مجلة الرسالة/العدد 73/صحف مطوية من التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 73/صحف مطوية من التاريخ الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 11 - 1934


2 - العرب في غاليس وسويسره

للأستاذ محمد عبد الله عنان

انتشرت المستعمرات والمعاقل العربية خلال القرن العاشر في بروفانس وسافوا وبييمون وسويسره كما بينا، وبسط العرب سيادتهم على ممرات جبال الألب وعلى الحدود بين غاليس وبلاد اللونبارد (شمال إيطاليا) وبينها وبين سويسره، وبلغوا في تقدمهم في غاليس مدينة جرينوبل، واحتلوا في سويسرا ولاية فاليه ومفاوز جورا المتاخمة لبرجونية، واحتلوا في إيطاليا الشمالية ولاية ليجوريا. وكانت معاقلهم في بروفانس ولا سيما حصن (فركسنيه) قواعد غزواتهم وملاذ قوتهم وسيادتهم. والظاهر أنهم اتبعوا نفس هذه الخطة في سهول بيمون فأنشأوا فيهاسلسلة من الحصون والقلاع القوية لتكون مركز غزواتهم في بلاد اللونبارد وفي سويسره؛ فإن الرواية الكنسية التي كتبها حبر معاصر من دير نوفاليس تذكر لنا اسم حصن عربي في تلك الأنحاء وتسميه (فراشنديلوم) والمظنون أنه هو المكان الذي تعرفه الجغرافية الحديثة باسم (فراسنيتو) وهو الواقع في لومبارديا على مقربة من نهر (بو). وتقص علينا نفس هذه الرواية الكنسية أيضاً أن سيداً نصرانياً من سادة تلك الأنحاء يدعى أيمون دفعه شغف المغامرة والكسب إلى محالفة العرب، فانضم إليهم واشترك في غاراتهم الناهبة، وفي ذات يوم وقعت بين السبايا امرأة رائعة الحسن، فاستبقاها أيمون لنفسه، ولكن زعيماً عربياً استحسنها وانتزعها منه قسراً، فغضب إيمون، والتجأ إلى كونت روتبالدوس حاكم بروفانس العليا، وفاوضه سراً في محاربة العرب وإنقاذ البلاد منهم، فرحب الكونت بهذا المشروع، ودعا السادة إلى معاونته، واستطاع أن يحشد قوات كبيرة وهوجم العرب في بييمون من كل صوب ومزقوا، وسقطت قلاعهم في يد النصارى، وذهب سلطانهم في تلك الأنحاء.

وتقص الرواية الكنسية أيضاً قصة مؤامرة دبرها كونراد ملك برجونية لإهلاك العرب النازلين في أملاكه، في جورا وعلى حدود برجونية، والمجر الذين كانوا يشاطرونهم يومئذ الإغارة والعيث في تلك الأنحاء. وذلك أنه كتب إلى العرب يستحثهم لقتال منافسيهم المجر، وانتزاع ما بيدهم من الأراضي والضياع والخصبة؛ وكتب مثل ذلك إلى العرب يستحثه لقتال المجر والمعاونة على إجلائهم، وعين مكاناً للقاء الفريقين؛ فالتقت الجموع المتنافسة من العرب والمجر ونشب بينهما قتال هلك فيه كثير من الفريقين، ثم اشرف كونراد بجموعه ومزق البقية الباقية من الفريقين قتلاً وأسراً، وتضع الرواية تاريخ هذه الواقعة في سنة 952م؛ ولكنها لا تعين مكان حدوثها.

ومنذ منتصف القرن العاشر يأخذ نجم أولئك العرب المستعمرين المغامرين في الأفول، وتضمحل سيادتهم في تلك الأنحاء؛ بيد أنهم لبثوا مدى حين بعد ذلك يحتلون كثيراً من مواقع سافوا؛ ويجوبون أنحاء سويسرا كلها في طلب الغنيمة والسبي. وقد اعتادوا على حرب الجبال وحذقوا أساليبها؛ وبلغوا في توغلهم في سويسره مدينة سان جال على مقربة من بحيرة كونستاس، وانشأوا ثمة كثيراً من القلاع والأبراج التي ما زالت تقوم منها إلى اليوم بعض الأطلال والبقايا، ولبثوا حيناً في سان جال، حتى حشد رئيس ديرها حوله جمعاً من المقاتلين الأشداء، وفاجأوا العرب في جوف الليل ومزقوهم قتلاً وأسراً، وبذلك خفت وطأة الغزوات العربية في شمال سويسرا.

واستمرت المستعمرات والمعاقل العربية في دوفينه وبروفانس وبعض جهات الألب؛ وكان قربها من (فركسنيه) أمنع المعاقل العربية يمدها بأسباب الجرأة والعون، ويمدها قربها من البحر دائماً بإمداد جديد من المتطوعين والمغامرين من ثغور الأندلس وأفريقية.

في ذلك الحين كان أعظم أمراء النصرانية أوتو الكبير (أوتون) ملك ألمانيا، وكان أعظم أمراء الإسلام عبد الرحمن الناصر خليفة الأندلس؛ وكان للناصر مع معظم أمراء النصرانية، من إمبراطور بيزنطة إلى ملوك الشمال والغرب، علائق سياسية منظمة؛ وكانت له مع أوتو الكبير علائق ومراسلات. فلما رأى أمراء غاليس أنهم لا يستطيعون رد العرب عن أملاكهم وأراضيهم، سعوا إلى الإمبراطور أوتو زعيم النصرانية أن يعاونهم بمفاوضته الناصر زعيم الإسلام في إنقاذهم من هذا النير المزعج؛ وكان المفهوم دائماً أن حكومة قرطبة تحمي هذه المستعمرات العربية النائية وتمدها بعونها الأدبي على الأقل. فعول الإمبراطور أوتو على السعي لدى الناصر في تحقيق هذه الغاية؛ وأوفد إليه في سنة 956 سفارة على رأسها حبر يدعى (جان) فقصد إلى أسبانيا عن طريق فرنسا، ووفد على قرطبة يحمل بعض التحف والهدايا طبقاً لرسوم العصر، واستقبل بحفاوة بالغة وأنزل في منزل خاص ريثما يستقبله الخليفة. وتتفق الروايات العربية والنصرانية في وصف مظاهر العظمة والبهاء التي كانت تبدو بها قرطبة، ويبدو بها البلاط الأموي يومئذ. وتقص علينا الرواية الكنسية المعاصرة تفاصيل هذه الرواية، فتقول: إن الناصر لم يستقبل سفير أوتو في الحال، وإنه كان يحقد على أوتو لأنه تعرض في بض مراسلاته للإسلام، ولأنه كان قد اعتقل مدى حين سفيراً نصرانياً أرسله إليه الناصر، ولذلك أمر الناصر باعتقال السفير (جان) حتى يرسل سفيراً إلى أوتو يستوثق من عواطفه ونياته نحوه؛ واختير لهذه السفارة كالعادة قس من رعايا الخليفة، وكان أوتو يومئذ يشتغل ببعض الحروب الداخلية، فأبدى تساهلاً في قبول وجهات نظر الخليفة. ولما عاد السفير، ارتاح الناصر لنتائج سفارته، وأذن برؤية سفير الإمبراطور، فاستقبل استقبالاً فخماً ظهرت فيه عظمة البلاط الأموي؛ وتحدث إلى الناصر عن الغرض من سفارته. ولا نعرف ماذا كانت نتيجة السفارة، لأن الرواية الكنسية لا تحدثنا عن ذلك؛ ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة هي أنها ليست لها علاقة بالمستعمرات العربية في غاليس، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل لديها. وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة الأندلس لم تكن تعنى كثيراً بشأنها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها وتوغلها في الأراضي النصرانية بعين العطف. على أن لويتبراند، وهو مؤرخ كنسي معاصر يؤكد أن الخليفة كان يحمي هذه المستعمرات ويمدها بالتشجيع والعون.

وبعد ذلك بقليل (في نحو سنة 960) أخرج العرب من معاقلهم في آكام سان برنار؛ ولسنا نعرف تفاصيل ذلك الحادث؛ ولكن المحقق أن العرب أبدوا كعادتهم منتهى البسالة في الدفاع عن مواقعهم؛ والظاهر أيضاً أن القديس برنار (سان برنار) الذي سميت هذه الآكام باسمه كان من أبطال الموقعة التي نشبت وانتهت بجلاء العرب.

واستمر العرب في دوفينه وبروفانس، وكثيراً ما دعوا إلى التدخل بين سادة هذه الأنحاء. ولما غزا الإمبراطور أوتو بلاد اللونبارد، وأخرج منها ملكها بيرانجيه، التجأ ولده أدالبرت إلى عرب (فراكسنيه) ليعاونوه في استعادة ملكه. وكان هذا التحالف بين السادة والعرب يقوي سيادة الغزاة ويدعمها كلما آذنت بالانهيار. بيد أن هذه السيادة قد أخذت في الاضمحلال منذ فقد العرب معاقلهم في بلاد الألب. وفي سنة 965هـ أخرج العرب من مدينة جرينوبل ومن واديها الخصب (جريزبفودان) وطوردوا في تلك النواحي وساءت أحوالهم؛ وأعلن الإمبراطور أوتو بعد ذلك بعامين أو ثلاثة، وهو يومئذ في إيطاليا أنه سيتولى طرد العرب من الأراضي النصرانية، ولكنه توفي دون القيام بمشروعه.

ثم دنت بوادر المعركة الحاسمة، وحدث في ذلك الحين أن حبراً كبيراً ذائع الصيت هو سان ماييل، وهو أسقف دير كلوني من أعمال برجونيه، حج إلى رومه، ولما عاد من طريق دوفينه أسره العرب المرابطون في الجبال مع جماعة كبيرة من الحاج، واشترطوا عليهم فدى فادحة؛ فدفعت بعد عناء، وأطلق سراح سان ماييل وزملاؤه. ولما عاد سان ماييل إلى مقامه دعا مواطنيه إلى إنقاذ البلاد من عيث الغزاة، وأذكى حماستهم وسخطهم، وذاعت قصة أسره وما يعانيه الحاج من شر العرب وعدوانهم، فنهض سيد من سادة تلك الأنحاء ويدعى بوبون (أو بيفون) وانتهز فرصة الحماسة العامة، وجمع حوله كثيراً من المقاتلة، وبنى حصناً في سترون على مقربة من حصن كان يملكه العرب، ولبث يتحين الفرص لمفاجأة العرب والاستيلاء على حصنهم، حتى استطاع ذات يوم أن يحمل بعض الحراس على فتح الأبواب، فتمت الخيانة، وباغت النصارى العرب في حصنهم، وقضوا عليهم قتلاً وأسراً (سنة 972م).

وفي الوقت نفسه التف النصارى في دوفينه حول زعيم يدعى جيوم، وهاجموا العرب في جميع مراكزهم وقلاعهم ومزوقهم في كل ناحية، وبذا انهارت سيادتهم في دوفينه ولم تبق إلا في بروفانس. ولما قوى جيوم وكثر جمعه، وبسط نفوذه على بورفانس وتلقب بألقاب الإمارة، واعتزم أن يخرج العرب نهائياً من تلك الأرض؛ فدعا السادة لمعاونته ومنهم كونت نيس، ورأى العرب أن العاصفة تنذر بإجتياحهم من كل ناحية، فاستجمعوا كل أهبتهم وقواهم، ونزلوا من الآكام إلى البسيط في صفوف متراصة ووقعت بينهم وبين النصارى معركة هائلة في (تورتور)؛ فهزم العرب، وارتدوا إلى قلاعهم، ولاسيما (فركسنيه) التي غدت ملاذهم الأخير؛ فطاردهم النصارى أشد مطاردة، وضيقوا الحصار عليهم؛ فحاولوا الفرار تحت جنح الليل إلى الغابات المجاورة، ولكن النصارى لحقوا بهم، وأمعنوا فيهم قتلاً وأسراً وأبقي على من استسلم منهم، وعلى المسالمين الذين كانوا يحترفون الزرع في الضياع المجاورة، وفر كثيرون من طريق البحر، وتنصر كثير منهم، وبقي نسلهم في تلك الأرض طويلاً.

وهكذا سقط حصن (فراكسنتم) أو فراكسنيه سنة 975م بعد أن لبث زهاء ثمانين سنة مركزاً قوياً للغزوات العربية في غاليس؛ وقسمت أسلاب العرب وأراضيهم بين السادة والجند الذين اشتركوا في هذه الحرب الصليبية، وانهارت سلطة العرب في تلك الأنحاء.

أما المستعمرات العربية التي كانت مبعثرة في آكام الألب، فيقال أنها طوردت ومزقت في نفس الوقت، واعتنق الذين أسروا النصرانية؛ ولكن توجد رواية أخرى خلاصتها أن هذه المستعمرات لبثت في معاقلها نحو جيل آخر، حتى تولى مطاردتها وسحقها زعيم يدعى جيرولدوس. وعلى أي حال فلم تأت أواخر القرن العاشر حتى ذهبت سيادة العرب في غاليس وسويسرا؛ ولم يجب أحد في أفريقية والأندلس صريخ الغوث الذي وجهه أولئك المستعمرون البواسل إلى إخوانهم، لأن الحوادث الداخلية لم تكن تسمح يومئذ ببذل هذا العون.

على أن ذلك لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية في تلك المياه؛ ففي سنة 1003م، سارت حملة بحرية من مسلمي الأندلس، ونزلت بجوار أنتيب في جنوب فرنسا، واجتاحت الأراضي المجاورة. وفي سنة 1019م، نزلت حملة مسلمة أخرى في ظاهر أربونة، وحاولت أن تستولي عليها، ولكنها هزمت ومزقت. وفي سنة 1047، هاجمت حملة أخرى جزيرة ليران الواقعة بالقرب من مرسيليا وأسرت عدداً من الرهبان. وظهر في ذلك الحين زعيم أندلسي جرئ هو مجاهد العامري أحد أمراء الطوائف، وصاحب دانية وجزائر البليار، واهتم بأمر الغزوات البحرية، فسار في أسطوله إلى مياه كورسيكا وسردانية؛ وغزا سردانية واحتل بعض أنحائها، (سنة 405هـ - 1014م)، ولكن النصارى استردوها على الأثر؛ ولبث مجاهد العامري الذي تسميه الرواية النصرانية (موجيه) أو موسكتوس، مدى حين سيد هذه المياه يبث فيها بحملاته الرعب والروع.

هذه هي قصة العرب والغزوات العربية في غاليس وبلاد اللونبارد وسويسرا، وهي قصة تغفل الرواية الإسلامية كثيراً من أدوارها ووقائعها؛ ولكنها تشغل فراغاً كبيراً في الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة، وهذه الروايات هي عمدتنا فيما ننقل من سير هذه الغزوات الشهيرة. ومن المحقق أنها مشبعة بروح التحامل والخصومة في كثير من المواطن؛ ولكنا نستطيع مع ذلك أن نتبين منها أهمية الدور الذي قام به أولئك المجاهدون والمغامرون المسلمون في تلك الوهاد والآكام النائية، وما كان لهم بين هاتيك الأمم من السيادة والنفوذ مدى عصور.

(للبحث بقية).

محمد عبد الله عنان

المحامي