مجلة الرسالة/العدد 726/أعلام معاصرون

مجلة الرسالة/العدد 726/أعلام معاصرون

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1947



محمد عبد المطلب

1870 - 1931م

للشيخ محمد رجب البيومي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

ولقد انتقل رحمه الله إلى عدة مدارس ابتدائية وثانوية حتى اختير أستاذا بمدرسة القضاء الشرعي، وكانت قد طارت إليها بما نشرة من حين لآخر في الصحافة، فاستقبل بالتجلة والترحيب ووجد نفسه أمام عقول مستنيرة تفهم آراء وتسير معه في اتجاهه، فاخذ يغرس حب الأدب والفضيلة ويدفعهم إلى التعصب للعربية في وقت هوجمت فيه من أعدائها المغتصبين. ولقد غالى في ذلك مغالاة عدها الكثيرون رجعية وجمودا فكان لا يحفل بما تخرجه المطبعة العربية من الكتب الحديثة، ثم شفع القول بالعمل فأخذ ينهج في إنتاجه نهج القدامى من فطاحل العصر العباسي، فكان يبتدئ قصائده بالغزل الرائق، مكثرا من الغريب المجلجل، مستعينا بخياله البدوي في التوليد والتصوير، وتلك منه كبرى أسداه إلى الأدب العربي، فهو يذكر الناس بين الفنية والفنية بمن ينسج على منوالهم فيفيئون إلى الدواوين القديمة باحثين مستفيدين، ولا شك أن الأدب العربي كان في مبدأ هذه النهضة محتاجا إلى المحافظ اكثر من احتياجه إلى المجدد، وإلا فكيف نتشدق بالإبداع والتجديد، وتراثنا الرائع القويم لا يزال في ظلمات النسيان تشيح عنه الوجوه وتستجمعه الإفهام!!

وأحب أن أكشف عن حقيقة مطموسة، فالذائع المشهور أن أمير الشعراء هو أول من كتب الروايات المسرحية الشعرية، فقد أصدر أولى رواياته (كيلوباتره) سنه 1928 م ثم أعقبها بعدة روايات مشهورة، والواقع أن عبد المطلب قد سبقه إلى ذلك بعشرين عاما، فقد نظم في سنه 1909 وما بعدها بضع روايات شعرية ذات فصول ومناظر تمثيلية، وقد جعلها متينة الحوار، سريعة الحركة، حسنه المفاجأة. وكلها عربية بدوية تتخذ أسماء لامعة في تاريخنا الأدبي (كالمهلهل) و (امرئ القيس) و (ليلى العفيفة) ومن المؤسف حقا إنها لا تزال في غمرة الجحود مخطوطة بدار الكتب المصرية، ولعلنا نجد من يخرجها للناس في ثوبه اللائق، فهي وحدها الدليل على تجديد عبد المطلب وتنبيهه إلى عنصر هام من عناصر الشعر قد اثبتت الحياة مزيد احتياجنا إليه، فليت الذين يرجفون بجفاف الشاعر وجموده يلتفتون إلى هذه المآثر الخالدة ثم يحكمون!!.

وأنت إذا نظرت إلى المآخذ التي توجه إلى شعرة تجدها منصبة على تغلغله في الأخلية الصحراوية، وهيامه بالأماكن البدوية وإكثاره من الغريب الفحل، مما يعتبره محاكاة وترسما لا تجديدا وابتداعا، في رأيي إن عبد المطلب بالذات غير ملوم في ذلك، لأنه عربي صريح نشأ في بيت يفخر بانتمائه إلى الجزيرة العربية، فهو حين يهتف بنجد والعقيق وسلع إنما عن وجود مشبوب، ويحين حنينا محرقا إلى أماكن يعتز بها مدى الحياة، فلا عليه إذا جال في هذا الميدان وصال، وأحرى بنا أن نوجه هذا النقد إلى غيري كالبارودي مثلا ممن لا ينتمون إلى الجزيرة ولا يشعرون نحوها بعاطفة وانجذاب!!

وإذا كنا نعد من حسنات الفرزدق على اللغة العربية إنه أحيا ثلثها في شعره، فلماذا ننكر على عبد المطلب إكثاره من الغريب المستساغ في وقت جاهر فيه أعداء اللغة بعجزها عن مسايرة الحياة، الا يكون ذلك توجيها صالحا منه إلى تحصيل اللغة ودراسة معاجمها الواسعة حتى تسعفنا بما نفتقر إلية من كلمات!!

هذا وقد شاءت الظروف السياسية أن ينتقل من مدرسة القضاء الشرعي إلى مدارس وزارة الأوقاف!! فحيل بينه وبين العقول الممتازة التي كانت ننتفع بآرائه وتوجيهه، ووجد نفسه أمام طائفة أخرى لا تزال في الدور الأول من التعليم!!

وقد اعتبر الفقيد في مدارس الأوقاف محنة قاسية قابلها بالصبر الجميل، على إنها كانت في الواقع محمدة جميلة. فقد خلص من دروسه العميقة قي القضاء الشرعي، وعكف على الإنتاج الأدب الرفيع، وكانت الحرب العظمى الأولى في ذلك الوقت مندلعة اللهيب، ثم تلتها الثورة المصرية الصاخبة، فوجد الشاعر من أحداث زمانه ميادين شاسعة يحلق فيها بخياله الجموح، وحين نطالع ديوانه نجده حافلا بالقصائد السياسية التي تعتبر في الواقع وثائق تاريخية صحيحة يحتج بها الباحثون، فما من عاصفة سياسية هبت بمصر إلا خلدها عبد المطلب في شعره الرائع - إلى جانب ما كان يكتبه من مقالات طنانة الدوى عميقة التأثير - ولعلك تسال معي لماذا لم تذكر سياسته الشعرية كما ذكرت سياسات حافظ إبراهيم؟ والجواب على ذلك إن الشعر السياسي شعر شعبي لا يدور على الألسنة إلا إذا كان سهلا واضحا يفهمه العامي قبل المثقف. وقد كان حافظ رحمه الله يأتي في السياسات بنوع خاص بما يناسب عقل الجمهور، فطار شعره السياسي كل مطار. ورواه الريفيون في القرى قبل المثقفين في الاندية، اما عبد المطلب فقد كان محافظا على نسجه الرصين وجزالته القوية، فنجا شعره من العامة وظل منهلا رائقا يرده المثقفون، وإذا شئت الدليل على ذلك فقرأ قصيدة حافظ في سعد زغلول يوم اعتدى عليه ومطلعها

الشعب يدعوا الله يا زغلول ... أن يستقل على يديك النيل

ثم إقراء قصيدة عبد المطلب في هذا الموضوع

رمى وسهامُ الله في نحره رد ... فلا تأس حاطتك العناية يا سعد

فإنك بلا شك ستسايرني فيما أقول

وأود أن أنبه القارئ إلى قصيدة عبد المطلب في الحرب العظمى فهي وحدها كافية للتدليل على مذهبه في الشعر. ولقد عبر فيها عن إحساس الشعب المصري أصدق تعبير، فكانت سوطا ناريا يلهب ظهور الإنجليز، وقد مكثنا سبعين عاما نضج من المغتصبين ونرى بأعيننا كتائب الاستعمار رائحة إلى الحانات والمواخير، ينتهكون الحرم. ويصرعون العفة، ولكن لم نجد في شعرائنا من صور هذه المناظر المخجلة في جزالة لفظ وقوة أسر، غير عبد المطلب حين قال:

تبصر خليلي هل ترى من كتائب ... دلفن بها كالسيل من كل مودق

سراعاً إلى الحانات تحسبهم بها ... نعاماً تمشي رزدقاً خلف رزدق

يهولك مرآها إذا اصطخبت بهم ... مواخير تجلو فاسقات لفسَّق

إذا أجلبوا فيها حسبت ضفادعاً ... تجاذبْن إيقاعاً على صوت نقنق

زعانف شتى من طويل مشذب ... طرى القرى عاري الأشاجع أعنق

ترى منه بحبوحه الأمن باسلا ... وان يدعه الداعي إلى الكر يحبق

والقصيدة كلها وقد جاوزت المائتين تضرب على هذه الوتر الرنان، وطبيعي أنها لم تنشر في حينها بل ظلت في مدرجة النسيان حتى قرأناها بالديوان!! والعجيب أن عبد المطلب - بعد انتقاله من سوهاج - لم ينتشر خرائده تباعا في الجرائد اليومية كما فعل قرناؤه بل ظل محتفظا بها في مسوداتها غير اليسير مما انشده في المحافل العامة وسارعت الصحافة إلى تدوينه!! ولعلك تقف معي من هذا على تواضعه الجم وعزوفه عن الشهرة، ولا لدري اي ذخيرة غالية قدمها الأستاذ الهراوي إلى العربية يوم جمع قصائد الفقيد في سفر خاص فكانت كأس النديم وعبير المشتاق

على أن مدة الشاعر لم تطل بوزارة الأوقاف ففي سنه 1921 تقلد وزارة المعارف المرحوم جعفر والي باشا وكان ذا اتصال حميد بأرباب الفكر وحملة اليراع، فاغتنم عبد المطلب هذه السانحة وتقدم إليه أملا في الأخذ بيده، وكان الوزير الأريحي عند ظنه الحسن به فقد استصدر أمرا من مجلس الوزراء بنقله إلى التدريس في دار العلوم مع إعفائه من الكشف الطبي إذ كان الشاعر يشكو ضعفا في قوة إبصاره، ولا تسل عن فرحته بالعودة إلى وسط ممتاز يشجعه على الدرس الجيد والبحث المفيد، ولم ير غير الشعر مكافأه طيبة يهديها إلى معالي أو زير فشكره بقصيدة عامرة قال فيها

أنا الروض حياه وليٌّ بديمة ... علية بأسباب الحياة استهلت

عداه الردى أحيا لمصر وأهلها ... مآثر عهد ابن يحي تولت

(جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت)

ولم يلهه التدريس بدار العلوم عن الاتصال بالجمهور عن طريق الصحافة، فقد كان ينشر أبحاثه الأدبية دراكا، وحين ظهر كتاب الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين سارع إلى نقده في جريدتي الأهرام والمقطم، ثم تشعب به النقاش فخاض المعركة الحامية بين الجديد والقديم. وأخذت الردود الكثيرة تتوالى على نقده وهو يناقشها مأخذا مأخذا حتى عد عند الكثيرين عميدا للمدرسة القديمة الاتباعية، ولقد طبعته هذه العمادة بطابع خاص، فكان يتعمد في أكثر إنتاجه أن يكون كما عهده الأدباء في صدر شبابه جزلا فحلا. واذكر انه ما أقيمت حفلة أدبية إلا ودعي إليها عبد المطلب باعتباره ممثلا للمذهب القديم اصدق تمثيل. وكان السامعون ينتظرون الديباجة العربية منه في شوق وانجذاب، ففي الحفلة التي بويع فيها شوقي بأمارة الشعر وقف عبد المطلب يلقى قصيدته فهمس أديب كبير في إذن شوقي أمرؤ القيس! أمرؤ القيس! وتكلم عبد المطلب فضج الحفل بالتصفيق الشديد!!

ولقد كان مظهره في الجامعة المصرية يوم ألقى قصيدته العلوية سنه 1919 رائعا جميلا فقد ركب ناقته ومضى ينشد طويلته متشبها بأجداده البادين، وكان الحفل الحاشد مأخوذا بما يرى ويسمع، فمن تدفق في البيان وطرافة في الموضوع، إلى غرابة في المنظر وبعد في الاتجاه، ولقد طال نفسه فيها حتى جاوزت قصيدته أربعمائة بيت تقرؤها في متعه وارتياح فلا تجد غير القوى الرصين!!

أما أخلاقه الرفيعة فقد كانت دينيه مثاليه تبحث عنها فلا تجدها عند الذين يتظاهرون بالورع ويتشدقون بالعبادة وليسوا من ذلك في قليل أو كثير، فعبد المطلب قد درس التعاليم الإسلامية ثم طبقها على نفسه وأتخذها منهجا يسير عليه. فكان عق اللسان، صلب العقيدة، راسخ الإيمان طاهر الذيل، متمسكا بتقاليد قومه، راغبا في الزهد الصوفي الذي ورثه عن ابيه، وقد أشترك في جمعيات إسلامية كثيرة. كالمواساة الإسلامية والشبان والهداية، والمحافظة على القران الكريم بإذلالها ما يستطيع بذله من مال وعتاد

قال شيخنا الأستاذ الإسكندري (وكان شديد العصبية لسلف هذه الأمة وقوادها وعلمائها وشعرائها فلا يكاد يسمع بحديث مزر عليها أو غاض من كرامتها حتى يغضب لها غضبة الليث الهصور وينبري له تزيفا وتهيجينا نظما وكتابة وخطابة)

هذا وقد أنتدب في سنه 1928 للتدريس في تخصص اللغة العربية بالأزهر الشريف، وظل به حتى لقي ربه راضيا مريضا عنه بما قدم لدينه ولغته من العمل الصالح، وكان قد أحيل إلى المعاش من دار العلوم قبل وفاته بشهر واحد. وحين جاءه اليقين خرجت الدنيا تشيعه في حفل مهيب التقى فيه أصدقاؤه بتلامذته العديدين باكين منتحبين، ورأى الناس الوفاء للأدب والعلم متمثلا حول نعشه في جمع حاشد وصفه الهراوي فقال:

لقد مشت الدنيا وراءك خشعاً ... وما كنت في سلطان حل ولا عقد

إلا إنها كانت قاوباً تدامعتْ ... على الود تمشي حول نعشك في حشد

محمد رجب البيومي