مجلة الرسالة/العدد 734/صفحة سوداء:
مجلة الرسالة/العدد 734/صفحة سوداء:
الاستعمار الهولندي يعتدي على جمهورية إندونيسيا الجرة
للأستاذ أحمد رمزي بك
قضى الأمر ووقعت الواقعة، وسالت الدماء في ربوع إندونيسيا بعد أن خيل إلى كثيرين أن دعائم الاستقلال قد وطدت وأن أعلام الحرية قد رفعت فإذا نحن بعيدون عن ذلك اليوم وناسف مرة أخرى أن يقع بعض ما تنبأنا به، فقد جهزنا بالقول: أن الدول الاستعمارية أشد اليوم تمسكا بسلطانها من أي وقت مضى، وإنها تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها لكي تتم أهبتها وتستعيد قوتها ثم تضرب الشعوب القائمة ضربات حاسمة؛ وأن أوروبا تنتظر حتى تضمد جراحها وتجمع شملها وسيكون لها مع الأمم الناهضة موقف جديد. فعلينا أن نستعد لذلك اليوم.
وفي حديث طويل مع ويلكي الأمريكي الذي جاب العالم والتقيت به في منزل قنصل أميركا حينما أتى بيروت صارحته بما أعتقد وقلت له: أن كيان الدول الصغيرة واستقلالها مثل بلجيكا وهولندا والبرتغال يستندان على المستعمرات، وأن اليوم الذي تنال فيه الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها، شيئا من الحكم الذاتي أو التمتع ببعض ما يتمتع به الإنسان في القرن العشرين من حرية واستقلال ونهضة، تزول فيه هذه الدول الصغيرة من الوجود وتصبح أما ولآيات أو مدنا ساحلية، لأن بقاءها يعتمد على حكمها للمستعمرات واستغلالها لأرضيها وتحكمها واستبدادها بملايين من عباد الله، فهل في نظام العالم الجديد ما يسمح بتحقيق هذه الأهداف؟ فلم أسمع جواب من الزعيم الأمريكي.
ولقد مضت سنوات على هذا اللقاء وانتهى عهد روزفلت وويلكي وهما في مقدمة الرجال العالميين الذين سيذكرهم هذا الكوكب المسمى بالأرض، لأجيال قادمة وتبدلت في أثنائها شؤون الكون وتغيرت انهارت مبادئ وأفكار وأراء وأنظمة بنيت على الطغيان والجبروت، ولكن مظاهر الطغيان والجبروت لا تزال قائمة وطيدة الأركان في بقاء هذه الدول الصغيرة تحكم الإمبراطوريات الضخمة وتتحكم في مصير الشعوب المظلومة، واغرب المتناقضات وابلغه بروزا هو أن العالم الذي قام يحارب الطغيان والظلم يقر بحق هذه الدول الصغيرة ويعترف بسيادتها على هذه البقاع ولم يقف ليحول دون تعديها. لماذا؟ لأن مثل هولندا كمثل الطفل المدلل وسط الديمقراطيات الكبرى لأسباب كثيرة وعوامل متعددة سوف نكشف الغطاء عنها. مثلها كمثل الطفل المدلل الذي لا يعجبه شئ؛ فهو لا يرضى بما يقدمه إليه أميركا وبريطانيا من مزايا هو لا يعجبه الحيوان الأليف يلهو به ويلعب لأن جمعيات الرفق بالحيوان تخيف الدولتين إذا ما عذب الحيوان الأليف، أما إذا عذب الإنسان فليس هناك جمعيات تثور وتحتج.
هذا الطفل المدلل لا يرضى أن يلعب بالدبابات والأسلحة ومدافع التومي إلا إذا كانت حقيقة وهو لا يجمعها من الديمقراطيات ليلهو بها ويلعب أو ليضعها في متحف الأسلحة. هو بطل صغير يرضيه شئ واحد هو التحكم والسيطرة على ثمانين مليونا هم سكان إندونيسيا يريد استعبادها واستغلال أراضيهم. أما هذه الأسلحة فليست ليلعب بها الطفل المدلل أو يستعملها للزينة والصيد والقنص وإنما يسره ويضحكه ويسليه أن توجه هذه الأسلحة إلى قلوب أهل إندونيسيا ليفنى جموعهم ويجعل منهم يوم نادوا باستقلالهم، عبرة لمن اعتبر.
هذا الطفل المدلل على الديمقراطيات لم يجد من يقف أمام عبثه ولعبه، لم يجد من يمنع جنوده وطائراته من المرور، ولا من يمنع مدرعاته وسفنه المحملة بالعتاد من الوقوف في البحر، فلماذا لا يحارب؟ ولم لا يفرض إرادته على جاوة وسومطرة وبقية جزر الهند الشرقية؟ هذا ما تنبأنا به من قبل ولكن هنا يبرز الإسلام في هذه البقاع كقوة مقاتلة مكافحة لا تلين ما اتعس الاستعمار ورجاله حينما يواجهونه تفنى حيلهم وعلومهم وقوتهم أمام هذه الصخرة التي لا تلين. وسنرى من جهاد أهل إندونيسيا صفحة من الجهاد والكفاح في سبيل العقيدة يبرز فيها ما يجمع بين الموت والبطولة وهما اعظم ما أخرجته النفس البشرية في هذا الكون واعظم ما ورثه الإسلام أهله من عظمة وجمال من يوم أشرقت شمس الرسالة المحمدية.
فتحية منا إلى الشهداء الذين سقطوا في ميدان الحق أنهم الطليعة الأولى الذين ستتبعهم الجموع، إذ بموتهم واستشهادهم سيكون الخير كل الخير، لا للعالم الإسلامي وحده، بل سيضربون بموتهم مثلا خالدا للعالم كله ولشعوبه التي تئن تحت الظلم والطغيان. أننا ننحني أمام هذه الطليعة ونحي الدماء التي سفكت في سبيل الحق، ونصلي صلاة الغائب عليها في مساجدنا الجامعة ونهتف من أعماق القلوب ونقول أنها حية إلى الأبد في قلوبنا.
وغريب أمر المستعمرين أنهم شر ذمة واحدة تسير على خطوات منظمة. أنظر إلى القائد الذي يقول لجنوده: (أنكم لا تعادون الشعب الأندنيسي، بل تعملون على تحريره من الطغيان والإرهاب) أنه نبوليوني التفكير، لأن السر عسكر بونابرت خاطب جنوده بهذا الأسلوب وخاطب أهل الإسكندرية ولم يمنع هذا التحرير من الظلم أن أصاب مصر ما أصابها على أيدي جنوده ولا يزال لدينا مائة وثمانون أثرا إسلاميا وسدا خرابا من هدم جنوده غير الدماء التي سفكوها والحرم انتهكت على أيديهم.
ضع هذا التصريح بجانب منشور الطليان حينما دخلوا طرابلس وحينما بدأ بادوليو وجراتزياني حملاتهما على أهالي برقة وليبيا، وتساءل هل كان القتل والتشريد وإفناء السكان إلا لتحريرهم؟ أنهم شر ذمة واحدة تسير عل خطوات منظمة: لله درهم! ولكن مضى الوقت الذي كان يصدق فيه الناس هذه الأقوال.
أن أنظار العالم بأكمله تتجه اليوم إلى إندونيسيا وكفاحها وهو لا شك كفاح مجيد وسوف تتحطم مرة أخرى أصنام الطغيان وتبرز في العالم القيم الحقيقة المستمدة من روح الشعوب المجاهدة مهما لاقى الأحرار من عنت.
أنني احبكم من صميم قلبي أيها الزملاء في القتال، أيها الرفاق في السلاح، أنكم بمعارك اليوم وبأقدامكم وضحاياكم تفتحون طريق الحياة لعالم الجديد، فطوبى لكم!
أحمد رمزي