مجلة الرسالة/العدد 734/صورة مشهودة:

مجلة الرسالة/العدد 734/صورة مشهودة:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 07 - 1947



من صميم الواقع. . .

للأستاذ محمد سليم الرشدان

عرفت أدبيا ذائع الصيت، طوف في بعيد الأقطار وقريبها، فأفاد من ذلك علما في خلائق الناس، إلى جانب ما هو عليه من سعة اطلاع ورجاحة عقل. وعرفته كذلك عصاميا ابن نفسه، لم يعتمد على مال يسنده ولا جاه يرفده فخاض ميدان الحياة دائبا صابرا، وانتهى إلى ما احب دون ما صخب أو جلبة، ودون أن يظهر عليه اثر من خيلاء الفوز ببلوغ الغاية.

وعرفته إلى جانب ذلك كله مؤمنا - مفرط الإيمان - في مبادئ اختطها لنفسه، ومقاييس وقف عندها لا يعدوها مهما يحوطه من ظروف وربما خطر لي أن أتهمه بأنه يحمل ذلك عن طريق تربيته الأولى فهي أصداء تتجاوب في قرارة نفسه، ولعله لا يقوى على دفعها ومغالبتها بل ربما ضاق بها أحيانا في إحدى هذه الفترات التي أبصره فيها ساهما واجما كأنما هو يلمس مكانها من نفسه (كلما عاد إلى تلك النفس) فيقف عند حدود ما اتهمه به! وهو مع ذلك لا يتنكر لها، ولا يتبرم بملازمتها، حين يرى هذا الإجماع من إخوانه وأخدانه على استهجانها واستثقال ظلها، في هذا الزمن الذي تغيرت فيه مقاييس الناس واعتباراتهم!.

أجل، كذلك عرفته منذ كشف لي عن دخيلة هذه النفس الغامضة، وطالما سمعته يتحدث إلى بصوته الخفيض كلما جلسنا على انفراد، فيقول: أتدري - ويحك - من هي فتاة أحلامي التي لم أجد لها شبيها منذ شرعت ابحث عنها؟! فابتسم في وجهه وأنا اعلم من هي، فقد حثني عنها طويلا - وأن اختلفت أساليب حديثه - ولكني لم أجد أبداً من أن استرسل في مجاملته فأقول: ومن أين لي أن أدري - يا حفظك الله - من تكون! فتبدوا على محياة سمات الرضوان لهذا (الجهل) الذي سيمكن له من أن يطيل في الوصف ما شاء خياله الجامح، ويقول: أنها - يا أخي - فتاة قد أصابت حظا من العلم، يكفى لأن يجعل منها أما صالحة وقد تقول أن هذا أمر ميسور يتفق فيه الفتيات جميعا! غير أن فتاتي يجب أن تكون إلى جانب ذلك، ربيبة بيت ما يزال يتفيأ ظلال الدين والتقوى، ويتقلب ذووه على مهاد وثير من الفضيلة والخلق العربي الكريم. ولابد من هذه الأخلاق وأتحسس مدى رجولت وأنفتهم. فأنا مؤمن بالقول المأثور: (تكاد المرأة تلد أخاها. .) ولا يعزب عنك بأنني شديد الحرص على أن يكون هذا (الخال) الذي أتخيره لابني موضع اعتزازه حين ينصرف إلى أترابه ولداته. ولست أبالي من هذه الفتاة بعد ذلك أن تكون كيف شاءت فحسبي أن تستوفي جمال النفس وجمال الحق، فتجمع الكمال من أطرافه علم تزينه الفضيلة، وخلق يجمله النظام والتدبير. وهل سعادة العيش إلا بذلك؟!

ولا اعتراض ما يقول فطالما ألفيته شديد الغيرة على هذه الصورة الجميلة التي رسمها في خياله وحاطها بسياج من أحلامه الذهبية. وما أزيد على أن أقول: وأين تراك واجدا هذا؟ وهل تظن هذه المتعلمة ستضع نقابا على عينيها فلا تبصر من آثار هذه المجلات الداعرة التي تعرض عليها ألواناً شتى من ضروب العبث في كل أسبوع، وتريها مختلف الأوضاع في التبرج والعرى! ثم هي أن زارت (دار الخيالة) ولو لمأما، أفلا تظنها تقتبس منها ما يشوه عليك هذه الصورة الشعرية الفاتنة؟! ولا يكون من صديقي إلا أن يحدجني بنظرة ملؤها الإنكار وهو يقول: ستكون حيث وصف لك ما دمت قد نشأت في ذلك البيت الذي عينته.

هذا الحديث لم يكن جديدا على من ذلك الصديق، ولكن الذي كان جديدا أن أراه قد أقبل علي يوما وجهه يتهلل بشرا ويتدفق سرورا وهو يبادرني قائلا: لم أقل لك أنك تسرف في تشاؤمك حين تزعم أن الذي ابحث عنه ليس في عالم الحقيقة؟! لقد وجدتها على ما خيلت ووصفت وكأنما كنت استلهم الغيب حين تحدثت لك عنها فما تزيدت فيما قلب شيئا!! بالله ما عجب!! أتظن ذلك من ضروب المصادفة وليس غير!؟.

ولا يكون مني إلا أن أشاطر هذا الصديق سروره حين اعلم أنه تقدم فطلب يدها، ثم أجابه إلى ما طلب ذلك الصهر الذي لم يدع صفة من صفات الكمال إلا نسبها إليه، ومما حدثني به عنه أن قال: ليتك كنت معي، فتسمع إلى رجل يحدثك بقلبه ولسانه (وقليل ما أولئك)، تراه وأبناءه جميعا يلبون داعي الله إذا نودي للصلاة في أوقاتها، فيتسابقون إليها من صغير وكبير!! ثم أنهم لا يصيبون من طعام أو شراب، ولا يأتون عملا صغر أم كبر، إلا متأدبين بآداب الإسلام مقتفين سنة نبيه الكريم!! وما لك لا تراه نسيج وحده بين أهل هذا الزمان، حين اقسم لك جاهدا: أنني رأيته يدعو أبناءه ليتعطروا قبل الصلاة من يوم الجمعة، بعد أن يأخذوا زينتهم يأتسون بالنبي فيما كان يصنع. أرأيت!! بل أني لك أن تكون رأيت أحداً من مثله؟!

وقال صديقي متحدثا عن هذا الصهر التقي كذلك: وقد أحببت - يا أخي - أن احتاط للأمر فحدثته أنني رجل كثير الخصوم، وأن كنت لا اعرف معظمهم!! فهم يخاصمونني لوجه الشيطان! وينتقصونني بما يفثأ سخيمة نفوسهم المضطرمة حسدا وغلا. . فقال الرجل النبيل: وهذا مما يزيد قدرك في نفوسنا! فذو العلم والفضل محسود من صغار النفوس، يتلمسون له العيوب ليجذبوه إلى حضيضهم الذي تردوا إليه، ورضاء الناس غاية لا تدرك. . .

فقلت - منشرحا لما أصاب صديقي من نعمة الاستقرار - إذن بوسعي أن أقول مع الشاعر:

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر

قال أجل. بوسعك بوسعك! وأنني منصرف إلى أهلي أزف إليهم البشرى. .

وانقضت أيام بعد ذلك. ثم لقيت هذا الصديق (مصادفة) في ندى، فإذا هو قد غاض من وجهه ذلك البشر، وإذا هو ساهم مطرق حائر. فقلت له: ويحك ماذا ألم بك؟ ألم تعثر على ضالتك المنشودة؟ فماذا ترتقب بعد ذلك!! قال لا ارتقب شيئا، فقد أضللتها ثانية، ولن أنشدها (من هذا السبيل) بعد اليوم!! قلب وكيف؟ لعلك انتهيت إلى غاية غير التي توخيت؟! قال اجل انتهيت إلى شر غاية! وأن كنت تعدني بأن لا تجادلني بسبب ما صرت إليه فيما أحدثك به حدثتك. قلت أعدك! قال: فاعلم إذن أن الرجل قد نكث العهد وخاس بالوعد!! قلت: التقي النقي (بقية السلف الصالح) كما قلت؟! قال: إياه عنيت وكأن هذا بعد أن أذعت الخبر في أهلي، ولقيت العنت في ارضائهم، ورد ما يعترضون به على!! واعلم أنني من جراء ذلك تنازلت عن يقين طالما حرصت عليه اشد الحرص، وهو الإنكار على (أبي العلاء المعري) مدلول بيت من أبياته، وأنا - بعد اليوم - ممن يرون رأيه. فلا عجب أن سمعتني اردد بلسان الإيمان قائلا ما يقوله عن يقين وتجربة، (وحسبك بالمجرب من عليم!!. . .).

وهنا ألفيت مدخلا عليه، فإذا أنا اطمئن في جلستي، استعدادا لجال طويل، وذلك على نحو مما تعودت أن اصنع معه حين أجادله. ولكنه أدرك ما عزمت عليه، فإذا هو يبادرني بقوله: ماذا؟ أنسيت ما اشترطت عليك؟!

وما نسيت، ولكني أحببت أن أتأول، فلا تفوتني لذة المناقشة في هذا التقلب الذي صار إليه، فقلت: أنني لم أنس، غير أني. . . فقال مقاطعا حانقا: ولا هذه (الغير) تجوز لك، فأنته عند حدودها قبل أن توغل!!

فعز علي أن أضيف إلى ما انتهى إليه سوء العشرة، فقلت: افعل!

وانتهيت كما حب. وفي النفس حاجات. . . .

(القدس)

محمد سليم الرشدان

ماجستير في الآداب واللغات السامية