مجلة الرسالة/العدد 733/القصص

مجلة الرسالة/العدد 733/القصص

ملاحظات: قصة العمل والموت والمرض Труд, смерть и болезнь هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 733 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 21 يوليو 1947


أسطورة من روائع الأدب الروسي:

العمل والموت والمرض

للفيلسوف الروسي العظيم ليو تولستوي

للأستاذ مصطفي جميل مرسي

(هذه قصة الإنسانية من قديم الأزل. . وقصة البشرية منذ فجر التاريخ. . . تتجلى لنا فيها النوازع التي تضطرب بين انفس البشر، والعواطف التي تمور في قلوبهم، والنزوات التي تختلج في أفئدتهم. . .

تناولها تولستوي ببراعته البارعة الملهمة، وعقله الفذ الجبار - وقد راعه ما بلغته حال العالم من شر وفساد - فتلمس بين تجاربه البعيدة في الحياة، ودراسته العميقة للنفوس وحياً طريفاً صاغ منه القصة الرائعة. . . التي تتمثل فيها - على بساطتها - الدعوة إلى (الحب والخير) وهي دعوة طالما نادي بها تولستوي. بل ظل ينادي بها حتى أدركته منيته وقد بلغ الثمانين)

(م. جميل)

إنها الأسطورة من تلك الأساطير التي يؤمن بها (هنود جنود أمريكا). . . ويتناقلوها خلفاً عن سلف!.

حينما فطر الله البشر - كما يقولون - جعل الإنسان في غير حاجة للعمل والسعي!. فما تعوزه دار يؤوي إليها ولا ثياب يلقيها على جسده يتقي بها لفحة الحر ونفحة القر. . . بل ما كانت تضطرب في نفسه رغبة إلى طعام ولا شراب!. فامتدت بهم الحياة مئات من السنين. . لا يعرف المرض إليهم سبيلا. .

فلما تجلي (الله) تعالى على الكون - بعد أن تصرمت حقب ودهور - لينظر خلقه كيف يعيشون. . ألفاهم - وقد حسب أن السعادة ضاربة بينهم إطنابها - يتشاجرون ويتضاربون. وراح كل منهم يعني بنفسه دون رعاية لأخيه. . فساءت حالهم وفسدت دنياهم وحاق الشر بهم. . .

فحدث (الله) نفسه، وهو يتدبر صلاحية لهذه الحال: (إن الذي أوردهم هذا المصير تفرقهم، وعيش كل منهم على حدة!) فهيا الله أمور الحياة، وجعل من المستحيل على الإنسان أن يحيا دون أن يجد ويعمل!

فسخر عليهم الحر والبرد حتى يسعوا في طلب الملبس وبناء المسكن!. وسلط عليهم الجوع حتى يفلحوا الأرض ويبرزوها ما ركزت فيها الطبيعة من خيرات ورزق ويخرجوا منها الثمرات فيتخذوا فيها غذاء لهم. . .

وانثنى (الله) يفكر: (إن العمل سوف يوحد بينهم ويجمع شملهم، فلن يستطيعوا كل منهم أن يعتمد على نفسه في صنع آلته وحمل أخشابه وبناء داره وغرس حقله وجني محصوله ونسج ثيابه بعد غزلها. . . وتهيئة طعامه!. أن ذلك سوف يجعلهم يدركون إنه ما دام الإخلاص سيدهم والود رائدهم في تعاونهم على العمل!. فسيضاعف الله ما يأتيهم به من الخير والنعم. ويعيشون في رغد وبلهنية. . . سوف يزيد ذلك من وحدتهم وتضامنهم في الحياة!. . .)

دارت عجلة الزمن، وتقضت الدهور سراعاً بعضها أثر بعض. . . وعاد (الله) يقلب النظر في صارت إليه حال الخلق. . . ويري أن كانوا في عيشتهم سعداء أم ما برح الشقاء ينغص حياتهم. . . فوجدهم في حال اشد سوء مما كانوا عليه. . . فقد أقاموا يعملون معا - كما أرادهم (الله) فليس لهم من سبيل في الحياة غير ذلك - بيد أنهم تفرقوا شيعاً وأحزاباً وانقسموا على أنفسهم جماعات تحاول كل منها أن تحرم غيرها من العمل وتعوقها عنه حتى تنفرد به وحدها!.

فراحوا يهدرون أوقاتهم في نزاع لا نفع فيه وينهكون قواهم في صراع لا طائل منه. . فاضطربت أمورهم واختلت حالهم!. .

فلما رأي (الله) ذلك السوء الذي انحدرت إليه حال الخلق عزم على أن يهيئ أمور الحياة بحيث أن المرء لا يلم بالحين الذي توافيه منيته فيه. فيفاجئه الموت على غرة منه في أية لحظة. ثم أوحي بذلك إلى الخلق. . وقال يحدث نفسه:

(إذا علم كل منهم أن الموت سوف يخترمه في أي حين. . داخلت قلبه الخشية، وأشفق أن يضيع ساعات العمر في شغب وعراك لا يرتد بفائدة عليه!.) فلما آب (الله) - بعد أن طويت صفحات كثيرة من الزمن - ليراجع النظر في أمور الخلق، وكيف يعيشون. . ساءه أن يري الشر قد اتسعت هوته وأستفحل شأنه! فقد أفاد هؤلاء الذين وهبتهم الطبيعة قوة جبروتاً من الحقيقة الأبدية التي سنها الله للبشر، إلا وهي أن الإنسان عرضة للموت في أي حين. فسخروا أولئك الضعفاء وسلطوا عليهم نقمتهم، فقتلوا منهم كثيرين وراحوا يهددون الآخرين بالموت. .

اصبح هؤلاء الأقوياء ينعمون وذريتهم دون أن يعلموا شيئاً. . ثم ما لبثت السآمة إلى نفوسهم من البطالة والعطل أما أولئك الضعفاء فلا يبرحون يعملون فوق طوقهم ويتلمسون شيئاً من الراحة فلا يدونها ويتنسمون ريح السكينة فلا يصادفونها. . .

فأخذ كل فريق يضج بالشكوى ويحمل ألوانا من البغضاء وصنوفا من الحقد للفريق الآخر. . فازدادت الحياة سوء على سوء وتتابع الشقاء شرا أثر شر!.

فلما أحاط (الله) علما بما حاق بالخلق، عقد العزم على أن يراب الصدع ويقيم الأود. . فأخذ يتلمس وسيلة أخرى لذلك. . فلم يلبث أن سلط عليهم الأمراض والعلل. . وجعلها تشيع بين الناس فلا تذر واحداً منهم!. .

وظن (الله) أن البشر إذا ما أعتقد كل منهم إنه عرضة لأن يخر صريع المرض ضجيع الفراش، فلسوف يدركون ما على الأصحاء من واجب الرحمة والعطف، ومد يد المعاونة إلى من برحت بهم العلة وأشتد عليهم السقم!. وحينئذ يلقون من جانب الآخرين شفقة ورحمة وعوناً.! ومضي (الله)!

حتى إذا عاد لينظر حال الخلق، وقد تفشى بينهم المرض. . رأى أن السوء قد أستفحل أمره واستشرى شره. . فامرض - وقد ظنه (الله) جامعاً لهم موحداً بينهم - أدى إلى تفرقهم وتنافر بعضهم. .

فأولئك الأقوياء الذين يسخرون غيرهم من الضعفاء في العمل اضطروهم أيضاً إلى رعايتهم والعناية بهم حينما تنشب فيهم العلة أظفارها!. . بيد أنهم لا يسعون إلى معاونة الضعفاء إذا ما مرضوا بل يبالغوا في إرهاقهم، فلا يتيحون لهم فترة من الراحة للعلاج والشفاء!.

وجعلوا لهم بيوتاً حقيرة في عزلة عنهم، يعاني فيها هؤلاء الضعفاء سكرات الموت، ويلفظون بين جدرانها أنفاسهم الأخيرة بعيداً عن القوم المنعمين، حتى لا يكدر منظر هذه المجموع التعسة الشقية - وقد أصابها المرض - متعة الأثرياء وبهجتهم!. . . وحتى لا تتسلل إلى أجسادهم العدوى من هؤلاء المرضي المكروبين. .

فقال (الآله) يحدث نفسه - وقد نفض يديه من أمور الخلق (إن كانت هذه طرائق والأسباب لا تجعل من البشر من يفطن إلى مستقر سعادته. . فلندعهم يدركونها من بعدد ما يعنون منها ما يعانون!.)

وخلى الله بين الناس وبين أنفسهم!.

عاش الناس حقباً طوالاً في بلاء مع أنفسهم، قبل أن يدركوا إنه ينبغي عليهم أن يكونوا جميعاً سعداء. . .

ففي القرون الأخيرة تجلي الخلق عن فئة من البشر. .

يعلمون حق العلم إنه يجب إلا يكون العمل كشبح مخيف لبعض الناس، وكغنيمة خالصة للبعض الآخر. . . بل يجب أن يكون مدعاة للتعاون لصالحهم، ومبعثاً لخيرهم وأسعادهم، وسبيلاً لوحدتهم وتضامنهم!. .

ويعلمون أن الموت، وهو سيف مسلط على قارب العباد في غير ميعاد!. . لا يلائمه إلا العمل الحكيم، فواجب كل إنسان أن يستفيد من سنوات حياته وأيامها وساعاتها بل ولحظاتها التي يوهب إياها. . فيبذلها في الخير والحب والتأليف بين القلوب!

ويعرفون أيضاً أن المرض - بدلا من أن يكون سبباً للتفرقة وأداة للتنافر بين الناس - يجب - على الضد من ذلك أن يؤدي إلى تهيئة المجال للمحبة والمودة، والتعاطف والإيناس. . .

(طنطا)

مصطفي جميل مرسى