مجلة الرسالة/العدد 730/فرنسا ومستعمراتها

مجلة الرسالة/العدد 730/فرنسا ومستعمراتها

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1947



ما بين الاتحادين الفرنسي والسوفيتي

للأستاذ أحمد رمزي بك

ما كنت أعتقد حينما كتبت الكلمة الثالثة عن الاستعمار الفرنسي والتي أشرت فيها إلى ثلاث هيئات اتحادية تقف أمام الأمم الإسلامية وحريتها أن تبرز المتناقضات بهذه السرعة، فقد وضعت الاتحاد الهندوكي بجوار الاتحاد الفرنسي والاتحاد السوفيتي وقلت عنها إن كلاً منها يعطي لنفسه مظهر حركة تقدمية يصبغها بصبغة التحرر ويريد أن يقنع الضمير العالي أن الاتحاد هو وليد إرادة شعبية، وأنه في مصلحة الأمم والشعوب الداخلة فيه، ويعلم القائمون بأمر كل منها أن هذا بعيد عن الحقيقة بعداً تاماً، ولذلك سيكون كفاح الأمم الإسلامية في طريق الاستقلال التخلص من هذه السيطرة الاتحادية المفروضة عليهم شديداً في الهند والمغرب، قاسياً جداً في أواسط آسيا: ولكني مؤمن وواثق بأنهم سيتغلبون لا لأن الحق معهم وكفى، بل لأن قوانين الكون الملازمة لطبيعة الأشياء وتجارب التاريخ معهم، وستذهب قوات الطغيان التي تستعبد المسلمين أو تحاول ذلك هباء منثوراً وتندك صروح بنيت على تضليل الناس.

ومن قبيل هذه الثورة القائمة علينا، البرقية التي جاءت بأن البنديت نهر ويحذر الأمم العربية ويقول (إننا لن نعترف باستقلال أية دولة تقام في الهند، وسنعتبر الاعتراف من أية دولة أجنبية بهذا الاستقلال عملاً لا ينطوي على الصداقة).

وفي بعض ما ورد بالجرائد المصرية مقال عنوانه (الباكستان خير أم شر) ويقول بأن استقلال المسلمين في الهند يتعارض مع العالمية التي هي من مظاهر الكون. ونحن لا نعارض هذه العالمية ولكننا نفرض استقلال البلاد الإسلامية كشرط أساسي للتعاون والإقليمي ثم التعاون العالمي وإلا تعرض الجماعات الإسلامية للزوال وضاعت شخصيتها وأنهد كيانها.

وأعود إلى فرنسا وإمبراطوريتها، وما تنويه من فرض الاتحاد والإدماج على شعوب العروبة والإسلام، بعد أن رأينا رجال فكر يسبقون التاريخ في هذه الناحية، ويرسمون خطط السيطرة والغلبة، فقد ذكرنا فيما تقدم إشارة عن مؤتمر برازافيل الاستعماري الذي عقد بإفريقيا عام 1944. وجمع أساطين الاستعمار ودهاته واستعرض برامج المستقبل، وأشار بتأكيد سياسة الاتحاد بين فرنسا وما تملكه من الأراضي الواسعة في إفريقيا وآسيا وصهرها في كتلة واحدة.

ويهمنا أن نتتبع المسائل العامة التي دارت المناقشات حولها فقد برزت هناك فكرتان: فكرة التعاون، وفكرة الإدماج، ولكل من الفكرتين أنصار وخصوم.

ومعنى التعاون إعطاء الأمم أو الأقاليم شيئاً من الحرية والحكم الذاتي بالتدريج، ثم دعوتها إلى التعاون مع الدولة صاحبة السيادة في نطاق اقتصادي كما هو الحال في بعض المستعمرات البريطانية. ومعنى الإدماج أن تفرض على الشعوب المحكومة أنواع من الإرهاب والترغيب تنتهي إلى إيجاد شعور يقول بأن مصلحة المجموع أن يندمج مع الأمة الحاكمة في جنسية واحدة.

ويقول خصوم التعاون إنه في النهاية يؤدي مع الزمن إلى حياة الدومنيون الاستقلالية، وهذا لا يتفق مع المنطق الفرنسي الذي يميل إلى المركزية ولا يسلم بتوزيع السلطات، وفي النهاية يعرض الكيان الإمبراطوري إلى الانهيار.

ويقول منتقدو الإدماج، إذا سرنا خطوات كبيرة في سبيل ذلك وتلكم خمسون مليوناً لغتنا وأخذوا بثقافتنا ودخلوا مجالسنا النيابية وحصلوا على حقوق المواطنين وضعنا مستقبلنا بين أيدي ناخبين أجانب من شعوب ملونة منحطة، وقد تغمرنا موجات فكرية وثورية لا نقدر على كبحها، أو قد تتحالف هذه العناصر مع عوامل الهدم الفرنسية وتعمل مع أحزاب اليسار لتفرض إرادتها؛ حينئذ يفلت الزمام من الأيدي الفرنسية الرشيدة العاقلة وتعرض حياة الأمة إلى أخطار جسيمة.

خرج مؤتمر برازافيل إلى الأخذ بحل وسط يجمع بين التعاون والإدماج: فسياسة التعليم بنيت على إدماج الشعوب في الثقافة الفرنسية، إذن يجب أن تشتد هذه السياسة التعليمية أن يكون هدفها إضعاف اللغات القومية وخصوصاً اللغة العربية. وفي المستعمرات الإفريقية تقرر منع التبشير باللغات القومية وجعل تدريس قواعد الدين الكاثوليكي باللغة الفرنسية.

ولن أطيل على القارئ سرد بقية القرارات فهي مطبوعة إذ ماذا يهمنا من أمر البلديات وطريقة انتخاب المجالس العامة بالمستعمرات وزيادة سلطة الحكام والتصديق على الميزانيات والقروض، ما دامت السيطرة المركزية لوزير المستعمرات قائمة ومادامت سياسة المؤتمر ترمي إلى تأكيد السيادة الفرنسية وتثبيت الرأي النهائي للجاليات الأوروبية في مستقبل المستعمرة، وجعل الكلمة العليا للكولون الفرنسي باعتباره ممثلاً للأمة الحاكمة صاحبة الأمر والنهي والسيادة.

فالسياسة التعليمية اتجهت إدماجياً مسترشدة بالنظم الروسية التي تستعين بالمدرسة على إخراج جيل من الناس يؤمن بالثورة وتعاليمها، كذلك المعلم الفرنسي من واجبه أن يفرض لغته ليخرج طائفة تفكر فرنسياً وتنطق بلسان فرنسي وتؤمن بعظمة وأهمية الحصول على الجنسية الفرنسية والافتخار بأن الفرد الأسود هو فرنسي أسود، وأن اللون لا يمنع أنه من سلالة الغاليين سكان فرنسا الأصليين وهذا نهاية ما يصل إليه الغرور الاستعماري.

ولكن سياسة الإدماج تواجه الشعوب الإسلامية، والإسلام والعروبة في عالم الاستعمار وباء يصعب مواجهته، ويستعصي التخلص منه، فهو راسخ في عقول ملايين من الناس وهو كالنار تحت الرماد، وقد أمضى الاستعمار مع الإسلام عشرات السنين وكلما خيل إلى المستعمرين أنهم فضوا مشاكله وقضوا عليه، برزت لهم الأدلة على أنهم ما زالوا بعيدين عن زمن القضاء على حيويته، وأنهم على ما أوتوا من قوة البطش وسعة السلطان، أعجز من أن يكسبوا أمامه المعركة النهائية والقول الفصل.

من هنا فكرت فرنسا في إيجاد مركز دائم للشؤون الإسلامية بمدينة الجزائر وأطلقت على هذه الإدارة: وزاة تنسيق الشئون الإسلامية. ولنلاحظ إن الاصطلاح الفرنسي يعتبر المسلمين كطائفة مهما كان عددهم كبيراً أي أن هؤلاء الناس لا يكونون أمة من الأمم وليس لهم وطن ولا رابطة مع الأرض التي يعيشون عليها: فهم رعايانا المسلمون، وهم مسلمون وكفى، وهذا رأيهم وهو خطير في نظري.

وتولى هذا المنصب في الجزائر صديقنا الجنرال كاترو وهو الذي عرفناه في سوريا ولبنان مندوباً سامياً، ولمسنا في شخصه اجتماع القائد والسياسي معاً، وبرهن على أنه صاحب عزيمة ودهاء وفكر ومقدرة، وهو يتظاهر بأن صديق للإسلام والمسلمين وأنه يعطف على أمانيهم المشروعة ويدفع الظلم عنهم، ويمثل في الوقت الحاضر فرنسا بموسكو عاصمة السوفيت، قلت دائماً إن رجلاً له مزايا كاترو وإلمامه وفهمه لشؤون الدنيا ودرايته بمشاكل الاستعمار لا يترك الوقت يمر أمامه من غير أن يشغله ببحث شؤون الإسلام في روسيا. نعم قد يكون اختياره كسفير لبلاده من قبيل الإبعاد السياسي في وقت ترفض العقلية الفرنسية وضع العسكريين في الصف الأول، ولكن لكاترو منزلته ورأيه وشخصيته. وللاتحاد السوفيتي سياسة مرسومة تجاه المسلمين، حقيقة إن الناس قلما يتعرضون لها، ولكن أعين الاستعمار لا تغفل عنها، لأن روسيا في توسعها وانتشار نفوذها واجهت المسلمين كما واجهت فرنسا الإسلام من قبل ومن بعد.

ولكن تجارب روسيا مع المسلمين غير تجارب فرنسا، فالأخيرة تحيا تحت سلطان الحروب الصليبية وتقاليدها إلى اليوم وهي حروب اشترك فيها غيرها من الشعوب وكانت نهايتها محزنة لأن السيوف التي انتصرت هي سيوف المسلمين، ومع هذا تقلب الكتب الفرنسية الحقائق وتجعل من الهزائم الفرنسية مفخرة للشعب ودوافع للعمل والجهاد ضد المسلمين.

أما روسيا فقد عاشت قروناً محكومة بالمسلمين ولاقت منهم شدة وعنتاً، وبين الكنيسة البيزنطية والمسلمين عراك طويل، ولم تبدأ حملات روسيا بجد ضد الأراضي التي يسكنها المسلمون إلا في عهد كاترين الثانية، إذ دخلت أقاليم إسلامية كبيرة تحت حكمها، وكانت أساليب الحكم الروسية سهلة واضحة؛ ذبح المسلمين وتشتيتهم أو تركهم إذا قبلوا الدخول في المسيحية، ولقد دخل ملايين منهم في الجنسية والديانة، ومن بقى محتفظاً بديانته سراً أعلن إسلامه بعد ثورة 1905 و1917.

ولما اتسع ملك الروس في آسيا الوسطى وقفقاسيا أخذوا يفكرون في إيجاد سياسة إسلامية، وأخذوا يقلدون الدول الاستعمارية الغربية، ولكن ثورة البلاشفة قضت على القيصرية وأعلنت حقوق الشعوب وحريتها وسمحت للمسلمين بإقامة شعائرهم الدينية بعد أن كانوا محرومين منها، ثم عادت فأعلنت الحرب على الأديان كلها، وكان من الطبيعي أن يحارب الإسلام كغيره وهو قوة عالمية ثورية شأنه شأن الحركة الشيوعية إذ يحمل كل منهما لواه العالمية، وتنفي فيه القوميات والعنصريات والطائفية. فالشيوعية تحاول التغلب على الإسلام في الجهات التي ساد فيها، ولها أساليبها الخاصة في هذا المضمار، التي جاءت نتيجة للتجارب التي بدأها لينين في سياسة التقارب مع الأمم المغلوبة في 1920 و1922 ثم انتهت إلى تحطيم الجمهوريات الوطنية وفرض الأنظمة الشيوعية والدخول في سياسة اتحادية تخضع أراضي السوفييت كلها لسلطة موسكو المباشرة.

وكان أن واجه الشيوعيون مشكلة حكم إمبراطورية استعمارية تحت نظام جمهوري اشتراكي وخطوا في السنوات الماضية خطوات جبارة في طريق استغلال واستثمار أراضي البلاد الإسلامية باسم جديد وأنظمة جديدة، وفرنسا من ناحيتها تحكم ملايين من الشعوب الملونة والأمم الإسلامية وتحاول أن تحتفظ بسيادة الجمهورية المركزية على أقاليم شاسعة: فهما تلتقيان في معالجة مشاكل متشابهة تلتقي عند هدف واحد هو المحافظة على وحدة إمبراطورية استعمارية بأي ثمن.

وإذا سرنا في المقارنة من الناحية الداخلية نجد أن فرنسا تحكم بلاداً لها شخصية أو شبه سيادة مثل مراكش وتونس وبعض أقاليم الهند الصينية، ولديها بقاع يحكمها أمراء وسلاطين بإفريقيا، أما الاتحاد السوفيتي فبعد أن حطم ممالك بخارى وخوارزم وحكم الإقطاعيين الذي عاشوا تحت ظلال القيصرية، عاد فأنشأ جمهوريات ذات سيادة إسمية في أذربيجان وتركستان وأزبكستان وتاجيكستان والقرغيز، وأعطى لأقاليم أخرى نظام الحكم الذاتي مثل الداغستان وبشكيريا وغيرها.

وهذه الأقاليم التي عددناها إسلامية وأهلها مسلمون ومعظم أقاليم الإمبراطورية الفرنسية أو أهمها من بلاد الإسلام ويسكنها المسلمون، ولذلك يحلو لرجال فرنسا أو يقولوا عن بلادهم إنها دولة إسلامية كبرى، والسوفييت وإن كانوا لا يفرون بالأديان، فأنهم مع ذلك على اتفاق مع الاستعمار الفرنسي في مواجهة المسألة الإسلامية باعتبارها معضلة تتطلب الحل ولها مشاكلها ومتاعبها ومضاعفاتها ولذلك تحتاج إلى دراسة وبحث، ولهذه سياسة خاصة بها: أي أن للإسلام سياسة مرسومة في كل من روسيا وفرنسا ترمي كل منهما إلى أهداف مختلفة ولكنهما تلتقيان في نهاية واحدة.

وكلاهما يسر على منهج الإدماج ونقصد به صهر القوميات في كتلة واحدة، ولكن الاتحاد يسير على نمط خاص به، فهو يفرض اللغة الروسية مع الفكرة الاشتراكية والفلسفة الماركسية ويقدهما في قالب واحد، وسار في هذا أشواطاً حتى في الجمهوريات المسيحية، لأن حكومة الاتحاد قررت تشتيت مجلس السوفييت المحلي في بلاد الكرج (جورجيا) لأنه عارض سياسة الاتحاد وقرر التمسك باللغة القومية وجعل لها المقام الأول في التعليم وللروسية المقام الثاني، ثم يتفق مع السياسة الفرنسية في إحياء لغات اندثرت وثقافات اندرست حين يهاجم الوحدة الإسلامية في آسيا الوسطى باسم الفن والتاريخ والثقافة.

ويشبه هذا النشاط سياسة فرنسا في التفرقة بين العرب والبربر حتى تظهر ثقافات متباينة في كل رقعة ويفقد الإسلام تلك الوحدة التي اشتهر بها وعرفت عنه.

فلهذا وغيره يبدو الاتحاد السوفيتي في أنظمته وكيانه كوحدة استعمارية تسيطر على أقطار المسلمين وتفرض عليهم حكماً خاصاً كأنموذج صالح لفرنسا يصح أن يحتذي في أشياء. والفرنسيون أذكياء وأهل منطق، يعرفون تماماً أن الأنظمة والدساتير لا تبني الممالك وإنما القوة الدافعة هي التي تحميها: والقوة الدافعة في أراضي السوفييت هي الحزب الشيوعي الذي يستند على قوته الثورية وأنه حزب عمالي ترتكز عليه الدولة وتخضع لمشيئته ويسيرها كما يشاء.

ولا تملك فرنسا هذه القوة المتصفة بالبطش والفتك، إذ هي لا تزال تأخذ بأنظمة الدساتير الديمقراطية وتعدد الأحزاب، وهناك مسائل أخرى تفترق عن السوفيت فيها، أهمها أنها تحترم الملكية الفردية وتشجع الشركات والأفراد في تولي الإنتاج الزراعي والصناعي، بينما الاتحاد السوفيتي لا يعترف بالملكية للفرد وإنما يأخذ بالاشتراكية ويجعل حق الملكية للدولة أو يعترف بالملكية التعاونية، وقد يلتقي النظامان فيما يخص الملكية بأراضي بعض المستعمرات؛ إذ يحرم التشريع الفرنسي على الأهالي ملكية الأرض ويسمح بها لشركات الاستثمار وللمستعمرين البيض، ولا نعرف مقدار حظ المسلمين في المزارع التعاونية بالروسيا فقد تكون بأكملها في أيدي الروس فهي لا تختلف إذن عن شركات الاستثمار الكبرى في المستعمرات الفرنسية، ولكن الثابت لدينا هو أن الأهالي المسلمين محرومون من حق الملكية في جمهورياتهم فهم إذن كأهل المستعمرات الفرنسية السود في هذه الناحية. ولم يكن تطبيق النظام الاشتراكي أو التعاوني لصالحهم بل لتقوية الجاليات الروسية وزيادة إفقارهم وضرب الذلة والإملاق عليهم.

هذه نظرات أولية تمكننا من تلمس بعض ما يقال له فوارق وبعض ما يلتقي النظامان الاستعماريان فيه من نواح. ولا نقدم جديداً حينما يتعلق الأمر بالأنظمة إذ هي الأسس التي قوم عليها الاتحاد، وفرنسا تقدر الفوارق والاتجاهات في الاتحاد السوفيتي ولكنها تعجب من الأنظمة كدعامة للوحدة، فدستور السوفييت يقول: -

(بأن الدولة اتحادية تقوم على أساس الاتحاد الاختياري بين الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية المتساوية في الحقوق).

وهذا نص مشجع لأن تأخذ به فرنسا في نظامها الجديد خصوصاً وأن معنى الاختيار غير معلوم لدى الروس.

إذ لا يذكر العالم إن إحدى الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى جاءت إلى الاتحاد وانضمت إليه باختيارها، وإنما دخلت الاتحاد بعد معارك دموية وقتال استمر طويلاً، ولذلك لن يكون هناك اختيار في الاتحاد الفرنسي كما قلنا.

وينص الدستور السوفييتي على حق تقرير المصير ويعترف لكل جمهورية بأنها ذات سيادة، ولكنه يقيدها في المادة 14 من الدستور نفسه وفيها كل ما يهدم شخصية واستقلال وسيادة الجمهوريات المقول بأنها مستقلة وذات سيادة. وهذا النص يجعل حق تقرير المصير غير موجود، ولذلك سنراه في دستور الاتحاد الفرنسي وستأخذ به حكومة الهند عند مواجهة دولة باكستان الإسلامية، وستتمسك به كل دولة اتحادية حينما ترمي إلى السيطرة والتحكم في مصير الأمم الإسلامية.

فمن المفيد أن نعرض هذه المادة مع بعض التفصيل ليستيقظ الفاغلون بمصر: فهذه المادة تجمع طائفة من الأمور الهامة الحيوية لكل شعب منها ما هو سياسي وعسكري واقتصادي ومنها ما هو ثقافي وتشريعي. فإذا بحثت عن الباقي من سيادة جمهوريات الاتحاد المستقلة وجدته ضئيلاً بحيث لا يصح أن يقارن بالسيادة التي تتمتع بها أية ولاية داخل نظام الولايات المتحدة الأمريكية.

فإذا سلمنا بأن حكومة الاتحاد ترى أن من حقها عقد المعاهدات وحصر التمثيل السياسي فيها وتسلم قضايا السلم والحرب. وتنظيم الدفاع وقيادة القوات المسلحة وحماية سلامة الدولة المستقلة، فإن هذه المادة تضيف أشياء أخرى تجعل النشاط الاقتصادي بأكمله خارج نطاق الجمهورية المستقلة، وبهذا يصبح الاستقلال وهمياً ولا فائدة منه؛ إذا تخضع المشاريع الصناعية والزراعية وإدارة المصارف ووسائل النقل والمخابرات ونظام النقد والتأمين وعقد القروض وكل ما يتعلق باستثمار الأراضي واستثمار الغابات ومساقط المياه في يد حكومة الاتحاد.

وعلاوةً على ذلك يسلب من الجمهوريات سلطتها على كل شؤون التعليم والثقافة، ويسلبها حقها في التشريع الداخلي الصرف، إذ تبقى سلطة حكومة الاتحاد هي العليا في كل ميادين المعارف والصحة، ويخضع المحاكم والقوانين من مدنية وغيرها حتى قانون الجنسية وإقامة الأجانب وتنقلاتهم لحكومة الاتحاد؛ هذا مع قرار الاتحاد بأن لكل جمهورية دستورها الخاص بها، وهنا تهزأ حكومة السوفييت بالعالم حينما تقول:

إن لكل دولة من الجمهوريات المستقلة مطلق الحرية في أن تنفصل عن الاتحاد السوفيتي.

ومن قبيل تحصيل الحاصل أن يقرر الدستور السوفييتي أنه في حالة التعارض بين القانون الخاص بأية جمهورية مستقلة والقانون الاتحادي وجب على الحكومة المستقلة تنفيذ قانون الاتحاد، فلا توجد هيئة عليا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية للفصل في تنازع الاختصاص أو تفسير الدستور.

من هذا نفهم ولع الفرنسيين بالاتحادية وأنهم بعد أن قلبوا أنظمة الاستعمار وأساليب من أمريكية وبريطانية وبرتغالية وهولندية وجدوها لا تشقى غليلهم ووجدوا مع اختلاف الأهداف في نظام الاتحاد السوفييتي ما يصح الأخذ والسير عليه، إذ فيه تأكيد لسيطرتهم وإبقاء لحكمهم.

ولذلك لم نخطئ النظر حينما جاهرنا بأن الأنظمة الاتحادية الفرنسية وفي بلاد السوفيت وما يجول بخاطر الهندوس من إنشاء دولة اتحادية بالهند، أنظمة وأسس رجعية تعسفية، حينما يتعلق الأمر بمستقبل الشعوب الإسلامية وحريتها، لأنها تعطي للاستغلال الاقتصادي والسيطرة والتحكم ثوباً جديداً.

أحمد رمزي