مجلة الرسالة/العدد 725/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 725/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 05 - 1947



ثبات عجيب

أف لهذا المنظار! أزلت عنه التراب والصدأ ووضعته على أنفي بعد طول غيبة، فعاد يريني من دنيا الناس ما يسوؤني في الكثير مرآه، وإن كان لسرني أن أراه. . .

ولا يعجبن القارئ من هذا التناقض. فإن عجب فليعجب من هذا المنظار الذي يقع بي على ما يضحك في ذاته وإن كان لخليقاً بأن يستل من النفس كل ما أوصى به الله من صبر. وأكثر ما يريني منظاري ما يتصل بأقوى سبب بالتحمس والمتحمسين. والمصريون كما أعلم وتعلم أيها القارئ الكريم قوم شديدو التحمس سريعو الانفعال، وإن كانوا رقيقي الحاشية أسخياء الطبع مريحي النفوس. فما أسرع ما ينقلب الرجل الذي تمازحه ويمازحك في مثل ارتداء الطرف إلى نمر هائج لأقل بادرة منك في الحديث. وإننا لنتحمس في كل فصل. . . في الشتاء وفي الربيع وفي هذا الحر الذي يزهق النفوس وكثيراً ما يكون التحمس لغير سبب ظاهر، وهذا عندي أدعى صوره إلى إثارة الضحك كتحمس هذا الذي أريد أن أحدثك عنه. . .

هو شاب في نحو الخامسة والثلاثين، بادي الفتوة، مهندم الثياب؛ تطالعك في وجهه لأول وهلة إمارات الجد، وترى في جلسته ونظراته شيئاً من الصلف والصرامة؛ وتحس من عضلاته المفتولة وصدره العريض المرتفع أنك أمام مصارع محترف. . .

جلس في (المترو) على مقعد في الدرجة الأولى، ولم يبلغ الزحام في ذلك الصباح ما يبلغه اكثر الأيام من شدة: فالممر بين صفي المقاعد خال من الناس، والباب إلى الدرجة الثانية لا يقف فيه أحد. . . وفي مثل هذه الحال لا يتساهل محصلوا الأجرة في أن يركب الراكب حيثما اتفق له. . .

وكان صاحبنا يطالع إحدى صحف الصباح، وكنت على مقعدي تلقاءه، أنظر إليه من وراء منظاري، ولست أدري لم ألقي في روعي أنني أمام متحمس من طراز عجيب؟. . . أكان ذلك لما يبدو من صرامته وصلفه ودلائل قوته؟ أم كان مرد ذلك إلى ما كان يرتسم على وجهه من علامات الاشمئزاز والنفور كلما نقل بصره في الصحيفة من عنوان إلى عنوان؟ فلقد رأيته لا تتشكل أساريره قط بما ينبئ عن ارتياح عن ارتياح لشي مما يقرأ. . .

ومهما يكن من شئ فإني شعرت بأني حيال متحمس من متحمسينا الأشداء. . .

وجاء محصل الأجرة وهو كهل مخيف يردد لفظيه المعتادين: ورق. . . تذاكر؛ ويزيد عليهما بين حين وحين قوله: فلوس، وينقر بقلمه على ظهور المقاعد أو على ظهر الخشبة التي تحمل تذاكره. . .

ومشى نحو صاحبنا، فلما بلغه كان قد بلغ في نداه قوله: فلوس. وناوله الفتى بطاقة يقرض منها بمقصه خانة فيساوي ذلك قرشاً ونصف قرش، ولم يكن في البطاقة إلا الخانة الأخيرة فقال محصل الأجرة لصاحبنا (ادفع الباقي) فلم يرد الفتى وعاد إلى صحيفته ينظر فيها كأن لم يحدث شئ.

ونفخ المحصل في زمارته فوقف (المترو)، واشتد الغيظ بالركاب جميعاً، وصارت القضية على تفاهتها من قضايا الرأي العام، ولكن في مجالها الضيق هذا. . . وأصر صاحبنا إصراراً شديداً وثبت ثباتاً عجيباً لا يكترث لشيء!. . .

وخطر لأحد الركاب حل سلمي فتقدم بالباقي إلى المحصل؛ وهنا وثب الفتى من مقعده ينتهر هذا المعتدي على كرامته ويطلب إليه أن يضع نقوده في جيبه. ونطق فإذا هو فخم اللفظ ينطق الزاي ظاء والتاء طاء والدال ضاداً، وكان كلما انطلق منه لفظ تراجع المسكين الذي تقدم بالنقود خطوة وقد رد نقوده لتوه إلى جيبه وأخرج يده يقلبها في الهواء بيضاء من فرط خوفه، أما المحصل فقد رضي من الغنيمة بالإياب؛ ونظرت ونظر الركاب فإذا ثلاثة أرباعه في الدرجة الثانية وما بقي منه في الدرجة الأولى، ولعله كان يتأهب ليغلق من دونه الباب. . .

وذكرتني ثورة هذا المتحمس بما كنت أقراه عن (الدوتشى) إذ كان يرعد في وجه موظفيه. . . وجلي هذا (الدوتشي) المصري لا يكترث لشيء ولا يجرؤ أحد أن يكلمه كلمة. . . وكم بيننا من أمثال هذا البطل ممن لا يحسبون لأحد حساباً مهما بلغت شناعة ما يصنعون. . .

وكنت اكتم ضحكي تلقاءه، وأخشى أن يغلبني، فأتأهب لألحق بالمحصل وأوصد من خلفي الباب؛ ثم اشغل نفسي بالتفكير في أمره، فأقول لو أن لهذا (الدوتشى) ولأمثاله من المتحمسين الأشداء مثل هذا الثبات في الجد من الأمور، أو مثل هذا الرفض والأباء إذا دعاهم رؤساؤهم إلى غير ما يحبون، لأخرجت أمتنا من الأبطال ما لم تخرج أمة مثله في غابر الزمن وفي حاضره، ولكن أكثر تحمسنا يأتي حين لا نخشى قوة، وكثيراً ما يكون في التافه من الأمور. .

وظل هذا (الدوتشى) على ثباته وإصراره، وظل القطار في موضعه والناس في العربات الأخرى ينظرون في ساعاتهم ويطلون من النوافذ ويظهرون أشد علامات التبرم والسخط، ويطل بعضهم من الباب ينظرون إلى هذا الذي لا يبالي بشيء.

وجاء قطار آخر وتشاور المحصلون فيما بينهم؛ ثم انطلق بعد حين ذلك القطار الذي يحملنا ويحمل الدوتشى حتى وقف على إحدى المحطات، فنزل مزهواً بالنصر ومشى مرفوع الهامة موفور الكرامة إلى حيث يتضاءل ويتصاغر بين يدي رئيسه.

الخفيف