حتى ينقل إليك زيته وطينه، فان تكلمت قال: ليه؟ هو إحنا مش بني آدم!

وهذه امرأة ضخمة عريضة القفا، تصعد ومعها ولد على ظهرها، وولد تسحبه بيدها، وسلة كبيرة فيها سمك وبصل وكراث، فتقعد على الارض، فتشغل مكاناً كان يقف فيه عشرة رجال، ثم لا تزال تسب هذا لأنه داس على ثوبها، وتشتم ذاك لأنه مس ولدها.

وهذا عجوز ثرثار لا يفتأ الطريق كله، يذم هذا الشعب لأنه لم يتعلم النزول من مقدم الترام، والركوب من آخره ويعجب من جهلة وقلة تربيته، ولا يزال كذلك حتى يصل إلى محطته، فينسى محاضرته الطويلة، وينزل من خلف لا من قدام وهذا رجل منتفخ كأنه الديك الرومي، مزهو كالطاووسيقعد أمامك فلا يرضيه إلا يمتد ويبرز بطنه ويؤخر رأسه ويرفع رجله في وجهك، حتى يقابلك نعلها، ويكاد يمسك طرفها. . .

وهذا شيخ له عمامة وعذبه، لا يحب أن يذكر الله إلا على سبحة طويلة يرفعها بيده حتى يراها الناس كلهم، ولا يتمسك بسنة السواك إلا في الترام، فيخرجه من جيبه طويلاً ثخيناً، فيستاك به على أبشع هيئة ثم يعصره بإصبعه ويبصق على الأرض وإذا انتقده أحد نادى: يا ضيعة الدين، ويا بوار الأخلاق. . .

وهذا فصل آخر (يمثله) السائق، يقف في المحطة يشتري طبق الفول ورغيف الخبز، ويتباطأ بعدها في سيره ليأكله، حتى إذا وجد أنه تأخر وفاته الموعد، أسرع إسراع الجنون، ولم يمهل المرأة حتى تركب ولدها وتركب بعده، فيبقى الولد في الترام خائفاً يصيح ويبكي يكاد يلقي بنفسه، وأمه تعدو وراء الترام، والناس يصرخن من كل جانب. . .

وفي الترام دليل على طباع كل قطر، ونموذج من حياته، ففي الشام عراك على النزول والصعود، وتسابق فضيع إلى المقاعد لأن فيه شعباً حديث عهد بالجهاد والنضال، ولأن الترام له أول وله آخر، فالناس يركبون معاً وينزلون، وفي مصر تدور اكثر الترامات، دوران الثواني، وتكر كر الأيام، لا أول لها ولا آخر، والناس ينزلون ويصعدون في كل مكان، وفي مصر شعب وادع أنيس فإذا فرغ مقعد في الدرجة الأولى رأيت كلا يدعو الآخر إليه. والفرق في الشام وبيروت بين ركاب الدرجة الأولى والثانية قليل لا يكاد يظهر في زي ولا حديث، وهو في مصر ظاهر بين، لأن شعار مصر التفاوت في كل شيء فليس في الشام ساحله وداخله، أغنياء من الوزن الثقيل ولكن ليس فيه أيضاً إلا القليل من الفقراء المدقعين، وليس فيه علماء كبار جداً، ولكن ليس فيه أيضاً أميه طاغية، وجهالة منتشرة، أما مصر ففيها اشهد الغنى واشد الفقر، وفيها العلم والجهل، والقصور والأكواخ، بل إن فيها شارعاً واحداً في أوله الملاهي والمسارح فكأنك منه في باريس وفي أوسطه البنوك والمصارف، فكأنه من نيويورك، وآخره شارع من شوارع الرقة أو الميادين والترام في الشام هدف كل مظاهرة، وغاية كل إضراب، فإن كان للشعب احتجاج على الحكومة، كسر الترام، وإن كان للطلاب مطلب من المعارف احرقوا الترام، وإن شكا الناس من سوء الخبز أو كثرة الضرائب حطموا الترام، لأنه رمز السيادة الاقتصادية الأجنبية، وأهل الشام لا يحتملون لأجنبي سيادة لا في الحكم ولا في المال.

إن حديث الترام طويل، ووقت الحديث القصير، وقد استنفذته كله وزدت عليه، وأنا ارجوا إن أمللتكم عفوكم وأشكر لكم على سماعه صبركم، والسلام عليكم.

(القاهرة)

علي الطنطاوي