مجلة الرسالة/العدد 73/في الأدب الدرامي

مجلة الرسالة/العدد 73/في الأدب الدرامي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 11 - 1934


15 - الرواية المسرحية

في التاريخ والفن

بقلم: أحمد حسن الزيات

تتمة

الغنائية (الأوبرا '

الغنائية

الغنائية هي درامة شعرية جدية أو هزلية تؤلف من الغناء والإنشاد وتأبى الحوار الكلامي، وتقبل الخوارق كالأشباح والأرواح والهواتف، وتوقع على أنغام الموسيقى، وتختلط أحياناً بالرقص، وتعنى كل العناية بالزينة والرياش. وهي غاية ما وصل إليه الجمال الفني والذوق الإنساني، لأنها مجمع الفنون الجميلة ومظهر الآداب الجليلة ومتعة النفوس ولذة الحواس بما تفيضه على العيون والآذان والأذهان من جميل الصور وحلو النغم ورائع الشعر، بله ما تقتضيه من كمال الفن الآلي لإحداث الخوارق وتغيير المناظر. فهي ولا ريب أفصح الألسنة إبانة عما بلغته القرائح من النبوغ وأدركته الفنون من النضوج في عصرها الذي مثلت فيه.

على أن قوام الغنائية وفروعها هو الموسيقى والمناظر، فهي تنزل الكلام والحادث والتعقيد في المحل الثاني منها. لذلك لا تجد كلامنا عنها إلا إجمالاً يكاد يقفك عند التعريف والتقسيم. وقبل أن نأخذ في تقسيم الغنائية يحسن بي أن أنقل إليك ما قاله في هذا الصدد الفيلسوف ابن رشد في تلخيصه كتاب الشعر لآرسططاليس. وما قاله لا يدخل في موضوعنا إلا من الباب التاريخي. وهذا الملخص قد طبعه الأستاذ المستشرق (لاريجو) بمدينة فلورنسا سنة 1873 قال: (المحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفق، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذا قد يوجد كل واحد منها منفرداً عن صاحبه مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ، أعن الأقاويل المخيلة الغير موزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة أي الأندلس).

ولا مرية في أن أعاريض الموشحات والأزجال أنسب لنظم الغنائيات من سائر بحور الشعر لحلاوة نغمتها وسهولة توقيعها وتنوع قوافيها.

فالغنائية تنقسم باعتبار تلحينها إلى أجزاء نسردها لك دون أن نعرض لها، لأنها ليست من شأننا ولا مما يدخل في علمنا. وهي الافتتاح، والمقدمة، والإنشاد، والألحان، والمثاني، والمثالث، والمرابع، والمخامس، والخورس، والختام في نهاية كل فصل. فالافتتاح ما يسبق رفع الستار، والمقدمة ما يهيئ للعمل؛ والإنشاد نوع من الغناء يحل محل الحوار الكلامي دون أن يتقيد بوزن، والمثاني والمثالث والمرابع والمخامس قطع يزدوج فيها الصوت أو يثلث أو يربع أو يخمس، والخورس ما فوق ذلك. على أن اجتماع هذه الأجزاء ليس ضرورياً ولا جوهرياً. فالملحن يستطيع أن يغفل منها ما لا يتفق مع الرواية.

ثم تنقسم الغنائية باعتبار تأليفها إلى غنائية جدية، وهي ما كان موضوعها سامياً وعملها رائعاً وأداؤها غنائياً كله. فلا تجيز الحوار النثري وإنما تستبدل به الإنشاد، وغنائية هزلية وهي ما تجيز الحوار النثري في خلال القطع الغنائية.

الغنائية الجدية '

ليس من اليسير أن تجد لهذه الغنائية تعريفاً جامعاً لتنوعها وتفرعها، واختلاف الرأي فيها بين الفرنسيين والإيطاليين؛ فإن لكلا الشعبين نظرية فيها سار عليها ودعا إليها. ولعلنا إذا ذكرنا النظريتين تستطيع أن تقف منهما على موضوع الغنائية ومداها.

فالنظرية الفرنسية زعيمها (كينو) وهي منبنية على تقليد الملحمة في استعمال الخوارق والأعاجيب وتنوع المناظر وتعدد الصور، ونقل كل ذلك إلى عين الناظر كما تنقله الملحمة إلى ذهن القارئ. فقد يكون التأليف كله مختلقاً غريباً، ولكن في هذا الاختلاق إتفاقاً واتساقاً تنتج منهما الحقيقة، كما أن الموسيقى تظهر جمال الخوارق، والخوارق تبين إمكان الموسيقى. فأنت في جو جديد يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ويضيف إلى جمال الخيال سحر الطبيعة، وذلك كله يسير في انسجام والتئام ودقة. أما العمل الروائي فواضح يسهل عقده وحله، والحوادث يتوالد بعضها من بعض، والأهواء رقيقة تشتد حيناً ثم ترق، والأخلاق ساذجة، والمناظر متنوعة، والجاذبية قوية مؤثرة، ولكنها تتراخى أحياناً فتخفف عن الأعصاب وترفه عن النفوس.

تلك هي غنائية (كينو) ونظريته: يجمع كل ما يستطيع من الوسائل ليخلب السمع ويبهر البصر؛ وهو لذلك يستمد موضوعاته من الأساطير والسحر، فيملأ المسرح بالأعاجيب والصور، ويهيئ لنفسه الانتقال من الأرض إلى السماء ومن الجنة إلى النار مهيمناً على الطبيعة مستولياً على الوهم فاتحاً للمأساة طريق الملحمة، ليجمع بين فضائل النوعين، ويوفق بين مرمى القصيدتين.

ومزية هذه الطريفة الخرافية أن تكفي الشاعر مؤونة التفصيلات الدقيقة التي تطلبها الحقيقة، فإن الموضوعات التاريخية تقتضي جلاء الغامض وتعليل الحوادث وتقريب البعيد وإمكان المستحيل.

أما النظرية الإيطالية فزعيمها (ميتا ستاز) وهي مبنية على محاكاة الطبيعة وتوخي التأثير والبلوغ بالمحزنات الفواجع إلى حد لم تبلغه المأساة. فهو يكسو الأفق بالسواد، ويصبغ المسرح بالدم، ويسرع بحركة العمل وهو مغرق في الإشارة والإثارة بروعة الأداء وحدة الهوى. وفضل هذه النظرية على الأولى ظاهر في قوة الأثر ودقة المواقف وجمال الحقيقة وسهولة الإمكانية. لذلك عني الشعراء والموسيقيون بالتوفيق بين النظريتين والجمع بين الطريقتين ليدركوا مزايا هذه وتلك. فهم يمزجون الصور العجيبة بالرهيبة، والمواقف الطريفة بالعنيفة، والمناظر التي تسحر العين بالتي تخلب اللب.

على أن الغنائية ليست مقصورة على الخوارق والمحزنات، وإنما تتناول الأناقة الحضرية والحياة الريفية والخلق الفكه والهزل المضحك، على شرط أن يتسق كل ذلك في طبيعة حية وحركة قوية وتنوع جاذب.

الغنائية الهزلية '

أما الغنائية الهزلية فاسم يطلق اليوم على درامة جدية الموضوع فكهة الأسلوب، تخلط الغناء الشعري بالحوار النثري، وتعنى بتعقيد العمل الروائي. ومنشأ هذا النوع كان في مستهل القرن السابع عشر، ظهر أولاً في شكل ملهاة غنائية كانت تمثل في سوقين شهيرتين: (سان جرمان) و (سان لوزان). ثم أخذ مع الزمن يقترب من الغنائية الجدية بتغليب جانب الموسيقى والغناء حتى لم يبق بينهما اليوم إلا فروق سطحية شكلية أهمها الأسلوب الفكاهي. فإطلاق هذا الاسم على الغنائية التي لا نصيب للهزل فيها إطلاق غير صحيح، لأن الغنائية إنما وضعت في الأصل للدلالة على كل عمل موسيقي، ولا سيما العظيم الجدي منه. فإضافتهم صفة الهزل إليها دليل على أنهم يريدون بها عملاً أقل في العظمة، وأقرب من الهزل، وأقبل للحوار النثري. ويؤيد هذا الرأي أن الغنائية الهزلية أو الابراكوميك سليلة المهزلة (الفودفيل) ولا يفرق بينهما إلا أن ألحان المهزلة كلها معروفة مألوفة من قبل ثم تقتبس لأوزان جديدة تؤلف للرواية. أما ألحان الغنائية الهزلية فهي مصنوعة لأوزانها خاصة، ولذلك كان شعرها محكم الرصف بديع الوصف، يقوم عليه الشطر الأكبر في نجاح الرواية.

وغبرت الغنائية الهزلية حقبة من الدهر وهي خاضعة لسلطان المهزلة فلا تستطيع أن تتجاوز مداها، ولا أن ترتفع عن مستواها، وإنما كانت تستعير أساليبها الحية، وأناشيدها الطلية حتى جرؤ الملحنون على أن يطلبوا إلى المؤلفين أن يوسعوا الدائرة القديمة، وأقدموا هم أيضاً على ابتكار ألحان جديدة، واقتباس بعض المثاني والمثالث والأشكال من الغنائية الجدية ما دامت تتصل بها وتتعلق بسببها، فلما صارت الغنائية الهزلية فناً أدبياً وعملاً روائياً حقيقياً أصبح الكاتب يضع روايته حراً من كل قيد، ثم يدفعها إلى الملحن فيختار لها فكرة موسيقية تقوي التعبير عن الغرض. وهم اليوم يميلون إلى تقليل الحوار وتكثير الغناء، ورد هذا النوع إلى شكل لا يكون معه إلا درامة غنائية وملهاة غنائية لا يدخل فيها ما ليس منها حتى لا يقول فيه القائلون اليوم أنه نوع مزيف، وحتى لا يصفه (تيوفيل جوتييه) (بأنه سفيح قبيح، قد خلط بين وسيلتين متباينتين من وسائل التعبير، فجعل الممثلين يسيئون الغناء بحجة أنهم ممثلون، والمغنين يسيئون التمثيل بحجة أنهم مغنون).

على أنه بالرغم من هذا النقد الوجيه يستحق العناية والتأييد، لأنه سبب واصل بين ذوق العامة وذوق الخاصة، ودرج صاعد بالجمهور إلى الفن الموسيقي فيرفعه من حضيض (الفودفيل) إلى أوج (الأبرا).

وهنا نقف القلم معتقدين أن فيما بسطناه من قواعد الفن الدرامي بلاغاً للكاتب الشأن وسداً لنقص البيان العربي في هذا الباب.

الزيات