مجلة الرسالة/العدد 727/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 727/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 06 - 1947



حجرة التحمس

ما دخلها قط إنسان إلا انقلب بعد دقائق مهما بدا من هدوئه أول الأمر متحمسا من اشد المتحمسين؛ شهدت ذلك بنفسي وإن قابع في ركن منها أتفرج من وراء منظاري على ما لم استمع بمثله في أية دار من دور اللهو. . .

هي حجرة في ديوان إحدى الوزارات كتب على بابها: (المستخدمين) هكذا بالجر! دخلتها والحر شديد وبنفسي ضيق وضجر فسرعان ما روح عني الضحك المتصل حتى لقد إنساني ضجري كما إنساني ما جئت له. . .

الحجرة صغيرة مزدحمة بالقماطر أو ما يسميه الموظفون بالمكاتب، وعلى كل قمطر ما عدا واحدا أضابير من الورق يعلم الله مبلغ ما قضته كل ورقة حيث رأيتها من عمر. . .

وأمام كل قمطر - ما عدا واحدا غير ذلك الذي خلا من الورق - موظف، وهم جميعا فيما يخيل إلى من أعمارهم دون الأربعين وفيهم من هم دون الثلاثين. . .

وكان أحدهم يقضم قضمات من رغيف أمامه ويأتدم بقطعة من الجبن؛ وكان آخر يطالع في جريدة؛ وكان ثالث يشرب القهوة، واشتغل أربعة بأوراقهم، وبقى واحد لا يعمل شيئا قط فليست أمامه ورقة وليس في يده قلم أو صحيفة أو شئ مما يؤكل أو يشرب وكان ينظر في ساعته بين حين وحين ليرى متى ينصرف. . .

وفهمت انه من (المحاسيب) الذين يعينون لا ليعلموا ولكن ليرتزقوا. . .

ودخل كهل هادئ الحركة فقصد أحد القماطر ورفع صاحبه رأسه فتهجم وتركه إذ رآه، مع أن القادم كان يبسم له ويظهر الاحترام ويختار ارق الكلام؛ ولكن سرعان ما ارتفع صوته وهو يقسم بالله العظيم ثلاثا ويهز سبابته كما يفعل الخطيب انه جاء من اجل مسألته ما لا يقل عن ثلاثين مرة، ولا يدري ما يعمل بعد ذلك. وبلغ به التحمس أن أعلن انه ذاهب من فوره إلى المدير، وقالها بلهجة من ينذر بالموت كأن الذهاب إلى المدير عنده فيه القضاء على الموظف المسكين، وخرج من الحجرة، وما استدار ليخرج حتى اخرج له ذلك الموظف لسانه وضحك هو وزملاؤه ملء أشداقهم. . .

ولم يكد يبتعد خطوة حتى دخل شاب يمسح عرقه عن جبينه وصفحة وجهه بمنديله، ود من موظف آخر وسأله لعله يذكر موضوعه، فقال له في دماثة متكلفة وهو يكتم ضحكة (أيوه يا سعادة البيه، مر علينا بعد ثلاثة أيام تجد كل شئ على ما يرام)؛ وتحمس سعادة البك تحمسا صامتا تجلى في احمرار وجهه وإرساله الزفرات وانصرف ليمر بعد ثلاثة ايام؛ وتفكه الموظفون بالسخرية من سعادته والتهكم عليه.

ودخل ثالث فسأل أحدهم عن آمر فقال له (عند فتحي أفندي في الحسابات)، فخرج ثم عاد بعد قليل ليقول إن فتحي أفندي لا علم له بالأمر، فقال له (اترك لي المسألة ومر بعد يومين أو ثلاثا تجدها خالصة) ففكر صاحبنا في الأمر قليلا ثم بدا له فتحمس وصاح قائلا (ما هذا؟ أديوان حكومة هو أم كان دكان؟ ودق القمطر بيده قائلا انه ذاهب إلى المدير، وانطلق والتحمس ملء بدنه، وتحمس الموظفون في الضحك منه. . .

1 - ودخل رابع تبدو عليه الرزانة والتؤدة، فسأل عن عبد المنعم أفندي من يكون فدله أحدهم عليه، فمشى إليه في عسر بين القماطر واخرج علبة سكائره ومد بها إليه يده أتلح حتى تناول واحدة، ثم كلمه في صوت خافت، فتظاهر انه يفكر ثم قال: مر غدا فإن عمر أفندي غائب وهو الذي عنده مسألتك. فقال لقد جئت مرتين وعملي في حضن الجبل وأنا قادم هذه المره في (تكسي) وهو عند الباب يدور عداده فهلا صنعت معروفا فأعنتني، فأجابه لا يمكن حتى يحضر عمر افندي، وانصرف عنه إلى أوراقه، فهز صاحب (التاكسي) رأسه مرات وتنهد ثم قال وقد اقلب هدوءه ثورة، وانه ليدق القمطر بيده دقات عنيفة: ما هذا، مرة عمر أفندي في البنك ومرة عند المدير ومرة في إجازة. . . هذا لعب ومسخرة وقلة ذوق. . . وبدا التحمس في جميع حركاته وإشارته. . . وانطلق من الحجرة يتوعد وتهدد.

وجاء الخادم يطلب عبد المنعم أفندي لمقابلة المدير، فذهب إليه ثم عاد بعد دقيقة ففتش في قمطر عمر أفندي واخذ منه أوراقا، وخرج ثم رجع بعد قليل يقول لزملائه (خلصنا منه يا سيدي، وأمضى المدير أوراقه وبلاش غلبة ونفخة كدابة)

ودخل بعد لحظة شيخ معمم ذو لحية فحيا بتحية الإسلام ثم ضم أطراف جبته بيده ومضى إلى أحدهم ينفذ في عسر بين القماطر، فقال له هل وجدت الورق؟ فقال: لا زلت ابحث عنه. وما كاد ينطق بهذا حتى صرخ الشيخ قائلا ما هذا؟ حتى متى تسخر من ذقني هذه يا ولد؟ ونهض الأفندي مغضبا يدق القمطر بقبضته ويقول عيب يا سيدنا الشيخ لولا انك كوالدي. . . ودق الشيخ بقبضته قائلا العيب أن تكذب وأن تضيع الأوراق وتستخف بمصالح الناس وأوقاتهم، وعاد الموظف يدق بيده دقات ويقول عيب يا سيدنا الشيخ، والشيخ يعقب كل دقة منه بدقة من قبضته القوية حتى أيقنت أن القمطر لا شك متحطم؛ ولكني لم احفل بالقمطر وإنما خشيت أن تنقلب الدقات لكمات أو لطمات، فقد بلغ تحمس الشيخ أقصاه وجحظت عيناه واصفر وجهه ودنا من الفتى ولولا أن سحبه إخوانه سحبا من وجه الشيخ لأهوي عليه بكلتا يديه؛ وخرج الشيخ وهو يستنزل خيبة الله عليه.

وساد في الحجرة الصمت لحظة، ولم يفطن الموظفون إلى وجودي إلا وهم في هذه الحال من الخزي والغم، فسألني أحدهم ما طلبي، فأشرت إلى مكتب عمر أفندي، فقال انه لن يحضر اليوم؛ ومعنى ذلك أن انصرف فنهضت للخروج وإني لأقسم للقارئ بمحرجات الإيمان غير متحمس، أني ذهبت إلى تلك الحجرة من أجل مسألتي اكثر من خمسين مرة في مدة سنتين، وقضاؤها والله لا يستغرق ساعة؛ ولم أستدر عند الخروج، بل خرجت بظهري مخافة أن يسروا عن صاحبهم بحركة منهم يكون فيها الزراية علي.

الحفيف