مجلة الرسالة/العدد 729/قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:

مجلة الرسالة/العدد 729/قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:

مجلة الرسالة - العدد 729
قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1947



الشيخ شامل زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

3 - كان الحاج جبرائيل من أهل قرية (جرقط) صانعاً ماهراً يجيد صنع كل ما تقع عينه عليه، وفي ذات يوم من الأيام قصد إلى ساحل البحر الأسود، وركب إحدى البواخر وتوجه إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج، ثم رجع إلى مصر وأقام بها فترة رجع بعدها إلى القسطنطينية ومنها إلى بلاده الأصلية في الداغستان حيث كان الشيخ شامل فاتصل به وعرض عليه خبرته ومهارته الصناعية، واقترح أن يقوم بصب المدافع وصنعها محلياً، ومقاتلة الروسيين بنوع أسلحتهم، وأظهر شامل - رحمه الله - خوفه من الفشل في هذا المشروع، وعارض فيه بادئ ذي بدء؛ ولكنه - تحت تأثير الإلحاح والإغراء - قبل المعاونة والمساعدة ورضى بالمساهمة في هذا المشروع، وقدم كل عون ممكن لهذا الصانع الماهر الوطني المخلص، وقام الحاج جبرائيل بأول محاولة لصنع المدافع، فجمع بقايا المدافع المحطمة التي تركها الروسيون في بعض المعارك السابقة، وأذابها، ثم صب منها مدفعاً جديداً، ولكن هذا المدفع لم يقو على تحمل أول تجربة أجريت له، فتحطم بعد قذف القنبلة الأولى منه، وكان في هذا الفشل الحافز الذي حفز شاملا وإخوانه والحاج جبرائيل ومهارته، وأعيدت المحاولة، ونجحت، ومن يومئذ أصبح في إمكان الشيخ شامل وجنوده الاعتماد على قوة المدفعية ومقابلة الروسيين بنفس سلاحهم الذي يقاتلونهم به.

وكان لصنع المدافع في بلاد الداغستان ونجاحها، واستعمالها في المعارك التي وقعت بعد ذلك أثر كبير سواء في تقوية الروح المعنوية بين المجاهدين المسلمين أو في إيقاع الخوف والرعب في قلوب أعدائهم من الروسيين، وأهل البلاد الضالعين مع الروسيين، وكان ذلك حوالي سنة 1259هـ وسنة 1843م.

4 - كان الشيخ شامل - من يوم صنع المدافع في داغستان واستعمالها في الحروب - يسير من نصر إلى نصر، وذاعت شهرته، وقويت شوكته، وهابه خصومه بعد أن أوقع بهم في عدة معارك فاصلة، كان لها وقع عظيم في نفوس الفريقين المتحاربين، ولجأت القوات الروسية إلى قلاعها وحصونها.

في هذه الثناء كان زعماء الجراكسة وأعيانهم يرسلون الرسل والكتب متتابعة بدعوة الشيخ شامل إلى بلادهم. لمساعدتهم على رفع نير الاحتلال الروسي عن رقابهم، مظهرين الطاعة والإخلاص له ولدعوته الدينية الوطنية التي رفع رايتها في ربوع بلاد الداغستان.

وفي أوائل سنة 1262هـ (1846م) عزم الشيخ شامل على اجتياز الحدود والذهاب إلى بلاد الجركس، فجمع جمعاً عظيماً من الجمد الخيالة والرجالة واخذ معه سبعة مدافع ثقيلة، ومقداراً وافراً من المهمات والأسلحة الحربية، واجتاز نهر (ترن) ونزل في بلاد (قبرطاي) الواقعة في الشمال الغربي للداغستان، وأخذ ينشر تعاليمه ومبادئه عن طريق الوعظ والإرشاد، وأقبل عليه الأهلون مرحبين واظهروا استجابتهم لدعوته وموافقتهم لها، وبينما كان الشيخ شامل يقوم بهذه المهمة وينظم الحياة الدينية والمدنية في تلك البلاد. جاءه النذير بأنه وقع في كمين دبره له الروسيون. إذ قطعوا عليه خط الرجعة، وسدوا المسالك واقفلوا الجسور التي تصل ما بين بلاد الداغستان وأقاليم الجراكسة، فأسرع شامل بالعودة من حيث أتى، وبعد تصادم قوى بينه وبين الروسيين وتراشق بالمدافع استطاع الشيخ شامل أن ينقذ قواته ويجتاز بها نهر (ترن)، ورجع إلى بلاده منهوك القوى، بعد أن خسر في هذه الرحلة كثيراً من قواته ومهماته، وكاد يصاب بهزيمة منكرة لولا حزمه وقوة احتماله، ولولا مهارة الحاج يحيى قائد المدفعية في جيش شامل الذي استطاع أن يستخدم ما معه من المدافع الثقيلة أحسن استخدام في الوقت المناسب.

5 - كان لهذه الحادثة أثر بعيد في المعارك التي تلتها، فقد قويت الروح المعنوية في الجيوش الروسية المحاصرة في القلاع المتناثرة هنا وهناك، فقاموا بعدة كرات على قوات شامل، ووقعت بين الفريقين مصادمات عنيفة، وأخذت الحرب في بلاد الداغستان صبغة رسمية، واسترعت إهتمام العالم أجمع، وحشدت القيصرية الروسية أعظم قوادها، وأرسلت إلى الميدان جموعاً كبيرة من خيرة جنودها ونظم كبار شعرائها القصائد الطوال في دعوة الناس إلى الجهاد في الداغستان ولكن شاملاً كان مع كل ذلك - كالعهد به - يعمل في صمت وهدوء وبنفس الإيمان والثقة بالله، وبنصره لعباده المخلصين.

ولما رأى مبلغ ما كان لصنع المدافع من نفع وتأثير حربي أخذ يشجع كل تفكير في صنع شيء جديد يمكن الاستعانة به في مقاومة العدو، وفي سنة 1266هـ (1849 - 1850م) تمكن الصناع الداغستانيون من صنع البارود في بلادهم، وأعدوا كل ما يلزم لهذه العملية من آلات ومعدات، وأصبح في إمكان المجاهدين المسلمين استخدام البارود في حروبهم ضد الروسيين من ذلك التاريخ، كما يستعملون المدافع المصنوعة في بلادهم وبالأيدي الداغستانية من نحو ثمانية أعوام.

6 - أتسع نفوذ الشيخ شامل في جميع بلاد الداغستان، وسارت بأخباره الركبان، وكثرت مصادماته الناجحة ضد الروسيين، وفي أوائل فصل الخريف. في اليوم العاشر من المحرم سنة 1270هـ (13 أكتوبر سنة 1853م) قام الشيخ شامل بحركة جريئة أوقعت الرعب في قلوب حاميات الروس في بلاد القوقاز كلها، ففي ذلك اليوم ساق سيلاً عظيماً من قواته ومدفعيته، واجتاز بها حدود بلاد (الكرج) وحاصر قلعة (زنطة) حصاراً محكماً قوياً، واضطر حاميتها إلى التسليم في النهاية، ثم بعث البعوث والسرايا إلى القرى المتناثرة في تلك الجهاد، فأغارت عليها، وأخذت الأسرى وغنمت الأموال الكثيرة. ثم رجع إلى مقر قيادته في داخل حدود الداغستان بعد أن قتل من الأعداء نحو (2. 000) قتيل وأسر نحو 894 أسيراً، وغنم من الأموال والأسلحة مقداراً عظيماً. وكان بين الأسرى الجنرال (جوجوزه) قائد حامية (زنطة) وبين السبايا زوجته وبنته وكثيرات غيرهن من كرائم العقيلات، وبنات الأشراف.

بقى هؤلاء الأسرى عند الشيخ شامل نحو تسعة أشهر، وجرت المخابرات والمفاوضات بين الشيخ شامل والقيادة الروسية العليا لمبادلتهم بالأسرى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروسيين.

وفي النهاية تم الاتفاق بين الطرفين على طريقة هذا التبادل ومكانه، فقد أتفق الفريقان على اختيار موقع (أنصنفر) على ضفة نهر (مجك). كما حصل الاتفاق على مبادلة الجنرال (جوجوزه) بأبي الشيخ شامل جمال الدين الذي كان رهينة في أيدي الروسيين من نحو ستة عشر عاماً، ثم مبادلة كل مسلم بروسي، وجعل لكل أسير زائد وللسيدات والأولاد من السبايا فداء محدود، وفي أواخر سنة 1270هـ (1854م) تم هذا التبادل في (انصنفر) على ضفاف نهر (مجك)، واخذ المسلمون أموالاً كثيرة فداء الأسرى الزائدين والسبايا من النساء والأولاد. وكان يوماً مشهوداً عم فيه البشر بين الجميع.

7 - بعد تبادل الأسرى في أواخر سنة 1270هـ تحاجز الفريقان بعض الشيء، وخمدت نار الثورة الوطنية، والحركة الدينية الإصلاحية التي أشعلها الغازي محمد الكمراوي منذ نيف وخمس وعشرين سنة، وكانت هذه الحادثة أشبه بهدنة غير رسمية بين الفريقين. كان قد مضى على نشوب هذه الثورة في تلك البلاد أكثر من ربعقرن من يوم أن رفع الغازي محمد الكمراوي علم الثورة، وكان مضى عليها أكثر من عشرين عاماً من يوم تولى الشيخ شامل قياديها.

فلما رجع أولئك المجاهدون إلى قراهم وضياعهم بعد طول الغياب عنها، والتنقل بين مختلف البقاع وتلك البلاد الجبلية الوعرة رأوا ما عم قراهم من الخراب والدمار، وما حل بأهليهم من الفاقة والفقر وسوء الحال الاقتصادية، لأن أكثر القرى كانت قد خلت من الرجال الأشداء القادرين على الأعمال الزراعية، وتولى هذه الأعمال الشاقة النساء ومن هم في حكم النساء من الشيوخ الفانين والأولاد الضعاف، فساءت حال الزراعات، ونقصت الحاصلات وأنتشر الفقر والضيق.

ثم إنهم نظروا فوجدوا أنهم في ثورة متصلة الحلقات من نحو ربع قرن من غير أن تمتد اليهم يد بالعون والمساعدة من خارج حدودهم، ومن غير أن يستطيعوا حتى الاتصال بخليفة المسلمين ليعرضوا عليه حالهم، وما يعانونه من الشدة وسوء الحال.

لا بد أن هؤلاء المجاهدين - أو أغلبهم - فكروا في هذا كله، فرأوا سوء الحال المنذر بأسوأ مصير، فوهنت عزائمهم وتراخت وبدأ الناس يتسللون من حول شامل شيئاً فشيئاً، ثم بدأت الحرب المعروفة بحرب القرم بين الروس والحلفاء: (الأتراك والإنكليز والفرنسيين). في النصف الثاني من سنة 1270هـ، واستمرت إلى النصف الثاني من سنة 1272هـ، ولكن الشيخ شاملا لا يستطيع انتهاز هذه الفرصة المواتية. لما قدمنا من الاسباب، ولم يستطع الحلفاء، مد يد المساعدة للشيخ شامل لأن الطريق بينه وبينهم كانت مقفلة تماماً.

أقول هذا على الرغم مما جاء في (لاروس) في أثناء ترجمة الشيخ شامل من (أن الحلفاء لم يقصروا في تقديم المعونة إلى شامل، إذ كانوا يقدمون إليه ما يحتاجه من لوازم حربية).

اقرر هذا لسببين اثنين: الأول أن الطريق بين الحلفاء والشيخ شامل كانت مغلقة تماما من جميع الجهات، فلم يكن من الممكن الاتصال به من الخارج.

والسبب الثاني هو أن الذين أرخوا لثورة الشيخ شامل وذكروا دقائقها، وتتبعوا تفصيلاتها لم يذكروا شيئا عن هذا العون المزعوم. على أنه لو كان حديث هذا العون صحيحا لرأينا شيئا من الحياة والانتعاش في الثورة إبان حرب القرم، ولكن على العكس من ذلك تماما نجد شيئا من الهمود والخمود يعم أرجاء البلاد طول تلك المدة. إذا صرفنا النظر عن بعض الحوادث المتفرقة التي وقعت هنا وهناك في فترات متقطعة. مما لابد من مثله بين فريقين طال أمد القتال بينهما اكثر من خمسة وعشرين عاما.

8 - لما انتهت حرب القرم، ووقع الروسيين شروط الصلح مع الحلفاء في باريس في 30 مارس سنة 1856م و22 رجب سنة 1272هـ تفرغوا لقتال شامل، ووجهوا كل همهم للقضاء عليه، وإنهاء حال الثورة في جبال القوقاز التي طال عليها الامد، ولهذا نجد الروسيين يجهزون قوة عسكرية كبيرة مكونة من نحو (60. 000) رجل ويرسلونها إلى القوقاز، ثم تتابعت حملاتهم العسكرية بعد ذلك كما نشط جواسيسهم ودعاتهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان إلى جانب الروسيين بما كانوا ينثرونه من الأموال الطائلة. فلما كان أواخر سنة 1274هـ. (1858م) كان كثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الشيخ شامل، واخذ يقوم ببعض الخدمات للقوات الروسية، كشق الطرق وحراستها وما إلى ذلك، وفي شهر رجب سنة 1275هـ (فبراير سنة 1859م) جاء الروسيون بقوة كبيرة، وحاصروا شاملا وأنصاره في مقر قيادته في قلعة (بكى درغية).

ضيق الروسيون الحصار على شامل واصحابه، وقاتلوه قتالا شديدا إلا انهم لم ينالوا منه نيلا لحصانة القلعة وشدة دفاع المجاهدين وبعد نحو أربعة اشهر من هذا الحصار تراجع الروسيون وفكوا الحصار عن القلعة ومن فيها، فانتهز الشيخ شامل هذه الفرصة، وخرج مع جميع أصحابه، ونقل كل ما أمكن نقله من المدافع والمهمات والأرزاق، وذهب إلى قرية (ايشجيلي) ورابط فيها إلا أن الروسيين لاحقوه هنا أيضاً، وهاجموه وأحاطوا به، وبعد أن استمر القتال بين الطرفين نحو شهرين اضطر الشيخ شامل - تحت تأثير قلة رجاله وسلاحه الذي بقى لديه - إلى الانسحاب من هنا أيضاً، واتجه بأهله وعياله ومن رافقه من مخلصي أصحابه إلى قلعة (غونيب) الحصينة، وتحصن فيها، كان ذلك في أول المحرم سنة 1276هـ (31يولية سنة 1859م).

9 - تحصن الشيخ شامل بقلعة (غونيب) الحصينة، ثم لحق به بعض المجاهدين المخلصين حتى بلغ عددهم نحو ثلاثمائة رجل من المحاربين غير النساء والأطفال من آل شامل.

ولكن ماذا عسى أن يصنع هؤلاء الثلثمائة رجل أمام هذه الجيوش الجرارة التي أحاطت بالقلعة إحاطة السوار بالمعصم؟ في هذه الأثناء صدرت إرادة قيصر الروس إلى قائد قواته في القوقاز بضرورة القبض على الشيخ شامل حيا مهما كلف ذلك من ثمن.

ولهذا أخذت القوات الروسية تضيق الخناق على قلعة (غونيب) وفي الوقت نفسه طلب قائد الحملة الروسية من الشيخ شامل التسليم، ووعده بالإبقاء على حياته هو ومن معه من المجاهدين، والنساء والأطفال.

(البقية في العدد القادم)

برهان الدين الداغستاني

-