مجلة الرسالة/العدد 731/من تجارب المؤلفين

مجلة الرسالة/العدد 731/من تجارب المؤلفين

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

يكتب المؤلفون عن تجارب الناس في مناحي الحياة والتفكير. فمن حقهم بل من واجبهم أن يكتبوا عن تجاربهم التي تعنيهم وتعنى القراء، سواء في حياتهم الخاصة أو في علاقتهم بأولئك القراء. لأن هذه التجارب أقرب إليهم وأمس بعملهم، وهي - بعد - موضوع كسائر الموضوعات.

ومن هذه التجارب التي تتكرر عندي في السنوات الأخيرة تجربة استهداء الكتب التي يطلبها من لا يستطيعون شراءها.

وإنما أكتب في هذا الموضوع عسى أن أصل منه إلى نتيجة ترضي المؤلفين والقراء وتعينني على تحقيق الغرض من كل تأليف، وهو الاطلاع الصحيح.

فمن الحقائق التي أعبر بها عن شعور جميع المؤلفين أنهم يحبون أن تصل كتبهم إلى من يفهمها ويتبصر معانيها. ويؤثرون القارئالواحد من هؤلاء على ألف قارئ يشترون الكتب لأنهم قادرون على شرائها، ثم يتصفحونها تصفح العابر الذي لا ينفذ إلى طواياها، أو يتخذونها زينة على الرفوف. وكأنهم نقلوها من تلك الرفوف إلى عالم القبور.

وأقرب الأمثلة إلى تصوير هذه الحقيقة مثل المغني الذي يصغي إليه سميع واحد من وراء الجدران، ولكنه يرى أمامه في قاعة الغناء ألف أصم يحملون التذاكر التي اشتروها بأغلى الأثمان. فإن ذلك المغني ليعنى بذلك السميع الواحد ولا يعنى بجموع هؤلاء الصم الكثيرين، وإن بلغ منه حب المال أشد ما يبلغه في نفس بخيل.

ولو كان كاتب هذه السطور من الأغنياء لما طبع كتاباً إلا خصص منه نصف النسخ على الأقل للقراء الذين ينقدون ولا ينقدون. . . ينقدون المعنى ولا ينقدون الثمن الكثير أو القليل، ولكني لست من الأغنياء.

ولست مع هذا أتولى طبع كتبي بنفسي، بل أكل طبعها إلى الناشرين الموكلين بهذا العمل، كما يفعل معظم الأدباء في مصر وفي الأقطار التي تأسست فيها صناعة النشر والتأليف.

وهنا العثرة كما يقول صاحبنا القديم شكسبير.

فإذا جاءني طلب من قارئ يحب الاطلاع على بعض كتبي ولا يملك ثمنها فليس في وسع أن ألبي طلبه على رغبتي فيالتلبية إذا تبين لي من لهجة الخطاب أن صاحبه يحسن الكتابة ويحسن الاطلاع. لأن حصتي من النسخ لا تتجاوز بضع عشرات، منها ما أحفظه للمراجعة وإعادة الطبع، ومنها ما أهديه إلى الصحف أو إلى الزملاء الذين يبادلونني مؤلفاتهم ويحق لهم عندي ما يحق لي عندهم في عرف الزمالة والمجاملة، وما بقى هو قليل أرسله إلى من يصادفه حظ القبول من طلابه الأدباء.

والناشرون من جانبهم معذورون إذا نشروا مطبوعاتهم للبيع في الأسواق. لأن صناعة النشر لا تقوم على توزيع الكتب بغير ثمن، وليس في طاقة الناشر أن يفتح مكتبته لتوزيع نسخة بالثمن ونسخة بالمجان، وتدبير الوسيلة للتفرقة بين من يطلب فيجاب ومن يطلب فلا يجاب.

وتبقى بعد ذلك تلك الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن فريقاً من القراء يحبون الاطلاع ويحسنونه ولا يملكون ثمن الكتب التي يتشوقون إلى مطالعتها في كثير من الأحيان.

فما الحيلة في أمر هؤلاء؟

أعرف حيلة قد تدل على مثيلاتها وإن لم تكن هي بذاتها صالحة للتطبيق والتعميم في جميع الأحوال.

فمنذ نيف وثلاثين سنة طبع العالم المشهور الدكتور شبلي شميل مجموعة رسائله وفصوله وهي شرح بخنر على مذهب داروين وبعض المباحث في عالم النفس والاجتماع. وقدر لها ثمنا مائة قرش لجزأي المجموعة، وهما مجلدان حافلان.

وكنت يومئذ في أسوان، شابا ناشئاً أفتتح طريقي إلى الأدب والسياسة بجهد جهيد.

فكتبت إليه أقول ما فحواه: انك من دعاة الاشتراكية كما فهمت من مقالاتك وأحاديثك في الصحف والمجلات. ومعنى الاشتراكية أنك تستكثر المال على الأغنياء، وتود لو يتساوى فيه نصيب المجدودين ونصيب المحرومين. فما بالك أيها العالم الفاضل تضيف نصيب العلم إلى نصيب المال فتجعلهما معاً من حق الأغنياء دون الفقراء؟ أتظن أن الفقير لا يحق له أن يطلع على كتبك؟ أم تظن أن بذلك الجنيه المصري في كتابين أمر ميسور لكل فقير؟

وأصاب الخطاب مقنعاً من الدكتور الأريحي، فجاءتني منه نسخة مهداة، وقرأت في الصحف أنه خصص مائة نسخة للفقراء من القراء، ولا أذكر كيف تصرف في تفضيلطالب على طالب من طلابها الكثيرين.

إلا أن الدكتور شبلي شميل قد استطاع أن يفعل ذلك لأن الغيورين على العلم والثقافة أعانوه على طبع المجموعة، واكتتبوا بمبالغ من المال لتيسير الطبع الذي يليق بالكتاب. فنشر أسماءهم وما تبرعوا به في ذيل الجزء الأول وشكر لهم ذلك الصنيع.

ولست أقول إن طبع الكتب على هذه الطريقة نظام يتيسر العمل به لجميع المؤلفين، أو يغني عن طريقة النشر التي جرت عليها أمم الحضارة وفضلتها على كل طريقة أخرى، مع ما بها من عيوب.

ولكني أقول إن الأغنياء الغيورين على الثقافة يستطيعون أن يقيموا المكتبات العامة وأن يشتروا من كل كتاب نسخاً يوزعونها على معارفهم من الأدباء والناشئين النجباء، وإنهم مطالبون بهذا (الحل) الذي لا حل غيره لمسألة الاطلاع بين القادرين عليه بالفهم والعاجزين عنه بالفاقة. فإن رعاية السادة الأعلياء للأدب والأدباء معهودة في جميع العصور وبين جميع الأقوام، وهذه هي الرعاية التي تلائم أساليب الزمن ولا تشق على أحد من ذوي الأريحية واليسار.

على أننا في صدد الاستهداء نشير إلى ضرب من استهداء الكتب لانقره ولا نرضاه، ولو قدرنا على تلبية الطلب فيه.

ذلك هو استهداء الأندية والجماعات، وهي في هذا الزمن تنتشر بين كثير من البيئات، وتتعدد في كل حاضرة، وتضم إليها ألوفا من المشتركين.

فطلب الكتاب بغير ثمن مفهوم من الأديب الفرد الفقير، ولكنه غير مفهوم من مائة أو مائتين أو بضع مئات يتبرعون بالكثير أو بالقليل لإدارة الأندية وتأثيثها وتزويدها بوسائل الراحة وتزجية الفراغ.

فلو أنصف أصحأبيسبعيسبهعسيخهبعيسخهبعأصحاب هذه الأندية لبذلوا في النسخة الواحدة ثمن عشرين أو ثلاثين نسخة أو أكثر من عشرين وثلاثين!

لأن النسخة الواحدة يقرؤها عشرات بعد عشرات، وثمن النسخة الواحدة يتعاون عليه عشرات بعد عشرات. فليس الإنصاف أن يطلبوها بغير ثمن كما يطلبها الفرد الفقير، وإنما الإنصاف أن يبذلوا ثمنها على الأقل، إن لم يتجاوزوا ذلك إلى شراء نسخ كثيرة يتداولها القراء، ويتخذوا من التعاون بينهم سبيلا إلى الاطلاع الذي لا سبيل إليه للآحاد المتفرقين.

ويتخيل القارئ ما يكون لو أجيبت الأندية إلى طلبها العجيب من المؤلفين.

فقد تتسع المدينة لعشرات من الأندية يؤمها أعضاؤها الذين يعرفون تأسيس الأندية والاجتماع فيها، وهم على الأغلب من طبقات المثقفين والمكفيين، إن لم يكونوا من طبقة الموسرين والأعلياء.

وقد يبلغ هؤلاء الأعضاء عدة مئات أو عدة ألوف، وقد يعم الطلب من المدن كلها لا من مدينة واحدة أو مدينتين. فإذا استوفى هؤلاء أو بعض هؤلاء قراءة الكتب بغير ثمن فمن الذي يشتري الكتاب، وعلى من يعول المؤلفون والناشرون! ولماذا يأبى النادي على مشتركيه أن يطلبوا المرطبات بغير ثمن وأن يلعبوا البليارد بغير ثمن وأن يولموا الولائم بغير ثمن ويستثنى الكتب وحدها من هذه القاعدة فيجعلها تبرعاً مباحاً لا يدخل في الحساب!

إن الاستثناء الوحيد الذي يجوز في هذه الحالة هو استثناء الأندية الخيرية التي يختلف إليها فقراء الشعب للقراءة وسماع المحاضرات، ولكن العبء الأكبر في هذا الاستثناء ينبغي أن يحال على ذوي الأموال قبل أن يحال على ذوي الأقلام، لأن ذوي الأقلام ينهضون بعب الفكر ويحتاجون إلى من ينهض بأعباء معيشتهم في كثير من الأحوال.

هذه تجربة التأليف، وليست هي بأعجب التجارب ولا بأحوجها إلى التدبر والملاحظة، ولكنها شيء من أشياء، قد نعرضها (شيئاً فشيئاً) على شركاء المؤلفين في مهمة الثقافة والاطلاع، وهم جمهرة القراء.

عباس محمود العقاد