مجلة الرسالة/العدد 727/في بلاد العرب:

مجلة الرسالة/العدد 727/في بلاد العرب:

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 06 - 1947



من دمشق إلى (دير الزور)!

(تحية إلى إخواني هناك وتلاميذي)

للأستاذ على الطنطاوي

إلى دير الزور. . .

استعدوا يا سادة، فقد أزف الرحيل، وشدت الأهداج، فودعوا الأحبة والصحاب إن كنتم تطيقون الوداع، وخذوا طريقكم إلى (المرجة) ففيها الموعد الفجر، وأسرعوا لا يشغلكم جمال الغداة، ولا سحر السحر، وإن ملأ السماء والأرض والنفس خشعة وفرحة وبهاء، فحرام على ذي الأعمال، أن يفتنه عنها الجمال. . .

ها نحن أولاء في (المرجة)، وها هو ذا صوت المؤذن يمشي في الفضاء مشى البرء في الأجسام، والطرب في الأعصاب، فيكون لهذه الدنيا نوراً وطهراً وعطراً، وها نحن أولاء نصلي الصبح في (جامع يلبغا) الذي سرق نصفه العثمانيون فجعلوه مدرسة، كان الأرض قد ضاقت بالمدرسة حتى ما يتسع لها إلا الجامع، كان اللصوص لم يكونوا حداقاً، ولم يستطيعوا طمس الآثار، فنسوا (المئذنة) لم يسرقوها فلبثت قائمة تشهد عليهم، كشهادة (منار سوق الغزل) على أهل بغداد، انهم سرقوا (المسجد الجامع) الذي كان قطب الأرض، واكلوه، وادعوه انهم ما رأوه. .

وها نحن أولاء نخرج فنرى السيارة وعليها الأحمال، ولكن ما لها لا تمشي؟ ألم بأن الأوان؟ ألم يؤكدوا لنا إن الرحلة الفجر؟ لقد مضت نص ساعة، ومضت ساعة، وملأت الشمس الدينا، وامتع الضحى، وهي واقفة، ترقب أحد البكوات حتى يصحو وتفرك الجارية رجليه ويغتسل ويأكل ويبس ويجيء مبتخترا. .

فلماذا ذا منعونا نحن المنام، وألزمونا الحضور في الغلس، في برد كانون، وفر الليل؟ وما هذه الخصومات والمعارك، وهذه الألفاظ الوسخة التي يقذف بها السائق ومعاونوه في وجوه الركاب، لأنهم طالبوا بحقهم وأبوا الظلم؟ وما لشركة (نرن) الإنكليزية تسير سياراتها كما تسير عقارب الساعة، لا يسبق عقرب ولا يتأخر ولا يقفه شيء؟ اكتب علينا أن نظل أ أهل خلف في المواعيد، وكذب في الأحاديث، وفوضى في المعيشة، لا نحن اتبعنا ديننا، دين الصدق والنظام، ولا نحن قلدنا الأوربيين في فضائلهم؟ ما قلدناهم إلا في الرذائل والموبقات!

لقد دنا المسير، و (رغت) السيارات، فاستنجدوا بقرائحكم لتسعفكم بالقول المحلى واللفظ المعسول، واعتصروا العيون واستمطروها الدمع، فما يحلو بغير الدموع الوداع، وما وصفه شاعر إلا (زعم. . .) أنه بكى، فكأن الشعراء. . . إذا أزمعوا وداعاً وضعوا البصل في عيونهم. . . وإلا فكيف تجود بالدمع عند كل طلب كأنها (حنفيات) الحمام، أو كأنها مقل الحسان؟ وخذوا مقاعدكم قبل أن يشتد الزحام. ولكن من أين ندخل وهذه السلال والصرر والحقائب بين الأرجل ووسط الممرات؟ وما هذا الضيق في المقاعد؟ هل هي رحلة دقائق من دمشق إلى دمر، أو من مصر إلى المعادي؟ إنها رحلة يوم كامل بليله واكثر نهاره أفنمضيه محبوسين في هذا الصندوق، مقيدين بالأصفاد، لا نستطيع أن تحرك بداً، ولا نمد ساقاً، ولا نتلفت؟ أنقاوم الشركات الأجنبية ونحاربها بمثل هذه السيارات؟

يا قوم إنكم بمثل هذا تجعلون الناس يترضون عن الاجانب، ويلعنون لأجلكم كل شيء وطني!

لقد جرت السيارة وباسم الله مجراها ومرساها، ها هي ذي تخترق شارع فؤاد الأول، وتقطع شارع بغداد أفخم شوارع دمشق وأطولها، الذي فتح من ربع قرن ولم يبين فيه إلا خمس بنايات، لأن البلدية أرادت عمران دمشق، فوضعت للبناء فيه شروطاً لا يمكن معها البناء، إلا إذا قامت حرب عالمية ثالثة، وصار كل الشاميين لصوصاً أي (أغنياء حرب). . .

لقد بلغنا (جسر تورا) فودعوا دمشق بنظرة أودعوها حبة القلب، وقراره اللب، فما تلقون إذا فارقتم دمشق مثل دمشق، واين؟ اين مثل فتونها وسحرها؟ وأين مثل تقاها وطهرها؟ أين قبة تنطح النجم كقبتها؟ أين في الأرض غوطة كغوطتها؟ اين نهر يسيل شعراً وذهباً كبرداها؟ أين مثل ربوتها وشاذرانها ومزتها وميزانها؟ أين في الدنيا ربيع كربيعها، وزهر كزهرها، وثمر كثمرها، وكروم ككرومها؟

تزودوا منها بالنظرات تكن لكم في طريقكم زاداً وفي غربتكم آنسا. . .

هذه (دوما) قصبة الغوطة فيها خمسة وعشرون ألف ساكن قل فيهم من يتفرغ للعناية بدار لذلك ترون دورهم زرية منخفضة السقوف، ضيقة الابواب، وقل فيهم من يعتني بثوب أو يحرص على علم، ما لهم هم إلا الزراعة فهم اقدر خلق الله عليها، أصبرهم على مكارمها، لأنهم يشتغلون لأنفسهم وذراريهم، لا لـ (بك) من البكوات، ولا لخواجة من الخواجات، وقل فيهم من لا يملك قطعة من الأرض ولو صغرت، يعيش بها ولها ويموت عنها، ليس فيهم أسرة يستعبدها الملاك هذا الاستبعاد (الحر). . .

ويظلمها هذا الظلم (القانوني). . . فينظر إليها كما ينظر إلى حميره وأبقاره، ويعاملها معاملتها، فيسكنها في مثل زرائبها، ويطعمها قريباً من طعامها، ولا يراها أعلى قدراً منها، يشغلها السنة كلها تكد وتشقى، لتقدم له ثمن سكرة من سكرانة، أو ليلة (حمراء!) من ليلاته، تريق عرق جباهها على أقدم عشيقاته، وتبذل حياتها ابتغاء مرضاته، ثم لا تنجو من غضباته ونزواته!

أنها أرضهم هم، وهم أصحابها، ولذلك ازدهرت أينعت حتى صارت اجمل أرض في الوجود. فانظروا إليها من حولكم، إلى هذا البحر يموج بالأشجار، تتمايل أغصانها، وتتعانق افنانها، تتوجها إذا جاء الربيع ألوان الزهر، فتكون ابتسامة الزمان على فم الثرى، وتثقلها إذا حل الصيف أنواع الثمار، من المشمش عشرين نوعاً، حبة كالتفاح استدارة وبهاء لا كمشمش مصر الذي يشبه في صغره حب الخردل، ومن التفاح أربعين نوعاً، والكمثري عشرين، والعنب خمسين نوعاً معدودة عداً، والدراق والخوخ والجانرك والسفرجل والجوز واللوز والتين والزيتون أنواع شتى وأشكال، وإلى السواقي تسعى فيها تحمل الحياة من بردي إلى هذه الأرض المباركة، يميد على حوا فيها الحور ويرقص الصفصاف، وتنساب عروق البطيخ والشمام والقثاء والخيار، وتضحك من حولها حقوق القمح، ومزارع (الخضار. . .).

هذه هي الغوطة: بستان واحد، مساحته اكثر من ثلاثمائة مليون متر مربع، متصل الظلال، متلافي الاغصان، كل شبر منه ثروة وجمال، وكنز لا ينفد على الإنفاق.

لقد جازت (السيارة) دوما، فانظروا إليها فقد كادت تختفي مناراتها، كما اختفت دمشق إلا جبليها الخالدين، قريعي الدهر حليفي الخلود: قبة النسر من الأموي، وهامة الصخر من قاسيون. وهذي كروم دوما، يضل البصر في رجاها ويقصر عن مداها، فيها (العنب الدوماني) الذي سارت بذكره الركبان، فمن لم يأكل منه لم يأكل عنباً إلا على المجاز. . .

ولكنكم مررتم بالغوطة وكرومها في الشتاء، فدهشتم وما رأيتم إلا حطبها، فكيف لو جزتم بها الربيع فشاهدتم البهي من زهرها، أو سلكتموها في الصيف فجنيتم الشهسي من ثمرها؟ إذن لقلتم: لا رب إلا الله، ولا بستان إلا الغوطة!

لم يبق الآن أمامكم إلا الصحراء، ولكن هذه الصحراء كانت يوماً من الأيام سهولا ممرعة، وكان أكثرها منازل عامرة وكانت تفيض بالخيرات وتزخر بالظلال، أيام الملوك الغر العبشمين سادة الدنيا، بني أمية، الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب، من أطراف الصين إلى أواسط فرنسا، فنصبوها على قبة الفلك، ودعموها بالعدل والنبل والفضل، فما كانوا فاتحين كالفاتحين، يغلبون بالقوة، ويملكون بالسطوة، فإن زالوا زالت آثارهم، ولكن كانوا مجاهدين، وكانوا بانين، وكانوا عبقريين، فجعلوا هذه البلاد كلها إسلامية عربية إلى يوم القيامة. وكان لهم الفضل على مسلم، في هاتيك الأقطار حتى تقوم الساعة، رحمهم الله وغفر لهؤلاء المؤرخين الذين حاولوا أن يتقربوا إلى أعدائهم بإطفاء هذه الشمس التي بهرت العيون، فجمعوا غبار الطرق وجعلوا ينفخونه عليها حتى تمزقت صدورهم، والشمس ساطعة لم تنطفئ، ومن ذا يطفئ نور الشمس في راد الضحى؟

رحمهم الله، فقد جعلوا هذه المدينة لما نزلوها سيدة المدائن، ورفعوا قدرها حتى ذات لها نهاوند ودانت قرطبة وخضعت سمرقند وطأطأت لها القسطنطينية، فأضعنا نحن من بعدهم عزها. أن الأرض تعمر أبدا وبلادنا تمشي إلى الهراب، إنكم ستمرون الليلة على المدينة التي قارعت روما يوم كانت روما عاصمة الأرض، ونازعتها مجدها وسلطانها، فلا ترون في مكانها إلا قرية اسمها (تدمر)، أفرأيتم كيف نمشي إلى الوراء؟ إن ديار الشام التي يسكنها اليوم بساحلها وداخلها، وشمالها وجنوبها، خمسة ملاين كان فيها يوماً من الأيام خمسة وعشرون مليونا. وكان في العراق مدينتان متجاورتان، في كل منها مليونان، وأهل العراق كله اليوم خمسة ملايين. وإن بين هاتين المدينتين اليوم على الطريق جسراً قائماً في الفلاة، كان تحته نهر اسمه دجيل ملأ الشعراء بذكره الأسماع، يسقى مدينة اسمها حربى زخرت بأخبارها صحف التاريخ، فمحيت المدينة وجف النهر ولم يبق إلا جسر قائم في الفلاة. وكان في البصرة عشرة آلاف قناة، فلم يبق فيها اليوم إلا مائة وثمانون قناة.

نعم لقد عدنا إلى الوراء ولكن عهد التأخر قد انقضى.

لقد وقفت القافلة تجمع شتاتها، وتعد عدتها، لتمشي في طريق المجد كما مشى الأجداد. . .

لقد عرفتنا المصائب في فلسطين والمغرب ومصر والشام، إن الطريق من هنا: إلى المشرق. . . من الشرق يطلع فجر الخلاص، أما الغرب فلا يجئ منه إلا ليل الظلم وسواد الاستعمار. . .

هذه حقيقة تدرس في المدارس الأولية، ولكن في الناس جهلاء لم يتعلموها بعد!

يا إخواننا. أن هذه السفرة ستعلمكم الصبر. إنكم ستتحدثون حتى تملوا الحديث، وتسكتون حتى تكرهوا السكوت، وتأكلون حتى تعافوا الاكل، وتجوعون حتى تشهوا الطعام، وتنامون حتى تشبعوا من المنام، وتستيقظون حتى تتمنوا الهجوع، وانتم محبوسون في هذا الصندوق، مصفدون بالاغلال، فأين هذا من رحلات الأجداد على الإبل، يستمتعون بالحرية والانطلاق والتأمل؟ تقولون إنكم اختصرتم الزمان. . . وماذا اختصار الزمان، إلا الإسراع إلى القبر؟

إنكم تشكون والسيارة تمشي لكم على الطريق الآهلة، وانتم قعود تأكلون وتشربون، ففكروا في بطل الدنيا سيف الله (خالد) وصحبه: كيف قطعوا هذه البادية على الإبل لا يمشون على طريق ولا يجدون ماء ولا زاداً كافياً، والعدو محيط بهم، فلما وصلوا إلى الشام لم يغتسلوا ويمدوا أرجلهم. . . ولكنهم نازلوا جنود سيد الكتائب قيصر، وانزعوا منه الظفر، واخذوا منه البلاد، فبقيت خالصة لامة محمد، لن تغدوا لغيرهم أبدا، لا للإنكليز ولو غلبوا عليها حيناً، ولا لليهود، ولا للأمريكان. . . أولئك هم الرجال حقاً!

وبعد فهذي هي الدير، تبدو مناراتها من وراء البادية، كما تبدو الميناء من وراء البحر، فحث المطى يا أيها السائق، واسقها (البنزين)، فقد مل السفر، ونفذ الصبر، واشتد الشوق. . .

وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام

هذى هي الدير قد وضحت، آفلا تحسون إنكم مقبلون على مدينة عراقية، أليس لمنارتها رشاقة مآذن بغداد، وإن لم يكن لها ثوبها المزركش الذي تخطر فيه، وتاجها الذهبي الذي تميس تحته أليس فراتها هو الفرات الذي يجري في العراق وإن لم تزن كتفيه الروابي المخضرة، ولم يستنقع فيه النخيل، ولم تمرح على صفحته الزوارق الشعرية، ولم يؤكل في القهوات المطلة عليه السمك المسقوف؟ هذي هي الدير، فدعوني يا رفاق أفارقكم لأحدث القراء (حديث الدير). . . فإن فيهم من لم يسمع من قبل باسمها!

علي الطنطاوي